قصائد حرة وشعراء مقيّدون

السجن عقوبة معروفة ضاربة في القدم. لكن طرق تنظيمها وأساليبه ووسائله اختلفت عبر العصور تبعا لتطور الحضارات والمجتمعات؛ فقد عرفته حضارة بلاد ما بين النهرين. إذ يقول باحثو الآثار إن السومريين هم أول من وضعوا قوانين السجون والغرامة في العالم وفق لوح شبار الأثري الذي يعود لحضارة أور؛ والذي جرت ترجمته. كما نقل ان السجن في العصر الآشوري الحديث كان بناء کبير الحجم له أبواب متعددة وأسوار؛ وکان يحق للسجناء أرسال خطابات لإثبات براءاتهم وأن السواد الأعظم من السجناء كان بسبب تراکم ديونهم أو السرقة، وانه في حال فرار المتهم يتم القبض على أحد أقاربه لحين عودته. وقد عانى السجناء من تقييد أيديهم ووضعهم بأماکن ضيقة ومظلمة.

كما عرفه الفراعنة الذين أنشأوا سجونا لمعاقبة المدانين في مصر القديمة. وقد ثبت عنهم أنه أسسوا نظاما خاصا بالسجون. وهناك وثائق كثيرة تشير الى هذه الحقيقة، غير أن أصدق وثيقة هو القرآن الذي قصّ علينا سجن نبي الله يوسف عليه السلام.

ومن الأمم الأخرى التي اهتمت بالسجون اليونانيون القدماء الذين استخدموا المطامير؛ وهي قاعة بلا باب أو نافذة يرمى فيها المسجون من فتحة دائرية ضيقة موجودة في السقف. وبالإضافة الى الحبس الطويل والمحدد فقد عرف عنهم أنهم أول من استعمل الحبس الاحتياطي المشهور عندنا اليوم. ويذكر أن من أشهر من حبس في سجونهم الفيلسوف الكبير سقراط الذي حكم عليه بالموت بتهمة إفساد الشباب بسفسطته. كما عرفه الصينيون القدماء أيضا. ولا نغفل بلاد فارس التي عرفت بسجونها الكثيرة. فكان لكسرى أنوشيروان بيت كالقبر ظلمة وضيقا حبس فيه وزيره بزركمهر الحكيم وقيّده بالحديد. كما أن من أشهر من حبس في سجون الفرس النعمان بن المنذر الذي بقي في السجن حتى مات.

ولم يقتصر السجن على الحضارات العمودية فحسب، فقد عرفته الحضارات الأفقية أيضا، فهو عند العرب الذين كانوا يسجنون في بعض الأحيان بالخيام. وعلى العموم، السجن مفهوم إنساني عام لا يقتصر على حضارة دون أخرى.

وكتب التاريخ مليئة بقصص المسجونين من مشاهير ومغمورين ومن بينهم الشعراء العرب. الذين تباينت أسباب وضعهم فيها. إلّا ان ما يهمنا هو القصائد التي انطلقت من داخل السجون؛ وكيف أنتجت معيارا أدبيا جديدا لموضوعات الشعر وصوره ومعانيه.

ويبدو أن عنترة بن شداد كان نزيلا بأحد سجون النعمان بن المنذر ونجا منه بأعجوبة خلدها في شعره حيث قال:

ترى علمت عبيلة ما ألاقي    من الأهوال في أرض العراق

طغاني بالريا والمكر عمّـي    وجار عليّ في طلب الصداق

قطعت وريده بالسيف حزرا   وعدت إليه أحجل في وثاقي

وكان طرفة بن العبد مسجونا في البحرين بسجن لعمرو بن هند؛ ورد عنه قوله:

ألا اعتزليني اليوم يا خولة أو غضّي

فقد نزلت حدباء محكمة العــضّ

أبا منذر كانت غرورا صحيفتـي

ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي

وقريب منه ان الخليفة عمر بن الخطاب كان يستعين بالآبار المهجورة للحبس، وأن من أشهر من حبس فيها آنذاك من الشعراء الحطيئة الذي ناشده أن يخرجه منه في أبيات ذائعة الصيت قال فيها:

ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ

حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ

أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ

فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ

أَنتَ الأَمينُ الَّذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ

أَلقَت إِلَيكَ مَقاليدَ النُهى البَشَرُ

لَم يوثِروكَ بِها إِذ قَدَّموكَ لَها

لَكِن لِأَنفُسِهِم كانَت بِكَ الخِيَرُ

ومما يروى أيضا أن عبد الرحمن بن حنبل هجا الخليفة عثمان بن عفان لأنه أعطى مروان بن الحكم أكثر مما يستحق من فيء أفريقيا فأمر بحبسه بحصن يقال له القموص؛ وهو جبل بخيبر، فناشد عبد الرحمن علي بن أبي طالب عليه السلام أن يشفع له فيخلّصه من سجنه ففعل.

