هل يُدرج الذكاء الاصطناعي تحت قانون البشر لحد مخاطره؟

محاولات دولية لتنظيمه وسط مخاوف من إساءة استخدامه من قبل جهات خطيرة

*الاتحاد الأوروبي يعمل على صياغة قانون ينظم الذكاء الاصطناعي

*80 في المئة من الوظائف في الولايات المتحدة ستتأثر بالذكاء الاصطناعي التوليدي

* الأب الروحي للذكاء الاصطناعي يخشى من أن تعطل هذه التكنولوجيا سوق العمل بشكل كبير

من دون مقدمات، اقتحم الذكاء الاصطناعي حياتنا بسرعة البرق وبات جزءاً لا يتجزأ منها. وبسرعة قياسية، راح مستوى الاستثمارات التي تتجه إلى هذا القطاع يرتفع رغم تحذيرات البعض من المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي والتي، برأيهم، من شأنها إضعاف سوق العمل.

في العام  2018، تحوّل الذكاء الإصطناعي إلى حقيقة وليس مجرد روايات خيالية علمية. لقد كان هذا العام بمثابة النقلة الكبرى للذكاء الاصطناعي، حيث نمت هذه التكنولوجيا بشكل كبير حتى أصبحت أداة رئيسية تدخل في صلب جميع القطاعات.

وبدأ الاهتمام المتزايد بالذكاء الاصطناعي مع الظهور الأول لمنصة “تشات جي بي تي”، وهو نظام كمبيوتر يحاكي

الذكاء الاصطناعي بات أداة رئيسية في صلب جميع القطاعات

عمليات الذكاء البشري، ويمكّنه من الإجابة بفعالية على الأسئلة المعقدة، وكتابة كود الكمبيوتر، وحتى التعرف على الصور من دون مساعدة بشرية مباشرة.

وحالياً، باتت التكنولوجيا تستحوذ على مجتمع الاستثمار كون العديد من الشركات الناشئة عرضت قدرات مشاريع خاصة بالذكاء الاصطناعي.

كما أصبحت جميع القطاعات تتسابق لدمج الذكاء الاصطناعي في أكبر عدد ممكن من المنتجات والخدمات، حيث يرى المسؤولون عن هذه القطاعات أن هناك فرصاً لتعزيز الإنتاجية وزيادة الإيرادات.

مؤخراً، أصدرت شركة الأبحاث “ماكنزي” سلسلة من التوقعات توضح بالتفصيل التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي على الاقتصاد الأوسع والأشمل.

وفقاً لتوقعاتها، فإنه بحلول عام 2030، ستكون حوالي 70 في المئة من الشركات دمجت التكنولوجيا في أعمالها ببعض القدرات، مما يخلق 13 تريليون دولار إضافية في النشاط الاقتصادي العالمي.

لكن الشركات التي تتبنى باكراً إلى الذكاء الاصطناعي ستستفيد أكثر من غيرها، وفق “ماكنزي”. فمن خلال دمجها الذكاء الاصطناعي اليوم وتطويرها على مدى السنوات الخمس إلى السبع المقبلة، من المتوقع أن تزيد هذه الشركات التدفق النقدي الحر بنسبة 122 في المئة بحلول عام 2030. وفي المقابل، فإن تلك التي تنتظر حتى وقت لاحق من العقد لتبدأ في تبني الذكاء الاصطناعي قد تشهد فقط ربحاً بنسبة 10 في المئة، ويمكن لتلك التي لا تستخدمها على الإطلاق أن تواجه انخفاضاً بنسبة 23 في المئة في التدفق النقدي الحر الخاص بها.

منحنى التبني السريع

أحد أكثر الأشياء إثارة للاهتمام حول ما نحن فيه الآن مع الذكاء الاصطناعي التوليدي هو منحنى التبني السريع للغاية الذي رأيناه.

تقول “أكسفورد إيكونوميكس” إن الأمر استغرق شهرين فقط لـ”تشات جي بي تي” للوصول إلى 100 مليون مستخدم نشط شهرياً. في حين استغرق الامر بالنسبة إلى “تيك توك” أربع مرات أطول (تسعة أشهر)؛ وثلاث سنوات بالنبة إلى “إنستاغرام”.. بعبارة أخرى، إنه تطبيق المستهلك الأسرع نمواً في التاريخ.

