لبنان.. وخرائط الطاقة في شرق المتوسط

أزمة بيروت تقلق المنطقة وتهدد سلاسة خرائط الانتاج والتوزيع

في استغراق لبنان في أزمته السياسية والاقتصادية ما يغيب عن بال الكثيرين أن لبنان بات، منذ إبرام اتفاقية الحدود البحرية مع إسرائيل، جزءا من مشهد انتاج الطاقة الشامل في شرق المتوسط. فعلى الرغم مما تسببه الأزمة من فراغ في موقع الرئاسة الأول بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 اكتوبر 2022، إلا أن استمرار الخلل الدستوري في هذا البلد من شأنه أن يتداعى سلبا على مستقبل ما يعوله البلد على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لا سيما في مسألة البدء في تفعيل عمليات التنقيب عن النفط والغاز في المياه اللبنانية، أو في ما يمكن أن يسببه من أعطال وعراقيل تصيب سلاسة الانتاج والتصدير في منطقة شرق المتوسط برمتها.

اتفاق هوكستاين

نجحت الولايات المتحدة بعد جهود امتدت إلى 10 سنوات في ترتيب اتفاق بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين تم التوقيع عليه في 27 تشرين الأول (اكتوبر) 2022. تولى آخر وسطائها، مبعوث وزارة الخارجية لشؤون الطاقة، آموس هوكستاين إدارة التفاوض بين البلدين ونجح في الحصول على موافقتهما على نص اتفاق ينهي النزاع ويتيح لهما الشروع في تفعيل أنشطتهما في الاستكشاف والتنقيب، وصولا إلى انتاج الطاقة في الحقول الواقعة في المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين.

أنهت الصفقة المبرمة خلافا داخل مساحة نزاع من 860 كيلومترا مربعا. وكان دار جدل في هذا الشأن بسبب مناورة قامت بها بيروت في التراجع عن الخط 23 الذي اعتمدته الحكومة اللبنانية وأودعت إحداثياته لدى الأمم المتحدة عام 2010 وإثارت حقوق جديدة من خلال التلويح بالخط 29 الذي أظهرته خرائط للجيش اللبناني.

الأميركي آموس هوكستاين مهندس اتفاق ترسيم الحدود

وكان يضيف النزاع بين الخطين 1430 كيلومترا مربعا، لكن رفض إسرائيل والولايات المتحدة إضافة إلى الأزمة الاقتصادية في لبنان كانت عوامل ضاغطة أدت إلى تخلي بيروت عما لوحت به وموافقتها على نص هوكستاين للاتفاق النهائي.

كاريش وقانا: المقايضة

وفقًا لنص الاتفاق بقي حقل غاز كاريش الذي يحتوي على ما يتراوح ما بين 40 و 100 مليار متر مكعب من احتياطات الغاز المؤكدة والمحتملة داخل السيادة الإسرائيلية. بالمقابل يحتفظ لبنان بحق السيادة الكامل على حقل قانا والذي لا يوجد معطيات دقيقة حول  ما يختزنه من احتياطات. ووفقا لتوقعات متفائلة فإن التقديرات تتحدث عن احتمال وجود 450 مليار متر مكعب داخل هذا الحقل. وعلى الرغم من أن الاتفاق يعترف بالحقوق اللبنانية الكاملة في حقل قانا، إلا أن جزءا صغيرا يقع جنوب هذا الحقل يدخل في نطاق المربع 72 داخل الحدود البحرية الإسرائيلية.

 ووفقًا للصفقة ، ستوقع إسرائيل ومشغل المربع رقم 9، أي شركة توتال انيرجي الفرنسية اتفاقية مالية منفصلة تحدد الدخل الذي سيحصل عليه الجانب الإسرائيلي من تشغيل هذه المنطقة والإنتاج هناك، بحيث لا يساهم لبنان الرسمي بأية شراكة مباشرة مع إسرائيل في هذا الحقل ويجري تخريج الأمر من خلال اتفاقات مع شركة أجنبية.

