قلبه المريض ظل ينبض بحب فلسطين

محمود درويش شاعر الأرض والحب والإنسان

عانت شعوبٌ كثيرة على مرّ التّاريخ،من الطُغيان والحروب وما بُرافقها من آفات ومجازر وسفك للدّماء.

ربما كانت نكبة فلسطين التي حصلت في العام ١٩٤٨،من أكثر الأحداث تأثيراً في وجدان العالم العربيّ وأدبائه وشعرائه،على غرار ما حصل في معظم الدول التي شهدت آثار الحروب المؤلمة وتبعاتها الخطيرة على كافة المستويات.

إن آثار الحربين العالميتين الأولى والثّانية،لم تنحصر بما خلفته من مشاهد الدّماروالجثث والمعطوبين نفسياً وجسدياً، إذ سعى معظم الفنانين والأدباء،إلى نقل المعاناة الواقعية إلى الفن بكافة أنواعه وأشكاله، لذلك شهد العالم حركات فنية مختلفة،تبحث عن الحرية المطلقة في التّعبيروالتمرد على كل ما هو اعتياديّ وسائد. فالموت وقوة السلاح والكوارث والأوبئة هي بمثابة محفز لطاقة الإبداع،لذلك تصبح رؤية الفنان بديلاً عن عدسة الكاميرا،وفكرة الحرب تتجلى على شكل لوحات ومنحوتات وقصائد وروايات ومشاهد تمثيلية توثق لحظات الخوف والقلق،مُحاربةً ظل الموت والكآبة ، من خلال العبث والتأمل وطرح الأسئلة الكبرى كنوع من الاحتجاج على الخراب العام .

ومن أشهر هذه الحركات : الدادائية والواقعية والسريالية وغيرها،وهي في معظمها تُمثل ثورة الفن على الواقع الدّامي والمخيب للأمل، والتّصدي للألم من خلال تخطي  الحقائق،أوالاستفادة من نظرية التحليل النفسيّ لفرويد والبناء عليها لتخطي الوجع وصعوبة الحياة .

وهنا نستذكر القضية الفلسطينية من خلال تجارب شعرائها وكتابها الذين تغنت قصائدهم بتراب الوطن،هم من اعتبروا أن فلسطين ضحية مرتين،أولاً فهي ضحية قداستها وثانياً إنّها ضحية التآمروالخذلان،هي التي لا تزال تدفع ثمن جمالها المتمثل بالقدس،محط أنظار الأديان وقِبلة العالم .

لقد تغنّى معظم الشعراء والكتاب العرب بفلسطين،كتبوا عن أرضها الجريحة،عن الأم الثكلى والأخ المعتقل والأب الشهيد . رثوا مدنها القتيلة،قباب الجوامع وصلبان الكنائس والناصريّ يسوع الذي افتدى العالم على أرضها المقدسة .

يُعتبر محمود درويش أحد أبرز الشّعراء المدافعين عن الوطن والأرض،فقد صوّر القضية الفلسطينية من خلال الشّعر الزاخر بالمعاني الإنسانية وأحلام العودة الكبرى .

هو المناضل قلباً وقالباً، فقد أحيا وطنه من خلال أمسيات شعرية على مختلف منابر العالم .

إنّه الشّاعر الّذي لم يُهادن معتبراً أن الأرض المغتصبة لا بدّ أن تعود إلى أهلها،أرض أجداده ولغته المفعمة بالمشاعر الصادقة،فكانت قصائده تهز مضاجع المحتلين.هو الّذي أذكى شرارة الانتفاضة الفلسطينية ضد الأعداء، فكانت كلماته رمزاً للنضال والدّفاع عن الأرض والهويّة .

لا يمكننا أن نفصل فلسطين عن درويش أو أن لا  نستذكر قصائد القاسم وبسيسو وتوفيق زياد وفدوى طوقان وغيرهم، فقد صارت هذه النصوص رمزاً للثورة الفلسطينية وجزءاً لا يتجزأ من ثقافتها.كلمات غنائية على امتداد الخريطة المسروقة .

