قِراءة في رواية  »مرايا الرحيل«، للكاتبة فاطمة اسماعيل

نسرين الرجب ـ لبنان.

تُثير الكاتِبة فاطمة اسماعيل في روايتها  »مرايا الرحيل«* الكثير من المفاهيم الاجتماعيّة والنفسيّة، وتتناولها بجُرأة عابِرة غير خادِشة، ومن خلال طرح التساؤلات الوجوديّة تدخل تفاصيل سرديّة،  نسويّة الطابع بالغة الحساسيّة، تتحدث عن العادة الشهريّة، عن الجنس، عن العلاقة الملتبسة بالآخر، عن العزلة، عن ذكوريّة المجتمع، وفي منحى آخر تتّخذ منحا وعظيّا على لسان شخصيّتها واختيارها أن تكون نباتيّة، تتحدث عن مضار التدخين الذي أهلك رئتيْ الزوج المتكتّم على مرضه، فهي تسعى إلى نفض المتلقّي من مسلمّاته الغيبيّة، وسيلة تُرسي من خلالها ما تؤمن به، كما أشارت المؤلّفة:  »كنت أشعر بأني أحمل السلاح الأقوى والأجمل بين يدي، لم أستطع أن أُدخل القارىء في الدوّامات بلا نتيجة، أو أن أنقل واقعا اعتاده، كان عليّ أن ألفت نظره الى أشياء حقيقيّة، نراها ولا ننتبه لها«.

الأنا المتكلّمة في الرواية هي الأنا الساردة  »سابين«، لذا جاء السرد كثيفا، لأنه شخصيّ ويمسّ الذات بكل تفاصيلها، ومستوى التعبير اللغوي كان مُنسجما مع أداء الشخصيّة )فنانّة تشكيليّة متمردة على الواقع، وتواجه تأزّما عاطفيّا في علاقتها الزوجيّة(، فبدا طبيعيّا أن نشهد مسرَحة الذات، الأحداث على قلّتها لم تضعف مستوى السرد، بل غلّبت زمن السرد على زمن الحكاية، من خلال الرجوع إلى الماضي، والغياب في حوارات داخليّة وخارجيّة أشبه بمقاربة دراميّة، فالراوي حاضر في كون القص وينتمي اليه، يتحوّل إلى خارج كون القص عندما يسرد مواقف الشخصيّات الأخرى من خلال سلوكها الظاهر، ومن خلال وجهة نظر الشخصيّة  »سابين«، لذا فمستوى السرد أتى متنوّعا، يتمحوَر حول وجهة نظر شخصيّة محددة.

الخطاب -في معظمه- حر غير مباشر ويبلغ ذروته في المناجاة الداخلية، إذ تتحول الشخصيّة إلى بؤرة خالصة، تحمل رؤية ذاتيّة للعالم، فجاء المنظور الروائي عبر الرؤية مع، حيث لا تتجاوز معرفة الراوي حدود ما تقدّمه الشخصيّة عن نفسها وعن الآخرين.

فاطمة اسماعيل – مرايا الرحيل

المِرآة المتلبّسة

لا تعكس المرايا غالبا حقيقتنا، فكثيرا ما نصدّق الصورة التي يعكِسها حدسنا الشخصي عن الآخر، الحدس الذي يعتمد على خُبراتنا وتجاربنا الذاتيّة، فتظهر لنا صورا محرّفة نراها كأنّها الحقيقة ونتّخذ مواقفنا وِفقها، في علم النفس يقوم الشخص في عمليّة الإسقاط )الذي يكون مصدره اللاوعي(، على إضفاء كل ما يكره ويزعجه من مشاعر وصفات موجودة  داخله على الآخر، الذي قد لا يكتفي أن يكون شخصا بل قد يتمثّل أدبا وفنّا راقيا،  »ما كُتب أو ما رُسم قبلا هو ذاتنا التي تطورت الآن وإذا ألغينا هذا الجزء فنحن نلغي من خلاله جزءا من ذاتنا من تفاصيلنا«،  شأنه كالمِرآة التي تعكس ما في الداخل، لذا تقول:  »أكره اللاوعي الذي يفضح آلامنا ويثير الخوف فينا ويلتف حولنا كما تلتف الأفعى حول جنح فراشة فتتناثر.«