في عام 2018 منحت الحكومة اللبنانية تراخيص التنقيب والإنتاج في المربع رقم 9 الذي يضم حقل قانا ​​والمربع رقم 4 في أقصى الشمال لكونسورتيوم دولي يتكون من شركة توتال انيرجي الفرنسية بنسبة 40 بالمئة وشركة إيني الإيطالية بنسبة 40 بالمئة وشركة نوفاتيك الروسية بنسبة 20 بالمئة. غير أن النتائج الأولية للمربع رقم 4 لم تكن واعدة.

منح الجانب الإسرائيلي حق التشغيل في حقل غاز كاريش لشركة انيرجين اليونانية الأصل. كانت الشركة تأسست عام 2007 وتنشط في مشاريع للتنقيب عن النفط والغاز في إسرائيل ومصر وإيطاليا واليونان وإنجلترا. وكان وصول السفينة العائمة التابعة للشركة والقادمة من سنغافورة عبر قناة السويس إلى حقل كاريش قد أثار الجدل في يونيو 2022 وصعّد التوتر بين لبنان وإسرائيل بما في ذلك تهديد حزب الله بقصف أعمال الانتاج في الحقل إذا لم يضمن الاتفاق الحقوق اللبنانية. غير أن حزب الله قدم لاحقا ضمانات لدعم الاتفاق الترسيم.

وكانت شركة نوفوتيك الروسية قد أبلغت الحكومة اللبنانية عن عزمها التخلي عن أنشطتها في المياه اللبنانية والتخلي عن حصتها داخل الكونسرتيوم والبالغة 20 بالمئة. وأعادت الشركة الأسباب إلى العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب الاوكرانية. وقد قامت الحكومة اللبنانية بالاستحواذ على حصة الشركة الروسية على أن تنتقل هذه الحصة وفق توزيع جديد إلى الكونسرتيوم بالشراكة مع الشركتين الفرنسية والإيطالية.

الطاقة في شرق المتوسط

يأتي توقيت إبرام الاتفاق اللبناني متأثرا ومتّسقا مع التغير الذي طرأ على سوق الطاقة في العالم منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022.  ولا ريب أن الضغوط الدولية دفعت للتسريع في التوصل إلى الصفقة بما يتناسب مع التطورات المتعلقة باكتشاف حقول النفط والغاز التي شهدتها منطقة شرق المتوسط منذ سنوات، وبسبب حرب الطاقة التي يواجهها الاتحاد الاوروبي منذ أشهر بسبب الاضطرابات التي شهدتها خطوط التزوّد بالطاقة الروسية سواء بسبب قرار من موسكو أو بسبب قرار الأوروبيين بالتخفيف من اعتمادهم على الطاقة الروسية.

وتلتحق الصفقة اللبنانية الإسرائيلية بسلسلة تفاهمات واتفاقات أنجزتها الدول المطلة على المتوسط لتسهيل لتعزيز الاستغلال المنسق لموارد المنطقة من الطاقة وفق الأمثلة التالية:

– توقيع لبنان على اتفاق لتوريد الغاز مع سوريا ومصر يتم بموجبة تصدير 650 مليون متر مكعب من الغاز

كاريش الإسرائيلي وقانا اللبناني: المقايضة الكبرى

المصري من خلال سوريا للتخفيف من أزمة الطاقة في البلاد.

– الإعلان عن مفاوضات بين شركة الغاز المصرية “ايجاس” وصندوق الاستثمار الفلسطيني لتطوير حقل الغا ز البحري في غزة.

– نشّطت قبرص وإسرائيل المفاوضات للاتفاق على كيفية العمل داخل حقل غاز أفروديت – ياشاي الذي يمتد عبر الحدود بين البلدين والذي يختزن حوال 125 مليار متر مكعب من الاحتياطات المحتملة. وقد تم الإعلان عن اتفاق استثمار مشترك بين شركة نيومد انيرجي الإسرائيلية (30 بالمئة) وشكة شل البريطانية الهولندية (35 بالمئة) وشركة شيفرون الأميركية (35 بالمئة) للبدء بأعمال التنقيب في في هذا الحقل.