كانت مسيرة درويش حافلة بالأحداث والآلام،منذ ما قبل النكبة،وحتى عودته الشاقة إلى بلاده وتنقله المستمر على أكثر من عاصمة عربية وغربية،ترأس خلالها مواقع إدارية في عدد من الصحف المهمة،إضافة إلى تولّيه رئاسة الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين وتحريره لمجلة الكرمل، وقد نشر شعره في بعض الصحف ممّا ساهم في شهرته، وكان درويش يُعتبر رقماً صعباً في المبيعات وهو الوحيد الذي كان يعيش مرتاحاً من حقوق كتبه .

لقد ترجم درويش حنينه إلى بلاده وطفولته وخبز أمّه على شكل كلمات تحمل في طياتها الكثير من الحب والأمل . وقد نضجت تجربته مع العمر لتشمل إلى جانب شعر الحب، موضوعات متنوعة فلسفية ووجودية مفعمة برمزية ولغة تُشبه هدوء صاحبها تارة وفوضاه تارة أخرى .

” أنا من هناك / ولي ذكرياتُ/ وُلدتُ كما تولد النّاسُ/ لي والدهْ/ وبيتٌ كثير النّوافذ/ لي إخوةٌ .أصدقاءُ/ وسجنٌ بنافذة باردة / ولي موجةٌ خَطفتْها النوارسُ / لي مشهدي الخاصُّ / لي عشبةٌ زائدة / ولي قمرٌ في أقاصي الكلام ورزقُ الطّيورِ/ وزيتونةٌ خالدهْ / مرّت على الأرضِ / قبلَ مرورِ السّيوفِ / على جسدٍ حوّلوهُ إلى مائدهْ “.

هذه الأبيات هي لشاعر القضية الفلسطينية،الّذي عاش الغربة والتشرد واللجوء في وطنه،وكانت قصائده خنجراً في قلب الأعداء.

هو الّذي حلم بوطن حقيقيّ ومُحرر من الأغلال والعبودية وسقم الضمير .

دفع درويش ثمن مواقفه الثورية،فسُجن أكثر من مرة في سجون الاحتلال، إضافة إلى خضوعه للإقامة الجبرية في منزله في العام ١٩٦٧،لمدة ثلاث سنوات .

“سَلبتَ كرومُ أجدادي/ وأرضاً كنتُ أملكُها / أنا وجميعُ أولادي / ولم تتركْ لنا … ولملِ أحفادي / سوى هذي الصُّخورِ … / فهل ستأخذُها حكومتِكم … كما قيلا؟ /

إن هذه الأبيات تُظهرُ تشرد الفلسطينيين منذ عام النكبة ، ومُصادرة العدو الاسرائيليّ لمساكنهم وأراضيهم ، لقد سطا العدو على أرض أجداده وخيراتها . أرض الخير والزيتون والسلام والأحلام البسيطة”.

أمّا في غربته البعيدة،فقد ظل الشاعر المهاجر من بلدٍ إلى آخر، يصف المنفى بحنين مضاعف إلى فلسطين التي تُمثل أمّه وجدّته ووالده وكل العذابات المُضنبة التي ألَمت بشعبٍ منكوب بعد وعد بلفور و تآمر العالم على الشعب الفلسطينيّ.

“ينبغي أن أجلسَ في العراء/ ولكنّني لا أنسى نسيمَ بلادي / ينبغي أن أتنفسَ السّل/ ولكنّني أُحافظ على مُلكية سمائي البعيدة/ يجب الّا أملكَ حتّى جلدي”.

هذا ما عبّر عنه درويش في غربته،هو الّذي حرمه العدو رائحة أمّه وهواء بلاده،هو الذي أجبر على الرّحيل ليتنفس سلّ المدن الحزينة،فكأنّهُ خلع جلده في الأرض الجديدة، ليعود ويقول في مقطع آخر :” القمحُ مرٌّ في حقولِ الآخرينْ/ والماءُ مالحْ/ والغيمُ فولاذٌ / وهذا النّجمُ جارحْ / وعليكَ أن تحيا وأن تحيا / وأن تُعطي مقابلَ الزيتون جادَك / كم كنتَ وحدك”.

تبدو الحياة مالحة وجارحة بالنسبة لدرويش وشعبه الذي يطلب النعمة من وليّ حاقد ومُجرم وفاقد للإنسانية،ولا يملك من محبة الأديان وتسامحها،سوى الكثير من الإجرام والاستبداد والعنف والأذى وعدم الاعتراف بالشرائع وحقوق الانسان .