لا تتوقف المِرآة لتكون ذاك الشيء المادي الذي يعكس صورة الجسد الظاهرة، في الرواية كانت المِرآة وسيلة لجوء إلى آليات حماية من القلق والألم الذاتي، تتّخد بعدا دراميّا عندما كانت  »سابين« تقف لتؤدي مشهدا بكائيّا وهي طفلة فكسرت زجاج نظّارتها عن طريق الخطأ، وعند الكِبر تصبح المِرآة هي الآخر بعيوننا ونحن بعيون ذواتنا، تبدو المِرآة هنا معكّرة غير صافية لذا فالبطلة ليست متصالحة مع مرآتها، التي لم تعد تريها حقيقة ذاتها:

 »المرآة لم تعد تعكس الأشياء كما هي، حوّلتني إلى عجوز تبحث عن شبابها الذي لم تعشه«

وهذا يعكس تخبطا وصراعا نفسيّا أجّجه عدم التأقلم مع المكان )السعودية بكل تعقيداتها الاجتماعيّة والمحظورات التي تفرضها سلطة القانون الغير متصافح مع المرأة(،  »المكان هادئ جدا هذا الهدوء القاتل يذكرني بمنزلنا المؤقت والعبثية الموجودة في تكوين تلك الأشجار، تهافت العصافير على أغصانها المبعثرة «، افتقاد الأمان العاطفي مع الزوج، أسّس لحالة من التشرذُم النفسي:  »روحي..مرتبكة جدا تصرخ دون جدوى، أصفعها أكثر وأحاول حبسها، ولكنها كريح تهرب من نافذة يتخبط زجاجها وتتكشف ستائرها«.

والشعور بعدم الجدوى من تأسيس علاقات اجتماعيّة، في بلد لن تبقى فيه طويلا، وعندما تشتكي وحدتها تُقابل باللاتفهّم:  »أنت لا رغبة لك بأن تتعرفي على أحد، ودائما تتذمرين بأنك تشعرين بالوحدة،..؟«

وقد رصدت المؤلفة على لسان  »سابين« تحوّلات العصر ببراعة سردية، تنسجم مع آنيتها، تعرض الاحتمالات، تعرض خوفها، بؤسها وبؤس العالم، ماذا لو كنا مكان الآخر؟   »ماذا لو كنت عالقة في مكان يتعرض للقصف والدمار، أو كنت مسبية أيزيدية…«، ثم تعقّب:  »أبغض نفسي لأني أضع نقسي أمام أماكن أكثر سوءا مما أعيش حتى أخفف عن نفسي..«.

وتعود  »أفكر بطريقة أخرى ماذا لو كنت فتاة حرّة تمارس رسمها بحرية؟ لا تلسعها تموجاتها الداخلية…«، هذا التذبذب بين السلبي والإيجابي، اليأس والأمل يدل على شخصية حسّاسة متقلّبة المزاج وغير متصالحة مع وضعها.

 بالاضافة إلى أنّ كل هذا الابتعاد وتأثيراته الذاتيّة وامتداداته اللامتوقّفة، يعكس اضطرابا وعلاقات غير متصالحة مع  التغيّرات السلوكيّة عند الآخر، والتي تحمل في إشاراتها أبعادا اجتماعيّة، تعالج من خلالها المؤلفة موضوع الهيمنة الذكوريّة والغضب النسائي المكتوم تجاه السلوكيات الغير مبرّرة من قبل الرجل، واللجوء إلى الانسحاب العاطفي.

الآخر الذي هشّم المرآة

تقدّم المؤلفة على لسان الشخصية  »سابين« نقدا نسويّا عن العلاقة مع الآخر/ الرجل، يتمثّل في جرأته: رفض الجنس التقليدي، الذي يتمركز على  مفهموم المرأة للمتعة، تسأل صديقها فيما لو أنّها تزوجت رجلا غير زوجها فهل ستحقق متطلباتها كفنانة تشكيليّة، فيجيبها بالنعم  »فأنتِ أنثى جميلة«، يصدمها لأنّه نظرته لها لم تتعد حدود الظاهر!

هذا الانعكاس تمثّل على شكل عتاب الزوج والذي تحوّل مع الوقت إلى كائن غريب:  »المرأة التي تعود إليها في المنزل كانت صديقتك وحبيبتك كانت تشاركك كل شيء«، يتحوّل هذا العتاب إلى خطاب حرّ تتأرجح فيه ذاكرة الراوِية بين الماضي البعيد والقريب:   »إذا غفوت بحضنه أمس ليس لأنني ضعيفة، بل لأنني سمحت له أن يكون مرآتي، فتلك الطفلة التي كانت تُحوّل حزنها إلى مسرحيّة أمام المرآة تَحوّل حزنها إلى مشهد عاطفيّ ترمي فيه دموعها على حضنه في أول لقاء..وتتوحد فيه بآخر لقاء«.

