قراءة سيميائية معمّقة لشعر الحلاج

الفكر لا يقارع إلّا بالفكر وليس بالتسقيط والقتل والتمثيل، وإذا جرى اختلاف مع أحد في رأي أو عقيدة فالدليل والمنطق هما السبيل الوحيد لمجابهته. وقد أباح لنا الله تعالى حرية المعتقد فقال في محكم كتابه العزيز (لا إكراه في الدين). لكن أن يتم قتل أحد بطريقة بشعة مثلما جرى مع الحلاج شيء يفوق الوصف ولا يرضاه عقل أو دين حيث أخرج ذو الخمسة والستين عاما في بغداد فتمّ جلده حوالى ألف سوط فلما لم يمت قطعت يده ثم رجله ثم رجله الأخرى ثم يده ثم ضربت عنقه وأحرقت جثته وذرّي رمادها في الفرات وقبل ذلك نصب رأسه بجواريديه ورجليه على سور السجن ليكون عبرة للناس.

ونقل انه قبل أن يعدم صلّى ركعتين فقرأ في الاولى فاتحه الكتاب ثم (و لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع) وفي الثانيه فاتحه الكتاب (كل نفس ذائقه الموت). ذلك هو الحسين بن منصور بن محمى أبو مغيث، وقيل‏ أبو عبد الله الحلاج. كان جدّه مجوسياً اسمه محمى من أهل فارس من بلدة يقال لها‏ (البيضاء) ولد سنة 244 هـ وتوفي 309 هـ. نشأ بواسط، ويقال‏ بتستر، ثم دخل بغداد وتردد إلى مكة وجاور بها وسط المسجد في البرد والحر. مكث على ذلك سنوات متفرقة، وكان يصابر نفسه ويجاهدها، ولا يجلس إلا تحت السماء وسط المسجد الحرام، ولا يأكل إلا بعض الخبز ويشرب قليلاً من الماء وقت الفطور مدة سنة كاملة‏. وقد نقل في ترجمته أيضا أنه كان يجلس على صخرة في شدة الحر بجبل أبي قبيس، كما صحب جماعة من سادات المشايخ الصوفية، كالجنيد البغدادي وعمرو بن عثمان المكي وأبي الحسين النوري‏، كما في (البداية والنهاية).‏

وفي سبب تسميته (الحلاج) قيل إنه قال لحلاج‏‏ اذهب لي في حاجة كذا وكذا‏. فقال له‏ إني مشغول بالحلج‏. فقال‏ اذهب وأنا أحلج عنك. فذهب ورجع سريعاً فإذا جميع ما في ذلك المخزن قد حلجه، وعلى ما يحكى بين العامة أنه أشار بالمرود فامتاز الحب عن القطن. وقيل أيضا أنه سمّي بالحلاج لأن أباه كان حلاجاً‏.‏

يعد الحلاج من أكثر الشخصيات الصوفية اختلافا عليه. فقد نفى أكثر المتصوفة انتسابه إليهم، فيما قال عنه آخرون إنه عالم رباني كما قيل أيضا (إن كان بعد النبيين والصديقين موحّد فهو الحلاج).

وورد عن الخطيب البغدادي‏ ان الذين نفوه من الصوفية نسبوه إلى الشعبذة في فعله وإلى الزندقة في عقيدته. لكن الأمر الذي يثير الاستغراب ان هذه الشخصية المتفردة ما زال الاختلاف عليها قائما ليومنا هذا.

وعلى أية حال فالحلاج  شاعر صوفي من شعراء الدولة العباسية ومن روّاد أعلام التصوّف في العالمين العربي والإسلامي. وتتجلى قمة الخلاف حول شخصيته رمزيته السيميائية التي تشترك ما بين الشعبذة والتصوّف والتي امتلك الحلاج من ورائها جمعا غفيرا من الأتباع والمريدين قبل ان ان يكتسب أعداءه بعد التورط في صراعات السلطة التي قضى على إثرها مدة طويلة في الحبس ثم أعدم.

يقول المستشرق ماسنيون بمقدمة كتاب (الطواسين) (ليس هناك من متصوّفٍ في التاريخ أكثر عِشرة مع الله من الحلَّاج الذي يتصل في حديثه معه بأنا وأنت ونحن وليس هناك من شعرٍ صوفيٍّ أشدَّ حرارةً وأكثر بعدًا عن المادة من شعر الحلَّاج).

