كيف السبيل لإنقاذ فنون الدراما والموسيقى العربية من الهبوط وتراجع المستوى؟

فنانون كبار استشعروا التدهور في الفن قبل 30 سنة واعتزلوا..ماذا لو عاشوا للآن؟!

في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وقبيل رحيله قال الموسيقار محمد عبد الوهاب أنه يتعجب من الحال الذي وصل إليه الفن والثقافة آنذاك وكان مستاءَ من ظواهر سلبية دخيلة على الفن المصري معربا عن حزنه وعدم رضاه. لم يقتصر هذا الشعور على رواد الغناء والموسيقى بل امتد إلى أساطين فن التمثيل ومنهم فنانون كثر أعلنوا اعتزالهم وهم في قمة مجدهم لعدم رضائهم عن المستوى الفني. منهم الفنان شكري سرحان الذي قرر اعتزال التمثيل نهائيا عام 1991 وقال وقتها أنه اتخذ القرار اضطراريا بعد تدهور حال السينما ولأن مستواها وما يقدم فيها لم يعد يناسب تاريخه الفني.

إذا كان هذا هو موقف الفنانين الكبار ورأيهم في حالة الفن قبل نهايات القرن العشرين بسنوات أي منذ أكثر من ربع قرن، فكيف كانوا سيقولون لو شهدوا وعاصروا ما يحدث الآن على الساحة الفنية من انتشار لأعمال درامية متدنية المستوى واكتساح لطوفان الأغاني الهابطة التي لم تعد ترتقي لوصف الأغنية في ظل موجات التدهور المتتابعة لمستوى الكلمة واللحن والصوت تحت ستار أغاني مهرجانات أو شعبيات والتي تحولت إلى ما يشبه الطفح المرضي على مختلف الشاشات تحت تأثير قوة النفوذ المالي لشركات الإنتاج.

ومع تقاليع السوشيال ميديا وانتشار وسائل البث والإعلانات عبر أجهزة الموبايلات، ازدادت الأمور سوء ً وضاعت السيطرة القانونية والمجتمعية وطغت الفوضى وأصبح لأي شخص أن يستطيع أن يفعل ما يرد من غناء ورقص وتمثيل وخلافه حتى لو لم يكن موهوبا أو حتى مؤهلا للأداء، بل ويمكنه أن يبث ما يفعله ويذيعه مهما كان رديئا، مما أدى إلى سيادة القبح ومطاردته لأصحاب الأذواق الراقية أينما ذهبوا وفي كل مكان، سواء كانوا فنانين حقيقيين أو جمهور يبحث عن ذائقته الفنية التي ضاعت هويتها في غياهب طوفان هذا التدهور الخطير في الفن والتمثيل.

يحدث ذلك على الرغم من تطور الأجهزة والأدوات والإمكانيات الكبيرة المسخرة حاليا لإنتاج الأعمال الفنية التي قد لا ترتقي للمستوى المطلوب أو تلك التي لا يمكن مشاهدتها غير مرة بسبب ضحالتها وافتقارها للقيمة الفنية والعمق، بينما تشير نسب المشاهدة على محطات وقنوات بث المواد القديمة والمواقع الإلكترونية ذات الصلة إلى وجود إقبال كبيرة على مشاهدة هذه الأعمال رغم افتقادها للإمكانيات العصرية الحديثة. ولاشك أن الأمر يتجاوز مسألة نوستالجيا الحنين للماضي بدليل أن هناك أجيالا مختلفة تتابع هذه الأعمال بعد انجذابها لها لما يجدوه فيها من رسالة عميقة وأداء صادق وكتابة محكمة لاتثير الملل وتناقش قضايا إنسانية مهمة.

لقد ظهرت موجات متلاحقة من الفنون ارتبطت فيها الأعمال الهابطة ودون المستوى بهزات سياسية كبرى عبر العصور المختلفة في الوقت الذي كان هناك من يحاول مقاومة هذا الهبوط بتقديم أعمال راقية ذات قيمة وهي التي ظلت باقية وأصبحت خالدة على الرغم مما عانته من خسائر مادية كبيرة وقتها لصعوبة المنافسة في ظل مناخ عام سئ ومزاج شعبي غير صحي مفتقدا لتوازنه بسبب تاثير الأحداث المحيطة التي تعصف بالشعوب، ولكن الزمن يثبت أن العمل الجيد يخلد نفسه مهما كانت تلك التأثيرات.

حلم الستينيات وعبق الإبداع

هناك من يرى أن فترة الستينيات في مصر والعالم العربي من القرن الماضي أو ما يعرف بالحقبة الناصرية هي العصر الذهبي للإبداع والمبدعين في مختلف المجالات، منهم نجوم كبار في عالم الفن.

سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب ترى أن حلم القومية العربية في تلك الفترة ووجود الزعيم جمال عبد الناصر كانا المحفزين لرواج المناخ الثقافي والحركة الإبداعية، وقالت للحصاد: بالفعل كانت تلك الفترة خصبة جدا وكان هناك مناخ ثقافي محفز وعبق في مختلف المجالات من تمثيل وغناء وكتاب وشعر وثقافة كما كانت كل روافد الفنون والثقافة في ازدهار كبير. أما الآن فنحن نعيش تراجيديا محزنة بكل معاني الكلمة في بلادنا العربية،  فالأحداث فظيعة، ولم أكن أتخيل أن تتعرض قامات عربية لهذا القدر من الوحشية، كما أشعر بالحزن على أعداد اللاجئين والشعوب العربية المشردة والبلاد التي انقسمت وتشرذمت والبيوت التي تم تخريبها. وتضيف أيوب، للأسف الشديد برزت ظواهر غريبة أشبه بالطفح القبيح تغير معها الكثير من الناس وبدت سلوكياتهم الغريبة في الشارع، وقد انعكس هذا “الطفح” على المناخ الثقافي سلبيا. ولاشك أن هناك تأثيرا كبيرا لذلك على الفن بل والحياة كلها. ومع ذلك فهذا لا يعني استسلام الفنان للأمر الواقع بل يجب عليه أن يتخذ موقفا حاسما برفضه المشاركة في أعمال هزلية تسئ إلى تاريخه، فأنا كفنانة يهمني بالدرجة الأولى ألا أنفق من رصيدي الفني ولا أخسر ما بنيته عبر تاريخي ولذلك لم يهمني أن بقيت في البيت لسنوات طويلة بلا عمل فهو أهون علي من المشاركة في أعمال هابطة. ويشارك في هذا الرأي المخرج محمد فاضل مؤكدا أن أفضل العصور الفنية كان عصر جمال عبد الناصر وقال للحصاد: لم تكن فيه رقابة بمعناها الصارم كما يتخيل البعض عن تلك الفترة، ولم يكن هناك سوى لجنة مراجعة النصوص، وعاصرت ذلك بنفسي عندما قدمت أعمالا ناقدة لتلك الفترة ولم يلمني أحد. وعندما ننظر لأهم الأعمال الفنية في مختلف أنواعها دراما وموسيقى ومسرح وسينما وإبداعات أدبية نجدها تتركز في تلك الفترة.

أهمية الإنتاج الحكومي

ويشير فاضل إلى أثر احتكار شركة خاصة بعينها للإنتاج الفني على مستوى الأعمال المقدمة ويقول أن الإنتاج التجاري يبحث عن الربحية والمكسب التجاري بينما المفترض أن  العمل في مجال الثقافة والفنون لا يرتبط بتحقيق مكسب مالي فقط ومن هنا تأتي أهمية دور الدولة في الإنفاق على هذه المجالات باعتبارها جزء من الأمن القومي للبلد، ومن خلالها يتأتى الوعي للشعب بالقضايا المختلفة والقومية. لكن للاسف لايمكن خلق وعي قومي بأعمال فنية متدنية تكرس للثراء الفاحش وتجارة المخدرات والعنف والإجرام. ورفض فاضل أن يتحمل مسؤوليته كمخرج كبير مع غيره من الرواد في إنقاذ الدراما مؤكدا أن المسألة تحتاج إلى قرار تنفيذي خارج عن قدراتهم وإمكانياتهم.

وبينما يرى نقاد أن وجود دخلاء على المهنة يتصدرون المشهد مع فراغ الساحة من المبدعين والكتاب البارعين هو السبب في تدهور الفنون باعتبار أن الورق كما يقولون هو أساس العمل الفني، إلا أن المخرج محمد فاضل لا يوافق على هذا الرأي مشيرا إلى وجود مؤلفين كبار ومبدعين من مختلف الأجيال وموهوبين جدد كثيرين ولكنهم لا يجدون الفرصة لأن المنتج يفرض عليهم أنماطا معينة من الكتابات يطلبها منهم. ويكشف فاضل عن أحد أسباب تدهور الدراما المصرية والعربية عموما والذي يتمثل في أن المخرج لم يعد له أي دور أمام طغيان شركة الإنتاج التي تفرض عليه كل شئ من النص للممثلين. وأعرب المخرج الكبير عن أمنياته أن يعود إنتاج الدولة بقوة وعدم السماح باحتكار شركة واحدة، بل يترك المجال مفتوحا للجميع في إطار من المنافسة التي تسهم بشكل كبير في الارتقاء بمستوى الأعمال وأداء الفنانين.