يواجه عتابها له بالقول:  »هذا نقاش لا فائدة منه«، وهو ما تكرّر حين قالت لزوجها أنّها تريد طفلا، فشكّك بأن يكون قرارها ناتجا عن تقلباتها المزاجية وليس قرارا مدروسا، وعندما تصر يطلب منها أن تتعرى، وينتهي الأمر بنومِه،  وبالتالي لا يحدث الحمل المتوقع فتتمنى لو تسطيع تحويل الألم الذي شعرت به إلى نافورة دم، وفي منحى آخر وبعد تحقّق الحمل تذكر لنا بعاطفيّة خصبة دلالات الحب في العلاقة الجسدية السليمة:  »لم يكن طقسا جنسيّا، بل كان إلهيّا ليخرج كل التراكمات التي تحطمني، ويزرع فوقها الحب، فأغدو حديقة تنبت من جديد«.

المرأة التي استسلمت طويلا للسيطرة الأبويّة، ومفاهيم الجندرة الاجتماعيّة التي تربط كل من الرجال والنساء بأدوار معيّنة، وسِمات محدّدة بالطبيعة وسُلطة القوي على الضعيف، أسّس لفطرة دونية المرأة، في علاقتها مع ذاتها كما ظهر من خلال حديث صديقتها التي فضّلت أن تكون خادمة رجل واحد وهو زوجها ولا تلجأ للطلاق فتنتهي خادمة لخمسة أشخاص )والدها وأخوتها(، الهروب من سجن الأهل إلى سجن الزوج، تتساءل  »سابين«:  »هل قيد المرأة يولد معها؟ أم أنّ المجتمع هو من يفرض عليها أن تتحرك دائما في دائرة العبوديّة لتنصاع لأوامر أحدهم«، وفي مشهد آخر تقول صديقة أخرى في حديثها عن موضوع ذكوريّة المجتمع، لتخلُص بأن التأقلم هو الحل:  »لذكوريّة موجودة في كل علاقة في مجتمعنا، وتبقى تزعجنا حتى نتأقلم معها وتصبح واقعا جميلا«.

هذا المجتمع الذي يعلّي قيّم الذكورة هو الذي يعزّز منطق الخوف من نميمة المجتمع والخوف من التمرد والرفض حتى لا تكنّى المرأة بصفات رذيلة، تبدأ هذه العلاقة من الأسرة، حيث العائلة التي يكتم فيها الأب إظهار عاطفته لأولاده، وتكون العلاقة معه من خلال الأم،    »علاقة الذكور بالإناث كانت ملتبسة لدي، لهذا كنت أبقى بعيدة عن أي التباس، وكنت دائما أقمع دماغي حتى لا يفكر كثيرا…«  تؤسّس هذه العاطفة الملتبسة، لعلامات خوفٍ وتفكير من مُنطلق عقدة أنثى/ ذكر وجسد، حيث تُقصى العاطفة كعلامة مشبوهة، ظهر هذا التأزّم في مراهقة  »سابين« عندما وضع الأخ رأسه في حضن في أخته أثناء رحلة مدرسية، تجمّدت وفكّرت بأنّه ذكر وهي أنثى وهذا خطأ، وتساءلت  »لماذا نحن نجلس بالقرب من أمّنا ولا نجلس بالقرب من والدنا؟«.

 هذه الهواجس والمعطيات خلقت حالة تمرد وتردد في مكان آخر،  »هل حقا هناك من في هذا العالم من يستحق أن نقدم له أنفسنا على طبق من رضا، وكأنّنا كائنات خلقت لتقدم كقرابين لآخرين الزوجة لزوجها، والزوج لعمله….«، وإقرار بالحاجة إلى التصالح مع الذات وشحن القيمة وبناء الثقة:  »أنا لست بصدفة، ولست حتى امرأة تملأ فراغ رجل، أنا لي هذا الكيان القوي الذي أسعى أن أنميه كل لحظة«.