ومن أكثر أبيات الحلاج وضوحا في معاني الاتحاد مع الخالق كما كان يرى، قوله:

أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا

نَحنُ روحانِ حَللَنا بَدَنا

نَحنُ مُذ كُنّا عَلى عَهدِ الهَوى

تُضرَبُ الأَمثالُ لِلناسِ بِنا

فَإِذا أَبصَرتَني أَبصَرتَهُ

وَإِذا أَبصَرتَهُ أَبصَرتَنا

أَيُّها السائِلُ عَن قِصَّتِنا

لَو تَرانا لَم تُفَرِّق بَينَنا

روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ

مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا

بل لقد كان يقول هو عن منهج سلوكه (إنَّ الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافًا للعبد السالك، وهو بعدٌ في السلوك غير واصل…. ومن صدق مع الله في أحواله فهِم عنه كل شيء).

وكان الحلاج يرى التصوّف على انه انتساب العبد لربّه لا للعالم المادي الحيواني. وعليه يجب عليه ان يسافر الى خالقه سفرا ربانيا طويلا هائلا لا يقدر عليه إلا من كانت همّته عالية. هذا السفر تفنى فيه الصفات الحيوانية البشرية في طاعة الله وعبوديته ثم يسود الوجد والحب والشوق كل أرجاء الروح خلال أربع رحلات؛ الأولى تبدأ بالمعرفة وتنتهي بالفناء، والثانية بالأنوار حيث يعقب الفناء البقاء، والثالثة بالتوجه الكامل لمخلوقات الله في الهدي والإرشاد، والرابعة بالتحليق في آفاق الصفات الربانية والأنوار الالهية حتى يصبح العبد مرآة لربّه. إلا ان الفاصل في المختلف عليه كما يقول ابن عربي انه في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم إلى غيرهم، وغاية ما فيه هو (الرمز) لتلك الظواهر، وهو ما نراه جليّا بأشعار الحلاج التي هي مليئة بالرموز والإشارات.

يقول الحلاج في إشارة من إشاراته الرمزية:

أريدك لا أريدك للثواب  ولكنّي أريدك للعقاب

وكلّ مآربي قد نلت منها  سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

يقول ابن عطاء هذا ما تزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف واحتراق الأسف فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب وهاطل من الحق دائم سكب‏.

بل ان الرمزية في شعره وصلت الى حدّ اتهمه الكثير عليها بالكفر والزندقة منها قوله:

سُبحانَ مَن أَظهَرَ ناسوتهُ

سِرَّ سَنا لا هَوَتهِ الثاقِبِ

ثُمَّ بَدا في خَلقِهِ ظاهِراً

في صورَةِ الآكِلِ وَالشارِبِ

حَتّى لَقَد عايَنَهُ خَلقُهُ

كَلَحظَةِ الحاجِبِ بِالحاجِبِ

(قال ابن خفيف‏:‏ على من يقول هذا لعنه الله‏؟)

وقوله ايضا في مبدأ الاتحاد:

أَأَنتَ أَم أَنا هَذا في إِلَهَينِ

حاشاكَ حاشاكَ مِن إِثباتِ اِثنَينِ

هُوِيَّةٌ لَكَ في لائِيَّتي أَبَداً

كُلّي عَلى الكُلِّ تَلبيسُ بِوَجهَينِ

فَأَينَ ذاتُكَ عَنّي حَيثُ كُنتُ أرى

فَقَد تَبَيَّنَ ذاتي حَيثُ لا أَيني

فَأَينَ وَجهُكَ مَقصوداً بِناظِرَتي

في باطِنِ القَلبِ أَم في ناظِرِ العَينِ

بَيني وَبَينَكَ إِنِيٌّ يُنازِعُني

فَاِرفَع بِلُطفِكَ إِنِيِّ مِنَ البَينِ

وقد ورد عن أبي الفرج بن الجوزي:‏ ان الحلاج كان متلوناً فتارة يلبس المسوح وتارة الدراعة وأخرى يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم؛‏ ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسمّيها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال‏ إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتاً لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك‏. فلما بلغ ذلك الحلاج تحوّل من الأهواز.

غير ان الحلاج كان ينفي هذه التهم عنه وقد ورد في شعره ما يوضح هذا المعنى منه قوله:

الله يعلم ما في النفس جارحة

 إلا وذكرك فيها نيل ما فيها

ولا تنفستُ إلا كنتَ في نفسي

 تجري بك الروح مني في مجاريها

إذ كانت العين مذ فارقتها نظرت

 إلى سواك فخانتها مآقيها

أو كانت النفس بعد البعد آلفةً

خلفًا عداك فلا نالت أمانيها

‏ومن أجمل ما نقل من لحظات الحلاج الابداعية العرفانيه عن الحسين بن حمدان قوله:  دخلت على الحلَّاج يومًا فقلت له: أريد أن أطلب الله فأين أطلبه؟ فاحمرّت وجنتاه وقال (الحق تعالى على الأين والمكان وتفرّد عن الوقت والزمان وتنزّه عن القلب والجنان واحتجب عن الكشف والبيان وتقدَّس عن إدراك العيون وعما تحيط به أوهام الظنون، تفرّد عن الخلق بالقِدم كما تفرّدوا عنه بالحدوث، فمن كانت هذه صفته كيف يُطلب السبيل إليه؟!) ثم بكى وقال:

فقلت أخلَّائي هي الشمس ضوؤها

قريبٌ  ولكن  في  تناولها  بعد

ومن المهم أن نذكر ان الإشكالات الرمزية تتخذ أبعادا مختلفة في الذوق البشري كونها من المشتركات السيميائية الماورائية فالغيب محورها والالفاظ أدواتها ولأننا نعيش بعالم تحكمه القوالب المادية لا سبيل لنا لمعرفة سرّ هذه الرموز. ولكن تبقى هذه الرمزية في شعر الحلاج كذائقة أدبية ساحرة وجميلة ومليئة بالأحاسيس والصور والألفاظ التي تمثل الوجد واللقاء والذوبان والحب والعشق والمتعة في تحمل العذاب وهذا من أغرب التصوير الشعري.

يقول الحلاج في ذلك:

وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت

إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي

وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم

إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي

وَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاً

إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسي

وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ

إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ

وَلَو قَدَرتُ عَلى الإِتيانِ جِئتُكُم

سَعياً عَلى الوَجهِ أَو مَشياً عَلى الرَأسِ

وَيا فَتى الحَيِّ إِن غَنّيتَ لي طَرَباً

فَغَنّنّي واسِفاً مِن قَلبِكَ القاسي

مالي وَلَلناسِ كَم يَلحونَني سَفَهاً

ديني لِنَفسي وَدينُ الناسِ لِلناسِ

بل أنه قال:

لبَّيكَ، لبَّيكَ يا سِرِّي ونَجْوائي

لبَّيك، لبَّيكَ يا قَصْدي ومَعنائي

أدْعوكَ بلْ أنت تَدْعوني إليك فهلْ

ناجَيتُ إيَّاك أمْ ناجيتَ إيَّائي

يا كُلَّ كُلِّي ويا سَمْعي ويا بَصَري

يا جُمْلَتي وتَباعِيضي وأجْزائي

يا كُلَّ كُلِّي وكلُّ الكلِّ مُلتبِسٌ

وكلُّ كلِّك مَلبوسٌ بمَعنائي

بل أنه يكثر من ذلك أيضا فيقول:

مُزِجَت رُوحُك في رُوحي كما

تُمزَجُ الخَمرةُ بالماءِ الزُّلالِ

فإذا مسَّكَ شَيءٌ مسَّني

فإذا أنتَ أنا في كلِّ حالِ

 ويجدر بنا أن نذكر ان الكثير من المستشرقين انبهروا بشخصية الحلاج رغم انها مختلف عليها منهم غولد تسيهر  المتوفى 1921 م؛ وهو مستشرق يهودي مجري كتب مادحا عن الحلاج وشرح طريقته الصوفية. علما ان الحلاج له عدد لا بأس به من الكتب والرسائل تركها لمريديه وأتباعه منها ديوانه الشعري (الطواسين) و (الحواميم) ومنها (التفسير الباطني) الذي جمع تحت عنوان (الاعمال الكاملة للحلاج) و(بستان المعرفة) و(أقوال ومرويات) و(أحاديث وروايات).

وإذا أردنا أن نفصّل القول فيه وجب علينا أن نستمع لقوله الشهير (ما تمذهبتُ بمذهبِ أحد من الأئمة جملةً، وإنما أخذتُ من كل مذهبٍ أصعبَه وأشدَّه، وأنا الآن على ذلك) لنعرف أنه لم ينكر أركان الإسلام ولكنه كان يرى ان التعبد بأي مذهب من المذاهب لا بأس فيه فهو صوفيّ سنّيّ شيعيّ قرمطي أي مذهب شاء. وعلينا أن لا نحاكمه لما أظهره من تضاد في ذلك وكل الذي علينا هو أن ندرس عباراته في سياقها مع سلوكه.

وإذا ما قرأنا أقوال المتصوفة والعرفانيين في طريقة السلوك الى الله تعالى كابن عربي مثلا في قوله بـ(وحدة الوجود) التي كانت سبب تكفيره. لوجدناها في الواقع قضايا رمزية شأنها شأن المتشابه والمحكم. فهناك ألفاظ في القرآن لا يمكن أن نأخذها على حقيقتها كيد الله ووجه وغير ذلك، فنؤولها الى القدرة والنفوذ وغيرها وهو في القرأن كثير. وهذا المبدأ أيضا وجد عند المتصوفة والعارفين الذين اهتموا بالجانب الغيبي من الحياة. لذا علينا أن نقرأ هذه السيميائية ضمن حدودها الرمزية ليس إلّا. وهذا يجنبنا التكفير والزندقة والتسقيط وحتى التعدّي بالقتل والأذى.