الدراما التركية

في الوقت الذي تعاني الدراما العربية من قصور في بعض جوانبها نجد هناك انتشارا كبيرا للدراما غير العربية من التركية والهندية وصولا للمكسيكية والتي تعتمد كلها على الدبلجة الشامية التي برعت في هذا المجال، حتى قيل أنها سحبت البساط من الدراما المصرية التي ارتبطت بها الشعوب العربية على مدار سنوات طويلة.

الفنانة الكبيرة والمنتجة سميرة أحمد تؤكد أن هناك تأثيرا قويا لما يحدث في واقعنا العربي على المناخ الفني والثقافي وهو ما انعكس خلال العشر سنوات الأخيرة على أحوال الفن والدراما والتي تسببت في توجه الجمهور للدراما التركية. وتقول في مداخلة خاصة للحصاد: إننا نحتاج لدراسة عميقة لغربلة الأعمال الفنية الدرامية الحالية وتخليصها من شوائب كثيرة تطغى عليها كالعنف ومشاهد النماذج السيئة وغيرها من الظواهر السلبية المرفوضة مثل إساءة معاملة المرأة والإدمان التي أصبحت مشاهد مكررة للأسف في أعمال رمضانية غير لائقة. وكم أتمنى أن تحمل المسلسلات قيما راقيه ومشاهد خالية من العنف والعادات السيئة. ومع ذلك فهذا لا ينفي وجود أعمال جيدة تقدم نماذج وطنية بطولية أرجو أن تزداد لتعليم الأجيال القيم الإيجابية والارتقاء بوعيهم وفكرهم وثقافتهم، وحتى لا نضطر الجمهور إلى الذهاب للدراما غير العربية والتي لا تهتم بقضايانا الوطنية والقومية، بل تصدر لنا ثقافتها بسلبياتها وإيجابياتها.

المهرجانات.. والترند!

الفنانة سحر نوح تبدي مشاعر المرارة الكبيرة مما وصلت إليه الحالة الفنية في مصر مؤخرا وتقول للحصاد: ما يحدث الآن أمر طبيعي لأن هناك حالة عامة من التردي انتقلت عدواها إلى الإبداع بمختلف أنواعه، وكنا نرى في الماضة حالة جميلة ومن التنوع الإبداعي في الشعر والأدب والإخراج والتمثيل والموسيقى وحتى في الرياضة أيضا. كما كان هناك وهج فكري وإبداعي في مسارح الدولة والفرق القومية وجهاز التليفزيون وقطاع الإنتاج أما الآن فاختلفت الصورة وأصبح الإعلام نفسه يقدم أعمالا دون المستوى ليتسابق مع الفضائيات بحجة أن الجمهور “عاوز كده” حتى أصبح كثير منه بالفعل “كدة” وصارت محاولات المبدعين مثل الحفر في الماء. هذا بخلاف اليوتيوب والسوشيال ميديا التي جعلت كل شخص ينشر أي شئ مهما كان قبيحا من اجل “الترند”. وأرى أن بداية المواجهة يجب أن تتمثل في اهتمام الدولة بمشروع قومي لا يقتصر على بناء الكباري فقط كما نحتاج إلى صحوه تبدأ من الإعلام والتعليم حتى نستطيع حماية الأجيال القادمة. وتشارك هذا الرأي الدكتورة غنوة محمد الموجي وترى أن هناك تدهورا إعلاميا بجانب التدهور الفني الذي يشمل جميع أنواع الفنون بوجه عام الموسيقى والسينما والمسرح. وبحكم كونها أستاذة بالمعهد العالي للموسيقى العربية، وانتمائها لعائلة فنية أصيلة تقول للحصاد: إن ما نسمع عنه مما يسمى “مهرجانات” ليس فنا وإنما هو تهريج بين ناس “عايزين يرقصوا ويهزروا مع بعض بكلمات ركيكة وايقاعات صاخبة ليس لها علاقة بالأغنية فهي لا تصنف كنوع من الأغاني والدليل أنها تخلو من الجمل اللحنية، وماهي إلا إيقاعات واحدة صاخبة وللأسف إنتشرت بشكل غير طبيعي. وأضافت “الموجي” للحصاد: لو كان والدي موجود كان رفض هذا النوع من الغناء، ولكن للأسف ليس هناك قانون يمنعهم، لكني أعتقد أن مثل هذه الظواهر السلبية ستنتهي مع الوقت وأن الأغنية المصرية الأصيلة ستعود مرة أخرى بشرط التركيز على الأصوات الجميلة والملحنين الجيدين. والدليل على ذلك أن حفل روائع الموجي الذي أقيم في الرياض مؤخرا كان له صدى كبير بين الجمهور المصري والعربي.