نهاية الرواية كانت على شكل رسالة من الزوج يبرّر فيها كل تصرفاته السابقة التي كانت مقصودة، وكان شاهدا واقعيا على مقدار الألم الذي تسبّب به للمرأة التي أحبّها وتزوجها، وتحت حجّة المرض فضّل أن ترعاه ممرضة غريبة على أن يُشرك زوجه في معاناته. وفي الختام يخبرها عن الممتلكات التي تركها لها، هذه الخاتمة وإن للوهلة الأولى أظهرت مظلوميّة الرجل، إلاّ أنّها بعد فصل الموضوع عن عاطفيته الدراميّة يكشف عن حقيقة رجل يقيس الحب بالمادة، ولا يستطيع أن يعايش المعنى العاطفي بروحانيتَه وقيَم الوفاء والمشاركة فيه، ويستعيض عن ذلك بالمادة التي لا تُقارن بما تسطيع تقديمه اللحظات العاطفيّة المشحونة بالحب والمشاركة.

الذات المؤلِّفة وحضورها في كوْن القص

تحضر شخصيّة المؤلفة بقوّة في الرواية، وخاصة عندما تتحدث عن علاقتها باللوحة والرسم، توضّح المؤلفة:  »حديثي عن اللوحة حقيقيّ و سيكون كذلك حتّى لو لم أكن فنّانة، ولكن بالطبع ساعد هذا،أيضا«.

فالكاتب يكتب انطلاقا من معاناته، يرصد مشاهداته، ويعاين أحساسيه بالأشياء، تصف  »سابين« مشهدا اضطرت فيه لشرح لوحة لها، أمام امرأة متعصبة دينيّا اعتبرت أن لوحاتها ذالتي تظهر فيها النساء عاريات- حراما ويجب حرقها، وبعد أن أنهت شرح وجهة نظرها استطاعت أن تؤثر في تغيير وجهة نظر تلك المرأة، لتقول في الأخير:  »لا عري في هذا الكون طالما ارتدينا فوقه اللون«.

 العلاقة مع الأشياء ليست علاقة اعتباطيّة، بل هي علاقة مؤثرة وعاكسة، فتحكي  »سابين«  عن أسباب اختيارها للألوان الزيتيّة، لأنها ثابتة ولا يتغيّر حالها:  »أرسم بالألوان الزيتية، هي أكثر صلابة ونضجا من الألوان الأخرى، لا تقبل الاختلاط بالماء حتى لا تفسد، لا يتغير لونها عندما تجف«.

والعلاقة مع اللوحة أكثر انسجاما وتفريغا من العلاقة مع الزوج المهمل :  »لوحتي تحكي معي أكثر مما تحكي أنت!«

تقول المؤلفة:   »أنّ طالما الرواية خرجت للعلن فأنا بت مثل القارئ مجرد متلقيّة، قد أكره سابين و أحب مروان، الرواية لم أستطع فصلها عن تفاصيل عشتها بكل تأكيد، ولكن تركيب الرواية كان كفيلا لأفهم أن الحياة كلها مركّبة، كما يركّب الكاتب أحداث روايته«.

وعن الخاتمة التي اختارتها لروايتها تقول:  »حاولت إظهار أنّ لكلّ قصة ألف هوية، ويمكننا رؤية كل التفاصيل من جوانب مختلفة،الفكرة أننا نتعاطف دائما مع النهاية، و ننسى الضحيّة الأساسيّة، فكل ما تحدثت عنه سابين كان مؤلما، ولكننا في النهاية نقف بصف الرجل، و لكنه كان أيضا ظالما بإخفائه الحقيقة عنها«.

هذا التوقف في النهاية يحمل ارتباكا خاصا، كإرتباكنا نحن عندما نواجه أنفسنا، ولكنه لا يتوقّف إلا ليحمل زخما من التساؤلات، ويعكس احتمالات الرحيل وانعكاساته المدويّة، وهو يشرّح تَوْق امرأةٍ حالِمة للأمومة والانطلاق والحبّ على الرغم من اخفاقاتها، ويعكس الجمود العاطفيّ الذي سطّر حياة رجل تجاهل مبدأ الشراكة وهو يحسب أنّ العمل والمال أكثر أهمية وضرورة، فخسر صحته وخسر حبيبته.

مرايا الرحيل هي محاولة لرصد الانعكاسات العديدة للرحيل، مرايا قد تتحدّب لتعكس انكسار وهزيمة الذات، وقد تتقعّر لتعكس انعزالها وتقوقعها، حتى يأتي زمنٌ تستوي فيه لتعكس الصورة الحقيقيّة للذات المُطمئنّة.

*مرايا الرحيل، صادرة عن دار ناريمان للنشر، بيروت، لبنان، ط1: 2018.