ومما نقل عن أخباره وهو في السجن وصفه لحاله وما كان يعانيه حيث قال:

إلى الله أشكو لا إلى الناس ما

عدا أبا حسن غلّا شديدا أكابــده

أإن قلت حقا أو نشدت أمانـة  قُتلت

فمن للحق إن مات ناشده

وكانت للإمام علي عليه السلام عناية خاصة بالمسجونين؛ فإذا حبس رجلا وكان له مال أنفق عليه من ماله فإن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت المال.

إن كان السجن في حقيقته بيتا تسلب فيه الحريات المادية؛ إلّا إنه قد يطلق العنان لملكات أخرى ربما لم يكن لها أن تنطلق لولاه. وهذا الأمر قد خلق لنا حالة أدبية رمزية متضادة، تتجلى بتحرير القصيدة رغم سجنية شاعرها. وهذه التوأمة الأدبية المتضادة (إن صح التعبير) خلقت في الواقع قوة غريبة لدى الشعراء المحبوسين؛ إذ فجّرت ملكاتهم وكشفت عن مكنون فنونهم وإبداعاتهم فباتت قصائدهم حرة رغم أنهم مقيّدون.

ولم يفسر هذه التوأمة المتضادة حقّ تفسيرها غير الشاعر المعروف أبو فراس الحمداني حيث قال في محبسه:

أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ

وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ

لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً

وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ

فهذه التوأمة الأدبية المتضادة الرائعة تثبت أن الموضوعات الأدبية إذا تداخلت مع بيئاتها تنتج إبداعا لا مثيل له.

ويمكن أن يكون الشاعر العباسي المعروف علي بن الجهم المشهور بالغزل نتاج هذه التوأمة أيضا؛ فرغم أن المتوكل حبسه لم يزده هذا الحبس إلّا همّة وإصرارا وصبرا على المحنة فيقول في أبيات تفوح منها عذوبة الألفاظ رغم قسوة معانيها:

قالت حُبِستَ فقلت ليس بضائرٍ  حبسي وأي مُهَندٍ لا يغمدُ

أوَ ما رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَه   كِبراً وأوباشُ السباعِ تَرَدَّدُ

والشمسُ لولا أنها محجوبةٌ   عن ناظريك لما أضاءَ الفرقدُ

والبدرُ يُدرِكُهُ السِّرار فتنجلي   أيامُهُ وكأنهُ متجدِّدُ

والنارُ في أحجارها مخبوءةٌ   لا تُصطَلَى إن لم تُثرها الأزنُدُ

والزاعبيةُ لا يقيم كُعوبَها   إلا الثقافُ وجَذوةٌ تتوقَّدُ

غِيَرُ الليالي بادئات عُوَّدٌ   والمال عاريةٌ يعادُ وينفَدُ

ولكل حالٍ مُعقِبٌ ولربما   أجلى لك المكروه عما يُحمَد

كم من عليلٍ قد تخطاهُ الردى  فَنَجَا ومات طبيبُه والعوَّدُ

والحبسُ ما لم تغشَهُ لدنيةٍ   شنعاءَ نعم المنزلُ المتَوَرَّدُ

بيتٌ يُجَددُ للكريم كرامةً   ويُزارُ فيه ولا يزورُ ويُحفَدُ

فقد شبه الشاعر نفسه بالسيف الذي لا بد أن يوضع في الغمد، وبالبدر الذي يخبو نوره ثم يتجدد؛ قائلا ان الأيام قد تأتي بشرّ داخله خير كثير.

وهذا ابن زيدون الشاعر المعروف الذي يشبه نفسه وهو بالسجن بالرياح التي تهدأ وتثور وبالشمس التي تشرق بعد الكسوف، حيث يقول:

لا يهنأ الشامتُ المرتاح خاطره

إني مُعنَّى الأماني ضائع الخطر

هل الرياح بنجم الأرض عاصفة

أم الكسوف لغير الشمس والقمر

إن طال في السجن إيداعي فلا عجب

قد يُودَع الجفنَ حدُّ الصارم الذَّكَرِ

ولا ننسى المتنبي وهو في سجنه يرسم صورة الشموخ والزهو قائلا ان السجن لم ينقص من قيمته شيئا؛ فهو مثل الأسد وإن اضطر لأكل الجيفة سيظل شامخا:

أَهوِن بِطولِ الثَواءِ وَالتَلَفِ
وَالسِجنِ وَالقَيدِ يا أَبا دُلَفِ
غَيرَ اِختِيارٍ قَبِلتُ بِرَّكَ بي
وَالجوعُ يُرضي الأُسودَ بِالجِيَفِ
كُن أَيُّها السِجنُ كَيفَ شِئتَ فَقَد
وَطَّنتُ لِلمَوتِ نَفسَ مُعتَرِفِ
لَو كانَ سُكنايَ فيكَ مَنقَصَةً
لَم يَكُنِ الدُرُّ ساكِنَ الصَدَفِ