إن الواقع المأساويّ فرض نفسه على وجود الشّاعر،تاركاً في أعماقه حزناً لا تُبدّده عواصم العالم وسجاداته الحمراء والمخمليّة ، ولم تُغنه الجوائز والفنادق الفخمة والتصفيق الحادّ عن تراب بلاده الغارقة بالدّم والألم والقبور .

يُعتبر محمود درويش الّذي وُلد في ١٣ مارس ١٩٤١بالقرب من ساحل عكا في قرية البروة ، وتوفي في ١٩ أغسطس ٢٠٠٨، أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب، وقد ارتبط اسمه بشعر الوطن،إضافةً إلى مساهمته الكبيرة في تطوير الشّعر الحديث.

ومن أبرز كتبه :” ذاكرةٌ للنسيان ، عابرون في كلامٍ عابر ، أرى ما أُريد ، حصار لمدائح البحر ، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق ، العصافير تموت في الجليل ولماذا تركتَ الحصان وحيداً ، وردٌ أقل ، الجدارية ، لا تعترض عمّا فعلت” ، إضافة إلى عشرات المجموعات الأخرى وآثاره المهمة في الكتابة النثرية والتجربة الصحفية .

وكانت أعماله الأخيرة زاخرة بالمعاني والصور الرمزية والمُعبّرة.

تبدو العلاقة وثيقة بين الشّاعر والقصيدة، لذلك مّرت تجربته بأكثر من مرحلة،لتشمل فيما بعد الوعي كقضية إنسانية تحمل في طياتها رسائل عميقة وفاتنة الحضور بصور من زمن مُتبدل كمزاج درويش .

وقد امتاز أسلوبه أحياناً بالخطاب المباشر،وأحياناً كان  يحمل الكثير من الدلالات المرتبطة بالأسطورة والحضارة والآداب الرديفة،بعيداً عن الإيديولوجيا، إذ اعتبر “الأنا” أو الذاتية مدخلاً إلى الخارج كما في الجدارية،حيث حرّر ذاته من ضيق الرؤيا وأطلق العنان لروحه لسبر آفاق جديدة ومختلفة .

” هذا هو اسمك/ قالت امرأة غابت في المّمر اللولبيّ/ أرى السّماء هناك / في متناول الأيدي ../ ويحملني جناح حمامة بيضاء / صوب طفولة أخرى / ولم أحلم ./ كل شيئ واقعيّ/ كنتُ أعلم أنّتي ألقي بنفسي جانباً ./ وأطير./ سوف أكونُ ما سأصير في الفلك الأخير/ كنتُ ولم أكُن / فأنت وحيدٌ في نواحي هذه الأبديّة البيضاء / أين أيّنني الآن ؟ / أين مدينة الموتى ؟ أينَ أنا ؟ / فلا عدم هناك في ” اللاهنا”.

إن محمود درويش الذي دفع ثمن النكبة قلقاً مضاعفاً وتشرداً واشتياقاً طوعياً للوطن،كان لا بدّ أن يطبع الألم قصائده ويُخيّم حنينه إلى الماضي على كل صورة وفكرة، لتعود ذاته وتحتل جزءاً من ذاكرة قلبه المريض والمتعب من سنوات الهرب والتهام الجدران في سجنه ومنفاه . ليصبح الشعر رديفاً لاسمه واسمه جزءاً من القصيدة الهائمة في المنافي والمحاصرة في الوطن بقوة السلاح والعنف.

سجل أنا عربي / ورقم بطاقتي خمسون ألف/ وأطفالي ثمانيّةٌ/ وتاسعهم .. سيأتي بعد صيف !/ فهل تغضبْ؟/

سجّل أنا عربي”.

مات الشّاعر الذي تربع على قلوب الملايين ، وزفته أرض بلاده إلى غابات الزيتون ، غاب لتبقى  قصائده واحة خضراء في صحراء قاحلة وفي أرض مقدسة ، تبحث عن مخلص جديد لا يصلبه الحقد على خشبة . بل تعانقه السّماء كأم  حنون.