100 مليون مستخدم نشط شهرياً في “تشات جي بي تي” غي غضون شهرين

وهذا يعني أنه ليس بعيداً جداً أن نكون على أعتاب طفرة إنتاجية كبيرة.

“لن يكون هذا التحول غير مؤلم وهو لا يخلو من مخاطر كبيرة”، بحسب “أكسفورد إيكونوميكس”. من وجهة نظر الأعمال، رأينا على مدى العقود الماضية – وتسارعت وتيرتها خلال وباء كورونا – اعتماد أدوات وآلات مؤتمتة تحل محل وظائف التصنيع التقليدية. وهو أمر يبدو أنه سيستمر وقد يطال استبدال، ليس المهمات فقط بل المواهب المطلوبة من البشر مثل الفن والتصميم والكتابة.

وتشير الأبحاث التي أجرتها شركة OpenAI ، التي طورت “تشات جي بي تي”، إلى أن 80 في المئة من الوظائف في الولايات المتحدة ستتأثر بالذكاء الاصطناعي التوليدي بطريقة ما، وتقدر أن 15 في المئة من جميع مهام العمل في الولايات المتحدة “يمكن إنجازها بشكل أسرع في الوقت نفسه.

وهناك إحصائية أكثر إثارة للقلق وضعها مصرف الاستثمار “غولدمان ساكس” التي تقدّر أن 300 مليون وظيفة يمكن أن تضيع بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن العوامل الجيوسياسية تلعب دوراً كبيراً في مسار تبني الذكاء الاصطناعي. فهذه التكنولوجيا تعتمد على الوصول إلى أشباه الموصلات المتطورة، وقد حظّرت الولايات المتحدة واليابان وهولندا صادرات أشباه الموصلات إلى الصين. بالإضافة إلى ذلك، تحرص الحكومة الصينية على التحكم في كيفية استخدام مواطنيها للذكاء الاصطناعي.

مخاطر أيضاً

يبدو أن مخاطر كثيرة لهذه التكنولوجيا بدأت تطفو على السطح مؤخراً وهي آخذة في النمو رغم ايجابيات الذكاء الاصطناعي. فتارة نسمع عن محتال استخدم تقنية الذكاء الاصطناعي بغرض السرقة، وطوراً نقرأ عن حوادث انتحال. كمثل الخبر الذي تم تداوله في أواخر مايو (أيار) الماضي ومفاده أن محتالاً في الصين استخدم تقنية الذكاء الاصطناعي لتغيير شكله وانتحال شخصية صديق له رجل أعمال انتزع منه أكثر من نصف مليون يورو.

وحذرت مجموعة من كبار رجال الأعمال والخبراء من بينهم مبتكر برنامج “تشات جي بي تي” سام التمان من أن صعود الذكاء الاصطناعي ينطوي على خطر “انقراض” للبشرية. ورأى هؤلاء أن مكافحة المخاطر المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ينبغي أن تكون “أولوية عالمية كسواها من المخاطر الأخرى على مستوى المجتمع، كالأوبئة والحروب النووية”.

أما رائد الذكاء الاصطناعي جيفري هينتون الذي استقال في مايو (أيار) بعد 10 سنوات في خدمة “غوغل”، فقد قرر مغادرة منصبه للتحدث بحرية عن الذكاء الاصطناعي التوليدي ومخاطره، كما قال في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز”.

حتى العام الماضي، لم يكن هينتون يعتبر هذا التقدم خطيراً، لكن رأيه تغير عندما طورت “غوغل” و OpenAI أنظمة عصبية قادرة على معالجة كميات كبيرة جداً من البيانات، التي يمكن أن تجعل هذه الأنظمة أكثر كفاءة من الدماغ البشري، وبالتالي فهي خطيرة للغاية.

