قصة نجيب محفوظ -الشريدة- بين فيلــم السينما… ومسلســـل التلفزيون

أمين الغفاري

ذكر النجم الراحل عمر الشريف في أحد حواراته )ان احد مشاكل الأعمال الفنية التي نقدمها أنها لاتستند إلى اعمال روائية متميزة، أو ان الذين يعدونها لايجتهدون في نصوص فكرية أواعمال درامية تعالج مشاكل حقيقية، ولذلك تأتي الكثير من الأعمال أقل من المستوى المطلوب الذي يتطلع اليه الجمهور(، وهو قول صحيح بالتأكيد، ولذلك حين يتجه المنتجون أو المخرجون إلى الأستعانة بنصوص تطرق قضايا المجتمع، كتبها أعلام في فن القصة أوالرواية، وليسوا فقط مجرد مجتهدين يقدمون محاولاتهم ألأولى أو حتى أدباء قطعوا مسافات على الطريق، لابد ان تنال الحفاوة والترحيب من جانب عشاق الفنون المرئية قبل المسموعة، ومن هنا كان اسم نجيب محفوظ دعامة اساسية في تقديم هذا العمل الذي تمت صناعته كفيلم )الشريدة( أو كمسلسل )الطريق(.

فماذا أضاف الفيلم، ولماذا اختلف المسلسل ؟

في البداية لابد من الاشارة إلى ما ذكره الروائي الكبير نجيب محفوظ عن الأعمال التي قدمتها السينما اوقدمها المسرح أو التلفزيون استنادا إلى قصصه أو رواياته، فهو يقول )انني اتحمل مسؤولية الأعمال التي أصدرتها من قصص أو روايات في كتب، فتلك هي رؤيتي للقضية التي اتناولها، أما حين تظهر في السينما أو في المسرح أوعبرالتلفزيون أواي مجال آخر فان من قدموها هم المسؤولون عن الصورة العلاجية لما قدمت، فتلك رؤيتهم لأعمالي، وتظل كتبي فقط هي حدود مسؤوليتي(.

الفيلم )الشريدة(

أنتج الفيلم عام 1980 بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي، وفي تلك الفترة كان البطلان من نجوم الصف الأول فنيا والشباك جماهيريا، والايرادات تجاريا وكانا يشكلان ثنائيا رائعا قدما معا عدة افلام ناجحة منها سونيا والمجنون، وأختي، وأذكريني )عن قصة بين الأطلال وسبق ان قدمتها فاتن حمامة( وغيرها من الأفلام التي لاقت رواجا وشهرة، كتب السيناريو والحوار أحمد صالح وأخرجه أشرف فهمي.تدور القصة حول : رجل بدأ حياته من نقطة الصفر)محمود ياسين( أو فتحي، لم تيسر له سبل الحياة أن يتعلم، وانما فرضت عليه ان يدخل سوق العمل مبكرا، فاشتغل عاملا لدي المقاولين، يحمل على اكتافه المواد اللازمة في عمليات البناء من الأسمنت والحجارة وغيرها ويصعد بها إلى الطوابق الأعلى، كما أشتغل أيضا في تجارة الحديد)الخردة( المستخرج من المباني التي يتم تهديمها، وحين تمرس في تلك العمليات أقتحم بجسارة عالم المقاولات، ونجح في اكتساب شهرة من خلال دقة العمل والوفاء بالألتزامات المطلوبة سواء في سرعة الأنجاز أو الوفاء بمواعيد التسليم، حتى أصبح من المقاولين ذات الأسماء الرنانة التي تحظى بالثقة والتقدير.