-إعلان شركة “كابريكورن انيرجي” البريطانية عن اندماج مع شركة نيومد الاسرائيلية من أجل تعزيز خط الغاز الرابط بين إسرائيل ومصر. وتعمل الشركة البريطانية بنسبة 50 بالمئة في تشغيل أحد أكبر حقول الغاز البرية في الصحراء الغربية في مصر.

– وفي إطار منتدى غاز شرق المتوسط، ثم توقيع مذكرة تفاهم تشمل مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي لتصدير الغاز إلى دول الاتحاد من خلال البنية التحتية للغز المسيل في مصر.

-توقيع تركيا وليبيا مذكرة تفاهم مثيرة للجدل حتى داخل ليبيا في مجال الهيدروكربونات، تنص على التعاون الشامل في مجال التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي وإنتاجهما ونقلهما في المستقبل.

-أكمل صندوق الثروة التابع لشركة مبادلة للاستثمار الإماراتية شراء حصته في حقل غاز تمار الإسرائيلي بدعم مالي كبير من مجموعة من البنوك الدولية.

-أبدت شركة قطر للطاقة بالتشغيل المشترك لحقول الغاز في شرق البحر المتوسط الواقعة في كل من المياه الإقليمية لمصر (مجمع شمال مراقيا البحري) ولبنان (مربع 4 ، مربع 9).

مصالح إقليمية ودولية

تطورت ديناميات الطاقة في شرق المتوسط على نحو سريع. فبغض النظر عن عمل لبنان على البحث عن موارد طاقوية تنتشل البلد من أزمة الكهرباء التي تعود لعقود، فإن دولا أخرى مثل مصر وإسرائيل قد عززت تعاونها من أجل تصدير المزيد من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي.

بالمقابل فإن قوى كبرى في مجال الطاقة مثل روسيا والولايات المتحدة ودول الخليج تملك القدرة على التأثير في

غاز المتوسط حاجة اوروبية ملحة

موازين الطاقة الإقليمية من خلال الشركات والسياسات. وكان لافتا أن تعميق علاقات الطاقة بين مصر واليونان وإسرائيل اعتمد على ديناميات شركات دول في العمل في حقول بلدان أخرى.

وفق هذه الرؤية يمثّل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل دينامية إضافية أخرى لإدارة موارد الطاقة في شرق المتوسط وتطال مباشرة البلدان المنخرطة في سوق الطاقة في المنطقة.

لبنان: بالنسبة للبنان، فإن الصفقة تعتبر مهمة بالنظر إلى ما تتيحه من تفعيل لعمليات التنقيب في حقل غاز قانا، الذي يُفترض أن يحتوي على قدر معين من الموارد على الرغم من عدم وجود احتياطي غاز مؤكد حتى الآن. الاتفاق يمكّن لبنان أيضا من الدخول في شراكات مع شركات دولية ما من شأنه توفير ثقة جاذبة للاستثمارات الأجنبية في الطاقة كما في الاقتصاد اللبناني عامة. والاتفاق سيمنح البلد موقعا مؤثرا في سوق الطاقة في كل منطقة شرق المتوسط. ويمكّن الاتفاق البلد من قطف ثمار مسار طويل لاستغلال موارده من الطاقة وتبريد التوتر بسبب ذلك بين حزب الله وإسرائيل.

إسرائيل: صفقة الحدود البحرية مهمة لإسرائيل يتيح لها الحصول على موارد جديدة لتلبية الطلب المحلي على الغاز، والذي ارتفع بنسبة 145 بالمئة في العشر سنوات الأخيرة والتحكم  بحقول غاز جديدة بهدف تصدير الغاز للاتحاد الاوروبي سواء عبر البنى التحتية المصرية للغاز المسيل أو عبر خطوط الأنابيب التركية مستقبلا.