الفن الخليجي

وعلى ذكر الرياض ومهرجاناتها الفنية وما تشهده المملكة السعودية من اهتمام متزايد بالفنون كجزء من حالة من النشاط الفني الكبير في منطقة يثور التساؤل عن تأثير ذلك على المناخ الفني العربي. وفي مداخلة خاصة للحصاد تقول الدكتوة ملحة العبد الله الكاتبة المسرحية وعميدة المسرح السعودي: لا أفضل تقسيم الفنون إلى ملحقات ومسميات فيكون المضاف إليه بلدا أو مكانا أو حتى شخصية ذلك لأن الفن حس وإحساس ووجدان إنسانيا لا يحب التصنيف والانقياد فالفن حصان جامح لا يمسك بلجامة أحد كائن من كان. وبخلاف الأراء السابقة تقول “العبد الله”: إن الفنون تحيا نهضة كبيرا جدا سواء في الوطن العربي أو في الخليج وقد يعزي البعض ذلك بالتقدم في التعليم وفي المعرفة والاطلاع بعد ظهور الإنترنت وما الى ذلك، ولكنني أرد ذلك إلى الحراك الشعبي وتحرك الذات نحو الانطلاق والفكاك من قيود كانت تكبل البعض أو تصيبهم بالإحباط حتى صارت هذه الفنون لا تعرف الاستكانة والهدأة ولم تعد ترتبك من سيف الرأي والناقد، وأصبحت شجاعة الفنان هي فرس الرهان في الفنون العربية والخليجية.

شروط لمواجهة التدهور

الناقدة الفنية ماجدة موريس لها رأي آخر في هذه القضية وقالت في مداخلة خاصة للحصاد: لاشك أن هناك حالة من التدهور العام للفن من خلال عدة ظواهر سلبية بعضها يخص مستجدات مثل تأثير السوشيال ميديا علي الناس، خاصة غير المتعلمين وتأثير الافكار التي تدعم التطرف وتسعي لخلق مساحة كبيرة لكراهية الفن والعاملين به. وأضافت أن أوضاع الفنون في اي بلد ترتبط بعوامل وعناصر محددة اولها مدي إحساس الدولة نفسها والقاثمين عليها بأهمية الفن وبالتالي دعمه كعمل ضروري كالتعليم والاقتصاد وكل عناصر بناء الدولة وهو ما لا يحدث الان في مصر ..بل إن قنوات التليفزيون التي كانت تقدم برامج لمناقشة أفلام السينما وبرامج الباليه والمسرح والأدب والموسيقي كلها توقفت بعد نهضة كبيرة في حقبة الستينيات إضافة إلي توقف المدارس العامة التي تضم أبناء وبنات الاغلبية عن تقديم أي نوع من الفنون عكس ما كان يحدث في الماضي. وأكدت موريس في مداخلتها مع الحصاد أن هذاالمناخ أتاح الفرصة لنمو أنواع من الأعمال غير الجيدة في كل الفنون تقريبا مثل أغاني المهرجانات. ومن الممكن أن تسهم الفضائيات ومنافذ الإنترنت في الارتقاء بمستوي الفنون حين تكون هذه الفنون متاحة للجميع منذ الصغر، في المدارس والبيوت لتبني عقل ووجدان المواطن أما حينما لا تكون متاحة، فإن الفضائيات ومواقع الانترنت تفرض ما تقدمه علي الناس مهما كان رديئا ولا يفلت منها إلا المثقفون فقط.

وحول كيفية التصدي لهذا التدهور قالت ماجدة موريس هناك عدة شروط أولها أمانة تقديم الفنون والتراث للمواطنين بدون أي محاباة لمرحلة أو ذوق. وثانيا استخدام التليفزيون والمواقع الرسمية في تقديم الفنون بانتظام وحسن تنظيم لأن الوصول مثلا إلي ١١٠ مليون مصري لا يمكن ان يتم عن طريق الإنترنت وحده، ولكن عن طريق دعم الوسيلة الأكثر انتشارا كقنوات التليفزيون إضافة إلي إعادة الفنون وحصص الموسيقي والرسم وغيرها للمدارس العامة لتصبح تربية الإنسان سليمة فكريا ووجدانيا.