فيلم الشريـدة والنهاية القاتمة الغواية تتربص بالرجل ان لم تملأ الزوجة حياة الزوج

أما البطلة فهي فتاة نشأت في ظروف صعبة )نجلاء فتحي( أو ليلى، فقد فقدت والديها، وهي صغيرة فقيرة وأصبحت كذلك يتيمة، ولم يكن لها من عائل سوى اللجوء إلى عمها )صلاح نظمي(، فعاشت مع أسرته تلبي لهم طلباتهم من الاسواق، وتقوم على خدمتهم في المنزل، حيث تقوم بكل أعمال البيت، وذلك بجوار حبها للتعليم وحرصها على استيعاب الدروس دون اي اخلال بواجباتها المنزلية، ونظرا لأن عمها يعمل لدي المقاول )فتحي( فكانت تراه بطبيعة الحال حين تذهب إلى عمها لقضاء حاجة تفرضها الألتزامات المنزلية، ، ولاحظت هي بعين الأنثى نظرات المقاول فتحي اليها حين تلتقي به، لاسيما وأنها ذات جمال ملحوظ، ، وفتنة خجولة، ولأن طموحها يتضمن نزعة وصولية، فقد عملت على استثمار نظرات )فتحي( اليها، وأعجابه بها، فزادت من افتعال أسباب للتردد على عمها في مكتب فتحي، حتى تشغله ويزداد ولهه بها، ويتقدم للزواج منها، وبذلك تتخلص من أعباء خدمة أسرة عمها، وتتمكن من مواصلة تعليمها، في مناخ يجنبها العوز والحاجة، وتنجح في ذلك، ويتقدم فتحي لطلبها للزواج، ويوافق العم، ولكنها تشترط مواصلة التعليم، ويوافق على التحاقها بكلية الحقوق، وحين تتخرج محامية وتقضي فترة التدريب، يقوم بفتح مكتب كبير لها في مكان متميز، ويوفر لها كل أسباب العمل التي تدفع للأمام، وأمام موهبتها واصرارها يلمع نجمها، وتكتسب بريقا وشهرة، ولكن في المقابل، كان اهمالها شديدا لزوجها، واستنكارها لتصرفاته التي يحكمها الجهل، وآفاقه الضيقة في القضايا العامة، والبون الشاسع بين اهتماماته، واهتماماتها، وعدم التكافؤ في المظهر، ومفردات الحديث.حين يفتح نقاش حول اي موضوع.كانت الطرق مسدودة لأتمام أي تلاقي، لاسيما ورفضها القاطع عدم الأنجاب، حتى لايشغلها الأهتمام بالطفل عن بناء مستقبلها، وحين تحمل تقدم على اجهاض نفسها، مما يثير كل الوان الغضب لدي الزوج، ويقول أثناء حضورهما حفل عرس دعيا اليه )ملعون ذلك الذي تزوج قبلي، وملعون كذلك من تزوج بعدي(، وحين يسأله بعض المدعوين للعرس عن سبب ذلك، يجيبهم قائلا )لأن من تزوج قبلي لم ينصحني، والذي تزوج بعدي لم يسألني(، ويعم الضحك بين المدعوين، وينفجر غضب الزوجة. يهجر فتحي بيته، حيث يتعرف على غانية )نبيله عبيد( بستشعر الراحة لديها، وفي محاولة للنيل من زوجته والانتقام منها يصحب الغانية ذات ليلة إلى منزل الزوجية، فما كان من الزوجة سوى ترك المنزل. تتفاقم المشاكل، وتتفاقم معها حدة مرضه بالكلى. تتفتح أعين الزوجة أخيرا بعد تجربة عاصرتها مع متهمة بقتل زوجها، ومع زميلة لها في المكتب، وعمها وزوجته، عن كم الاهمال الذي عاملت به زوجها، والقسوة في مخاطبته، في الوقت الذي أغدق فيه الكثير عليها سواء كم المشاعر العاطفية، أو حجم العطاء المادي، وحين تعلمها الأحداث مدى خطأها في التعامل معه، تجد في البحث عنه، وتعثر عليه في النهاية في بيت الغانية، بعد أن طلقها وترك لها المنزل، والمكتب، والسيارة، وتصل اليه وهو يحتضر أثر )بولينا في الدم(، ويحدث بينهما الحوار الأخير، وبقول لها صحيح لم أكن كفؤا لك في علمك ولكنك لم تحاولي أن ترشديني وتعلميني لأكون جديرا بك، كنت تستخفين بي وبجهلي، ولكني كنت أحبك، وحاولت كل جهدي أن أوفر لك كل شيئ وأيسر لك كل ماتحبيه من تعليم أوعمل وأقف بعيدا عن كل ما يزعجك أو يشغلك، وحتى ألأنجاب وافقت على تأجيله لكي تتفرغي تماما لعلمك ولعملك، ولكنك حين حملت تخلصت من الجنين دون سؤالي، فأنا لست مهما، لأني لاأساويك علما ومكانه واحتراما بين الناس. وترد لا يا فتحي أنا أحبك، وسوف أعوضك عما فات، وأنا شديدة الندم على الكثير من معاملاتي معك، وأرجو أن تقاوم مرضك فأنا بدونك لم أكن أشيئا، وسأبقى بدونك شريدة لا أجد قلبك وحنانك وحرصك الكامل علي سعادتي، ويرد لم يعد هناك وقت فقد تأخرت كثيرا.. ويغادر الحياة على سرير الغانية.