حريّ بالقول إن هذه التوأمة المتضادة لم تكن حكرا على الشعراء القدامى، فقد نقل أن المحدثين أيضا وقعوا فيها؛ ومن بينهم الشاعر اليمني محمد الفسيل الذي كان يرى أن الحرية إنما تحيا في ظلام السجون حيث يقول :

من ظلام السجون ينبثق النـــور   وتحيا حرية الإنســان

هو نور كالنور يلتهم الظلـــم    ويلوي بالسجن والسجان

وكذلك سليمان العيسى الذي ناجى جذوة الإبداع وتعجب من صمودهما أمام ظلم العذاب والسجن فقال في الترفيل (الترفيل هو زيادة اثنين بآخر البحور التي تنتهي بثلاثة وتكون الإضافة على العجز دون الصدر إلا في حالة التصريع):

يا شعلة الوحي المقـدس أيها السـرّ الدفيـــن

يا جذوة الإبداع  تركـــــع عند ومضته المنـــون

يا نفحة الإلهام تعبـق كلّما خبت السنيـــن

يا فن  يا رعش الألوهـــــة في دمانــا يا جنون

هذي يدي  تتحسس الســــرّ العصـيّ وتستبــين

وتـدق معبدك الـرهيب يروعها الصمت الحزيـن

ما أنت كل عسيــرة لرضاك في الدنيا  تهون

مـا أنت تحرقنـــا وتخشع عند طلعتك العيون

ولغير مطرقة العذاب ونـارهـا لم لا تليـن

أتظلّ في الأعماق لغزا لا يحــل ولا يبيـن

أنا عند سرّك في الوجود ولست في قيدي سجين

وهذا محمود درويش يتحدى سجانيه أنهم كلما غلّظوا عليه زاده ذلك إصرارا، فان هم منعوا عنه الدفاتر كتب شعره ولو نحتا بالأظافر على جدران السجن، حيث يقول:

شدّوا وثاقي

 امنعوا عني الدفاتر… والسجائر

 وضعوا التراب على فمي

 فالشعر دمّ القلب… ملح الخبز … ماء العين يكتب بالأظافر

والمحاجر والخناجر

سأقولها في غرفة التوقيف

في الحمام .. تحت السوط.. تحت القيد.. في عنف السلاسل

مليون عصفور على أغصان قلبي يخلق اللحن المقاتلْ

وهو ما نراه مع حنا أبو حنا الذي يكشف عجز العدو عن حبس أناشيده فلم تزد القيود قصائده إلاّ عنفوانا فتحولت الى شواظ ونيران تأكل قيود السجن وتسقط السجانين، حيث يقول:

خسئوا فما حبسوا نشيدي

بل ألهبوا نار القصيد

نار تأجج  لا تكبّل بالسلاسل والقيود

نار جحيم للطغاة …وزمرة العسف المريد

شرف لشعري أن يقضّ مضاجع الخصم اللدود

فاعجب لشعر يستثير الرعب في مهج الحديد

أقوى من السجن المزنّر بالعساكر والسدود

أقوى وأصلب من حشود علوجهم أبدا نشيدي

ومن أروع الصور لهذه التوأمة أيضا ما رسمه أحمد الصافي النجفي من تحدّ وإصرار وثبات على موقفه حتى غدا الحبس عنده مجرد عقاب بسيط لأنه من أجل وطنه؛ حيث يقول:

ولما رأيت الجرم خدمة موطني   رأى كاهلي حمل الجبال خفيفا

وقلت عقاب الحبس دون جريمتي   فجرمي يرى هذا العقاب طفيفا

وقد ساءني ضعف العقاب لأنني       تخيلت أن الذنب كان ضعيفا

غير ان  محمود طاهر العربي من سجنه يرسل زفراته لبلاده مصر شاكيا لها مكابدته ومعاناته باثا إياها أشواقه وهو يناجيها ويتغنى بها. لكنه يؤكد بقاءه ثابتا متمسكا بالعهد لا يبدله سجن ولا يقهره عذاب أو قيد فيقول:

كم ذا أكابد في الهوى وأعاني      فمري خيالك أن يزور العاني

يا مصر يا ذات المحاسن رحمة    بفؤاد صبّ في الهوى متفاني

ياجنة الدنيا ودار نعيمها                  يا درة في تاج كل زمان

إني على عهدي وفرط صبابتي      لا السجن بدلني ولا أنساني

وبذلت روحي في فداك رخيصة   والروح ترخص غالي الأثمان

قد يسجن الشعراء في طوامير وسجون وجحور لا يرون فيها ضوء الشمس؛ إلّا ان قصائدهم ومواقفهم وآراءهم لا يمكن أن تسجن وستظل حرة طليقة.