وتشير بيانات رسمية إلى أنه وفقًا لبيانات يونيو 2022، فإن إسرائيل ، التي تمتلك ما يقرب من 900 مليار متر مكعب (600 مليار متر مكعب وفقًا لتقديرات شركة بريتيش بتروليوم) من احتياطيات الغاز، يبلغ إنتاجها السنوي من الغاز حوالي 10 مليارات متر مكعب، وتقوم بتصدير ما يقرب من 5 مليارات متر مكعب من الغاز لدول الجوار مثل مصر والأردن.

الولايات المتحدة: للصفقة أهمية خاصة لواشنطن من حيث نجاح دبلوماسيتها في أن تكون حصرية في حلّ نزاع مزمن بهذا المستوى بين إسرائيل وجارتها ما يعزز نفوذها في الشرق الأوسط في وقت يروج فيه الحديث عن تراجع الشرق الأوسط في الأولويات الأميركية. ومن شأن الصفقة أيضا أن توفر الإنتاج الآمن لموارد الغاز الجديدة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​من أجل ضمان أمن الطاقة للاتحاد الأوروبي وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.

من ناحية أخرة فإن من مصلحة الإدارة الأميركية أن تفتح حقولًا جديدة محتملة لشركة شيفرون للطاقة، وهي المشغل والشريك في حقول الغاز الإسرائيلية ليفياثان (احتياطي 600 مليار متر مكعب) وتمار (احتياطي 300 مليار متر مكعب)، وحقل أفروديت في جنوب قبرص (125 مليار متر مكعب احتياطي).

فرنسا: الصفقة تعزز تلاقي مقاربة باريس في تعزيز التحالفات الإقليمية وضمان أمن إمدادات الطاقة في الاتحاد الأوروبي كما مراقبة مصالح شركة توتال انيرجي الفرنسية العملاقة للطاقة. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أكد لنظيره اللبناني ميشال عون إثر إبرام الصفقة، على التزامات توتال بالتنقيب عن النفط والغاز في لبنان.

تركيا: ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يساهم في توسيع جبهة التعاون في مجال الطاقة (إسرائيل ، فرنسا، مصر، إيطاليا، الولايات المتحدة) مع لبنان. وقد يستنتج من الأمر خطط لتعزيز جبهة دول شرق المتوسط من أجل تعزيز سبل تصدير غاز شرق المتوسط إلى الاتحاد الأوروبي دون تمريره عبر تركيا. ومع ذلك ، فإن القرار الاستراتيجي، الذي ستتخذه إسرائيل والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بشأن طريق تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا في المستقبل، يمكن أن يكون لصالح تركيا عندما يكون حجم الصادرات 25 مليار متر مكعب بدلاً من الحجم السنوي الحالي البالغ 10 مليار متر مكعب.

الحد الأقصى للتصدير السنوي لمصر وإسرائيل بعد تلبية الطلبات المحلية المتزايدة في هذه المرحلة وتشغيل مرافق الغاز الطبيعي المسال بكامل طاقتها يمكن أن يلبي 2 بالمئة فقط من إجمالي الطلب في أوروبا و 6 بالمئة من الحجم الذي يستوردونه من روسيا. كما أن زيادة صادرات إسرائيل من الغاز إلى أوروبا من 10 مليارات متر مكعب إلى 25 مليار متر مكعب لا تتطلب فقط تطوير حقول غاز جديدة، بل تعتمد أيضا على الخيارات التي سيتم بوجبها تصدير الغاز. ففي حالة زيادة حجم الغاز المراد تصديره، قد لا تكون قدرة محطتي تسييل الغاز الطبيعي المسال إدكو ودمياط في مصر، اللتين لا تتجاوز طاقتهما السنوية الإجمالية 17 مليار متر مكعب كافية. وقد تفرض مثل هذه الوقائع الموضوعية خيار تصدير غاز شرق المتوسط ​​إلى الاتحاد الأوروبي عبر تركيا عبر خطوط الأنابيب. كما أن فعالية العلاقات التي ستطورها تركيا مع دول المنطقة مثل إسرائيل ومصر، وفعالية تدابير بناء الثقة المتبادلة ستكون أيضًا حاسمة في هذه العملية.