ذلك كان عن الفيلم..فماذا عن المسلسل

القصة في الأساس مأخوذة )عن( احدى القصص القصيرة للروائي الكبير نجيب محفوظ، وذلك يعني أنها ليست القصة حرفيا، والفيلم الذي استند اليها في احداثه، مدته لاتتجاوز ساعتين، بينما المسلسل الذي تم انتاجه هذا العام 2018 فقد جرى تقديمه على امتداد ثلاثين حلقة خلال شهر رمضان الماضي، ولذلك استوجب فرد الأحداث، وحشوها بالتفاصيل التي تخرج احيانا عن السياق العام للفيلم، بغرض التطويل والمد وتغطية الحلقات لنهاية الشهر الكريم، مثال أن البطل يكتشف في النهاية أن أخته هي أمه، وأن أبيه كان مصريا أبان فترة الوحدة بين مصر وسوريأ، وهي تفريعه ليست لها علاقة بقصة الفيلم.البطل هو الفنان السوري المتميز )عابد فهد( في دور جابر سلطان، والبطلة هي الفنانة اللبنانية الصاعدة )نادين نسيب نجم( في دور المحامية ليلى بو مصلح وقصة وسيناريو وحوار )سالم كسيري وفرح شيّا( والأخراج للفنانة السورية المخرجة المتألقة )رشا هشام شربتجي(. جابر سلطان رجل المال العصامي الذي بدأ حياته في سن الطفولة راعيا للغنم، وتمرس في العمل وأجاده حتى أصبح تاجرا وموردا للحوم، ثم اتجه لفتح المطاعم وحقق ثروة طائلة، ولكنه لم يتخل عن أهله وطبقته، فكان ملبيا لأعمال الخير، متعاطفا مع كل صاحب مشكلة، وتعرف على المحامية الشابة العاطلة عن العمل، وتعترضها وأسرتها مشاكل الحياة التي تهددهم بترك المنزل، ومكان العمل الذي لايحقق عائدا يذكر، ويقف بجانبهم، ويلحقها بعمل لدي مستشاره القانوني، وينال اعجابها، فتعرض عليه الزواج، وحين تراجعها الأم حول جرأتها تلك وتنافيها مع مفهوم الكرامة تجابهها الأبنة بالقول )اين تلك الكرامة مع حياة العجز التي نحياها، نحن في حاجة للحماية، فلقد تعبت من المقاومة(، ولايبخل الزوج على الزوجة، وعلى شقيقتها وماتعرضت له من مشاكل صحية وعاطفية )هذه ايضا تفريعه لاعلاقة لها بقصة الفيلم(بكل الوان الرعاية المادية والمعنوية، ولكن الزوجة في المقابل تزداد بعدا عنه وهي تنتقل من نجاح إلى نجاح، وفي نفس الوقت لايتغير هو في كم العطاء لكل من أقتربوا منه أو صادفهم، ولكنه يجد نفسه في نهاية الأمر مسجونا في انتظار المحاكمة لجرائم لم يرتكبها، وانما ارتكبها صهره، وخطيبته السابقة التي لم يتخل عنها في مشاكلها، ويقول )كنت كالخروف اسير وكأنني ذاهب إلى نزهة، بينما انا أسير وأتوجه إلى المذبح(، وتقف الزوجة إلى جواره، بعدما وضح لها كم يبلغ عطاؤه وعطفه على الآخرين، وكم كان طمعهم وجشعهم تجاهه، وتنبري للدفاع عنه، وتفنيد كل التهم التي توجه اليه، ويستيقظ ضمير الآخرين، فيعترفون بما اقترفوه، وتحصل المحامية الزوجة على حكم البراءة لزوجها، وينتهي المسلسل النهاية السعيدة بعودة الوفاق بعد التجربة المرة التي صادفها، وتأتي النتيجة لكي تبرهن على