يقول هينتون في المقابلة “أدت المنافسة بين عمالقة التكنولوجيا الكبرى إلى تقدم لا يمكن لأحد أن يتخيله.. فقد تجاوزت السرعة التي يحدث بها التقدم توقعات العلماء ولم يؤمن سوى عدد قليل من الناس بفكرة أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تصبح في الواقع أكثر ذكاء من البشر.. وكنت شخصياً أعتقد أن ذلك لن يحدث إلا في غضون 30 إلى 50 سنة أو ربما أكثر، وبالطبع، لم أعد الآن أعتقد ذلك”.

من وجهة نظر اقتصادية، يخشى الأب الروحي للذكاء الاصطناعي من أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تعطل سوق العمل بشكل كبير. ووفقاً له، فإن التهديد يأتي أيضا من إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي من قبل الجهات الفاعلة الخطرة.

هذه المخاطر وغيرها كانت سبباً في أن تقرر مجموعة السبع تشكيل “مجموعة عمل” للذكاء الاصطناعي لقيادة المناقشات حول “الاستخدام المسؤول” لهذه الأدوات والمخاطر التي تمثلها بما في ذلك “المعلومات المضللة”. كما يحاول المشرّعون في الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات لتعزيز فوائد التكنولوجيا والأمن القومي مع الحد من إساءة استخدامها. وتريد OpenAI ، أن تفكر الولايات المتحدة في منح تراخيص للشركات لتطوير ذكاء اصطناعي قوي مثل النوع الذي يقوم عليه برنامج الدردشة الآلي الخاص بها. واقترح أحد موظفي OpenAI مؤخراً إنشاء وكالة ترخيص أميركية للذكاء الاصطناعي، يمكن أن تسمى مكتب أمان الذكاء الاصطناعي وأمن البنية التحتية.

وفي الإطار نفسه، أعطى برلمانيون أوروبيون الضوء الأخضر لسن أول مشروع قانون يتعلق بتنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي للحد من تجاوزات الذكاء الاصطناعي.

كما أطلق الاتحاد الأوروبي و”غوغل” اتفاقية من أجل إرساء قواعد جديدة بمشاركة جميع الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي. ويتوقع الاتحاد الأوروبي من شركات التكنولوجيا في أوروبا “الامتثال لجميع قواعد الاتحاد الأوروبي بهدف حماية البيانات والأمن عبر الإنترنت والذكاء الاصطناعي”.

كما أنه في الممكلة المتحدة، تم الاعتراف بالخطر “الوجودي” للذكاء الاصطناعي للمرة الأولى، وهو ما أسس للقاء شديد الأهمية بين رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك ورؤساء مجموعات أبحاث الذكاء الاصطناعي الرائدة في العالم تمت خلاله مناقشة السلامة والتنظيم.

ومن جهته، نشر الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI ، سام التمان، دعوة لقادة العالم لتأسيس هيئة دولية مماثلة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، من أجل الحد من السرعة التي يتم بها تطوير مثل هذا الذكاء الاصطناعي.

في أواخر مارس (آذار) من العام 2023، وقّع أكثر من 1000 من قادة التكنولوجيا والباحثين وغيرهم من الخبراء العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي، رسالة مفتوحة تحذر من أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تمثل “مخاطر جسيمة على المجتمع والإنسانية”.

وحضت هذه المجموعة، ومن بينها إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” ومالك “تويتر”، مختبرات الذكاء الاصطناعي على وقف تطوير أقوى أنظمتها لمدة ستة أشهر حتى تتمكن المجموعة من فهم المخاطر الكامنة وراء التكنولوجيا بشكل أفضل.

ومثلت الرسالة مصدر قلق متنام بين خبراء الذكاء الاصطناعي الذي يعتبرون أن التكنولوجيا التي أُدخلت يمكن أن تسبب ضرراً للمجتمع، وأن تكون الأنظمة المستقبلية أكثر خطورة.

في الختام، إن سرعة اعتماد الذكاء الاصطناعي تعني أنه من الصعب تقدير التأثير الكامل على عالم العمل. لكن يبدو أن إمكانية التغيير واضحة، ما يعزز الحاجة العاجلة للاستعداد لثورة الذكاء الاصطناعي ولإدارتها. فهل سنصل إلى إرساء تعاون دولي بحيث يعمل العلماء في العالم يداً بيد لإيجاد حلول للتحكم في الذكاء الاصطناعي؟.