أزمة لبنان السياسية

الواضح من خلال مراقبة تطور المشهد الطاقوي لمنطقة شرق المتوسط، أن الدول المعنية، سواء الدول المشاطئة للبحر المتوسط أو الدول المنخرطة في عمليات التنقيب، مدركة لضرورات تنسيق المواقف وتفعيل شبكات انتاج مشتركة كشرط وقاعدة لرفع مستوى الانتاجية والكفاءة والاستفادة من وفورات الغاز والنفط داخل مياه المنطقة.

ووفق هذه المسلّمة فإن “الاستثناء” اللبناني يشكّل شذوذا عن القاعدة وقد يكون معطّلا لها في المستقبل لما لسلاسة شبكات الانتاج من أهمية قصوى أيا كانت المحطات المركزية للتوزيع والتصدير.

ويعرقل الاستعصاء السياسي اللبناني سلاسة اتخاذ القرارات المرتبطة بعمليات التنقيب والانتاج والتعامل مع شركات الطاقة الدولية، وبالتالي تأخير وإرباك إمكانات تدفق الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع. وتعطل الأزمة السياسية المعطوفة على كارثة اقتصادية تاريخية لم يشهدها البلد منذ استقلاله عام 1943 طبيعية العلاقة مع دول العالم لا سيما المحيط العربي وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي. فغياب حكومة في لبنان وتعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية يصدّع كل العملية السياسية وامتداداتها القانونية والدستورية.

تحتاج القرارات الكبرى إلى اجتماع الحكومة اللبنانية، ذلك أنه وفق الدستور اللبناني المعدّل والمنبثق عن اتفاق الطائف لعام 1989، فإن جل السلطات تنتقل إلى الحكومة مجتمعة بعد أن كان جلُّها مناط بالرئاسة قبل ذلك. لكن اجتماع الحكومة بات متعذرا وحساسا بعد أن تحوّلت الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال منذ الانتخابات التشريعية التي جرت في أيار (مايو) 2022 وتعذَر تشكيل حكومة جديدة كاملة الصلاحيات. يضاف إلى ذلك وجود فراغ في موقع رئاسة الجمهورية لم يعد يسمح بانتاج حكومة جديدة.

ويعود جانب من أزمة انتخاب رئيس للجمهورية إلى تشظي البرلمان اللبناني (مجلس النواب) بعد الانتخابات الأخيرة وعدم قدرة أي فريق سياسي على فرض أو حتى ترجيح مرشح من خلال اقترع النواب. علما أن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان لا يتم من خلال الاقتراع الشعبي المباشر، بل عبر اقتراع غير مباشر يقوم به البرلمان.

وفق المشهد البرلماني لا يملك التحالف الذي يقوده حزب الله بحكم الظروف السياسية المحلية الدولية فرض انتخاب رئيس معين بالطريقة التي جرى فيها انتخاب ميشال عون عام 2016، بحيث لا يبدو أن سيناريو السلاح والاعتصامات واقفال البرلمان هو احتمال ناجح وقابل للتطبيق.

ويعتبر مرشح حزب الله “الطبيعي” الذي لم يعلن رسميا هو الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية. ويقدم فرنجية نفسه حليفا لـ “المقاومة” وهي الصفة التي تطلق على حزب الله حصرا في لبنان، ومخلصا لهذا النهج. بالمقابل فإن جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر وصهر الرئيس السابق ميشال عون، هو أيضا مرشّح غير رسمي للرئاسة. الأمر الذي يمثّل حرجا للحزب بسبب الحلف الذي يجمع الحزب والتيار تحت سقف ما يسمى ” تفاهم مار مخايل” تيمنا بالكنيسة التي جمعت عون بزعيم حزب الله حسن نصر الله  في 6 فبراير 2006 لتوقيع الاتفاق.