الفنانة نادين نسيب نجيم والفنان عابد فهد، في احد مشاهد المسلسل

ان العمل الطيب لايلقى في البحر، وان عمل الخير سيكون لك دائما السند والمعين.

الفيلم..والمسلسل وقضية المرأة في ادب نجيب محفوظ

جاء الفيلم باسم )الشريدة( اتساقا مع ماذكرته بطلة الفيلم )ليلى( في حوارها الأخير مع الزوج وهو يحتضر )لاتتركني وترحل لكي أكون شريدة من بعدك( وجاء مغزى الفيلم ليؤكد على المرأة أن تكون راعية لبيتها وزوجها، حتى لايغترب الزوج عن بيته في البحث عن امرأة أخرى يجد لديها السلوى، وقد جاء على لسان الغانية في الفيلم وهي تخاطب الزوجة )لو كل امرأة قامت بالعناية والرعاية لزوجها، لأختفت أمثالي من النساء في هذا المجتمع(، أما المسلسل فقد جاء الأسم )الطريق( ليؤكد ان كلا الزوجين كان لكل منهما طريق، قبل أن يتوحدا في نهاية المسلسل، حيث كانت النهاية السعيدة في شهر رمضان الكريم. المسلس لطول مدة العرض عبر ثلاثين حلقة، دخل في تفاصيل واجتهادات مفتعلة، وبعضها ركيك مثل مراودة المحامي النصاب للمحامية الجديدة في المكتب بكل هذه الفظاظة.

لكن تبقى اجادة الممثلين لأدوارهم التي أكسبت المسلسل المزيد من الجاذبية وبالتالي المتابعة.

نجيب محفوظ في هذه القصة يقدم مزيدا من النماذج النسائية، والتي سبق وان قدم منهن العديد عبر رواياته.انه كما قدم نوارة في اللص والكلاب، وزهرة في ميرامار، وريري في السمان والخريف، ونفيسة في بداية ونهاية، واحسان في القاهرة الجديدة )فيلم القاهرة 30( وغير ذلك من القصص او الروايات التي حاول نجيب محفوظ من خلالها الولوج إلى دنيا المرأة ومعالجة قضاياها، وذلك بالكشف عن مجمل ظروفها المحيطة، ومرجعية المشاكل التي تعترض حياتها، تحت قاعدة أن الظروف القاهرة أو القاسية لاتجتث من الأنسان كل ماهو انساني، وانما يبقى هناك على الدوام ذلك الهامش الانساني، الذي يطهر الروح من تلوث الجسد، ويمكنه كذلك أن يحمي الجسد من هوان السقوط.