وقد وفّر هذا التحالف غطاء مسيحيا كان يحتاجه الحزب بعد تسرّب معلومات عن تورطه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، وهو أمر أيدته المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وأصدرت فيه حكما. والظاهر أن ميل الحزب لدعم حليفه فرنجية على حساب حليفه باسيل تسبب بأزمة في علاقات حزب الله والتيار الوطني الحر.

أما القوى المناهضة للحزب فتصوت داخل البرلمان في جلسات الانتخاب التي بدأت في 29 سبتمبر 2022 لصالح النائب ميشال معوض، وهو سياسي نجل رئيس الجمهورية رينيه معوض الذي اغتيل عام 1989. وكان معوض ضمن “تحالف 14 آذار” الذي تشكّل بعد اغتيال الحريري وكان مناهضا لـ “تحالف 8 آذار” الذي كان يقوده حزب الله. لكن هذا التصويت ما زال ضعيفا ورمزيا قد تطيح بحظوظه أي صفقة يتم الاتفاق عليها تنضم إليها كتل تصوت لمعوض منها الكتلة النيابية التي تعود زعامتها لوليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي.

التدخل الخارجي

وعادة ما تتدخل العواصم الخارجية لانتاج صفقة تقود إلى انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان أو دعم رئيس تتفق بشأنه الطبقة السياسية اللبنانية. غير أن الانقسام الدولي الحالي بسبب الحرب في أوكرانيا وأولويات أخرى في العالم تمنع توافقا خارجيا سهلا بهذا الشأن، خصوصا أن سوابق الضغوط الخارجية كانت تجري بالتوافق مع قوى إقليمية

الفشل في انتخاب رئيس للجمهورية يقلق سوق الطاقة المتوسطية

نافذة في الشأن اللبناني. وهو أمر غير متوفّر حاليا بسبب الخلاف الإيراني مع المحيط العربي لا سيما مع السعودية، وهما طرفان يمتلكان مصالح ونفوذ داخل لبنان.

غير أن الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والذي تمّ بإشراف ورعاية ووساطة أجنبية ساهمت بها كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وأهمية هذه الصفقة الدولية على مستقبل إنتاج الطاقة في لبنان وإسرائيل كما لدى بقية دول شرق البحر المتوسط، معطوفا على انسداد داخلي لبنان يمنع انتخاب رئيس للجمهورية، أعاد تفعيل جهود دولية تقوم بها فرنسا بموافقة الولايات المتحدة لتسهيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي.

ويعوّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على استمرار تواصل بلاده مع حزب الله على الرغم من إدراج الحزب على لوائح الإرهاب من قبل دول داخل الاتحاد الأوروبي من ضمنها ألمانيا، وعلى علاقات تواصل مع إيران على الرغم من توترها مؤخرا بسبب الحراك في إيران واعتقال سلطاتها موطنين فرنسيين. ويعوّل الرئيس الفرنسي على علاقات شخصية ممتازة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سهّلت استقبال ولي العهد لرئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي في 11 ديسمبر 2022، الأمر الذي شكّل سابقة نادرة في التواصل السعودي اللبناني على هذا المستوى منذ سنوات . وتأمل فرنسا في ترتيب صفقة رئاسية تحظى بموافقة القوى الفاعلة داخل لبنان وخارجه.

وفي غياب التوافق الداخلي يعيد البطريك الماروني بشارة الراعي الدعوة إلى تدخل خارجي من خلال مؤتمر دولي. وفي العجز محليا عن الاتفاق على مرشح سياسي تتجه الأنظار إلى مخارج تطرح بديلا عسكريا قد يكون مقبولا من قبل الداخل والخارج من خلال انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسا للجمهورية. والأمر ليس سابقة منذ اتفاق الطائف، فقد سبق انتخاب إميل لحود (1998) وميشال سليمان (2008) وكانا قادة الجيش.

 ويحظى العماد جوزيف عون بعلاقات ممتازة مع الولايات المتحدة التي استقبلته عدة مرات من ضمن الدعم الذي تقدمه واشنطن للجيش اللبناني وسبق أن أشادت به على رأس المؤسسة العسكرية اللبنانية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد استقبل عون في قصر الاليزيه في باريس في 26 مايو 2021 في أول سابقة لقائد جيش لبناني. وكان جوزيف عون قد زار قطر في 10 ديسمبر 2022 لأسباب رسمية تتعلق بدعم الجيش. لكن توقيت الزيارة

مصر وتركيا: التنافس على المركز الإقليمي لتوزيع الغاز

أوحى بدور قطري في هذا الملف قد يكون مسوّقا لقائد الجيش عشية زيارة ماكرون للدوحة، خصوصا أن شركة قطرللطاقة مهتمة بالحصول على حصص شركة نوفاتيك الروسية في عمليات التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية بعد انسحابها من الكونستريوم مع الشركتين الفرنسية والإيطالية. ويحظى عون بقبول مبدئي من قبل كافة القوى السياسية اللبنانية في حال تعذّر الاتفاق على شخصية سياسية، ويشمل هذا القبول حزب الله الذي تؤكد أوساطه أن لا “فيتو” ضد شخصه على الرغم من انتقاد نصر الله مرارا علاقات واشنطن مع الجيش اللبناني.

على أيه حال فإن سوق الطاقة في شرق المتوسط يعمل بايقاع متقدم وفق اتفاقات تجريها الدول المعنية. بعض هذه الاتفاقات يصطدم مع اتفاقات أخرى لكن الأمر ما زال قابلا للحل وفق تفاهمات نهائية شاملة. غير أن الاستعصاء اللبناني قد يصبح استعصاء يهدد سيرورة السوق وقواعد تشغيله، ذلك أن شرق المتوسط منطق واحدة تتداخل على خرائطها الحقول والمنافذ التوزيع ولا تحتمل أن يتم تعطيلها بسبب ما يختزنه لبنان من أزمات في رأس السلطة وفي بناه وهياكله المالية والاقتصادية.

يعرقل الاستعصاء السياسي اللبناني سلاسة اتخاذ القرارات المرتبطة بعمليات التنقيب والانتاج والتعامل مع شركات الطاقة الدولية، وبالتالي تأخير وإرباك إمكانات تدفق الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع. وتعطل الأزمة السياسية المعطوفة على كارثة اقتصادية تاريخية لم يشهدها البلد منذ استقلاله عام 1943 طبيعية العلاقة مع دول العالم لا سيما المحيط العربي وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي.

يأتي توقيت إبرام الاتفاق اللبناني متأثرا ومتّسقا مع التغير الذي طرأ على سوق الطاقة في العالم منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022.  ولا ريب أن الضغوط الدولية دفعت للتسريع في التوصل إلى الصفقة بما يتناسب مع التطورات المتعلقة باكتشاف حقول النفط والغاز التي شهدتها منطقة شرق المتوسط منذ سنوات، وبسبب حرب الطاقة التي يواجهها الاتحاد الاوروبي منذ أشهر بسبب الاضطرابات التي شهدتها خطوط التزوّد بالطاقة الروسية سواء بسبب قرار من موسكو أو بسبب قرار الأوروبيين بالتخفيف من اعتمادهم على الطاقة الروسية.

عادة ما تتدخل العواصم الخارجية لانتاج صفقة تقود إلى انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان أو دعم رئيس تتفق بشأنه الطبقة السياسية اللبنانية. غير أن الانقسام الدولي الحالي بسبب الحرب في أوكرانيا وأولويات أخرى في العالم تمنع توافقا خارجيا سهلا بهذا الشأن، خصوصا أن سوابق الضغوط الخارجية كانت تجري بالتوافق مع قوى إقليمية نافذة في الشأن اللبناني. وهو أمر غير متوفّر حاليا بسبب الخلاف الإيراني مع المحيط العربي لا سيما مع السعودية، وهما طرفان يمتلكان مصالح ونفوذ داخل لبنان.