محمد فائق … رجل القيمه والموقف

  تحتفل به مؤسسة بطرس غالي بصفته رجل العام

اقامت مؤسسة بطرس غالي(KEMET) للسلام والمعرفة احتفاليتها السنوية بتكريم الوزير الأسبق محمد فائق ،وقد شغل كذلك موقع الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان من عام 1986حتى عام 2008 وعضو مجلس أمناء المنظمة من عام 2008  حتى الآن. كان ايضا وزيرا للأعلام في العهد الناصري. كان تكريمه باعتباره ( رجل العام )، و الرجل في تقديري يمكن أن ينظر اليه باعتباره تجسيدا لمعنى (القيمه)،وهو الرمز الحي لمعناها ومبناها على

محمد فائق يجلس في منتصف الصف الاول
ضمن الرعيل الأول لتأسيس جهاز المخابرات العامه المصريه

السواء .أنه ليس مجرد وزير اسبق، أو أمينا عاما لحقوق الانسان ،لكنه في حقيقة الأمر وبالنسبة للأدوار التي لعبها هو (رجل المهام الصعبه والمواقع الهامه والمواقف النبيله) . أنه الرجل صاحب الصوت الخافت الهامس ،والموقف الصلب الصارخ العنيد . محمد فايق  رجل تاريخي بمعنى الكلمة، لأنك لا يمكن ان تختزل مسيرته في موقع واحد أو مهمة محددة، أو موقف جسور طارئ. أنه كل ذلك ،فهو معجون طوال مسيرته بالكرامة الوطنية والكبرياء القومي  والأنفه الذاتية ،وكانت تلك أساسيات كل تصرف أقدم عليه ، وهي صفات في مجملها تشكل  محاولة لتلخيص مشواره الوطنى والقومي والشخصي على تعدد مواقعه ،فلا الحكم والسلطه والنفوذ نالت من بساطته وتواضعه ،ولا السجن وطول السنين بين الجدران عبث بصموده ،وايمانه بقناعاته ولا البعد عن الحكم وأبهته نالت من ترفعه وثوابته . كان على الدوام قناعة فكرية تتحرك ،وأصالة  وجدانيه تتنفس، وقيمة انسانية تتصرف.

اطلالة على سيرته الذاتيه

ارتبطت علاقته بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر منذ عام 1951 حين كان يدرس التحركات العسكرية في دورة تدريبيه وهو في درجة ملازم اول بالقوات المسلحه ،يحصل في أثر اجتيازها على درجة يوزباشي (نقيب)وكان استاذه الذي يقوم بالتدريس هو (جمال عبدالناصر)،ونتيجة لمناقشات متعددة جرت،وأدت الى الكثيرمن التفاهم ،توطدت

عبدالناصر يكلف محمد فايق بالوزاره

العلاقة بينهما ،وبعد الثورة اختير ضمن مجموعة من الضباط تحت قيادة زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة لتأسيس جهاز (المخابرات العامة) لأول مرة في مصر عام 1954 .

حين اعلن جمال عبدالناصر في حديث صحفي مع الكاتب المعروف رئيس تحرير مجلة ( اّخر ساعه) في ذلك الوقت عن الدوائر الثلاث التي تمثل في قناعاته محاور اساسية للثورة المصريه وهي الدائرة العربيه والدائرة الافريقيه والدائرة الاسلامية،وقد تم، اصدارها بعد ذلك في كتيب ( فلسفة الثورة ) .هنا انطلق محمد فايق الى العمل مع الزعيم الراحل ،وكانت الساحة الأفريقيه هي موطن عمله ،وبؤرة اهتمامه .واذا استطردنا في الحديث عن مهام محمد فايق في افريقيا ،وسياسة عبدالناصر فسوف تبتلع كل سطور هذا المقال ،ولا تنتهي . ان محمد فايق يصف عبدالناصر انه لم يكن فقط قائدا للثورة المصريه ،ولكنه كان زعيما لحركة تحررعالميه ،كانت افريقيا احد ميادينها الشاسعه، مع التأكيد على ان عبدالناصر لم يصدر الثورة لأفريقيا أو لأي مكان في العالم ،وانما دعم حركة الثورة في افريقيا ،وساند الثورة الجزائريه ،وقاتل مع الثورة اليمنيه وكان الهاما لثورات أخرى في العالم ،ونتذكر مقولة فيديل كاسترو في امريكا الجنوبيه ( كانت الثورة المصريه الهاما لنا في كوبا ) وقال قوامي نكروما زعيم غانا ( أدركنا بعد حرب السويس ان في استطاعة الشعوب الصغيرة ان ترفع صوتها وتقول لا ) .يمكننا ان نتحدث كثيرا عن ما جرى في اوغندا وغينيا ونيجيريا والكونغو ونلسون مانديلا وسيكوتوري وموديبو كيتا وجوموكنياتا وغيرهم ممن ربطتهم علاقات وثيقه مع مصر توطدت عبر معارك التحرير التي كان يساندها عبدالناصر وذراعه الأفريقي محمد فايق. وأثمرت تلك العلاقة من المسانده والتعاون في اطار حركة تحرير افريقيا الى الكثير من النتائج المثمرة ،وتركت اّثارها في ذلك التعبير من بعض قادة حركات التحرر الافريقيه نحو دور مصر ،مثلما اطلق سيكتوري (اسم عبدالناصر على الجامعه في كوناكري) . بل وحين التقي قائد الانقلاب على نكروما في غانا الجنرال ( انكرا) بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر في احد المؤتمرات الافريقيه وقال له لقد سمحنا لقرينة نكروما فتحيه رزق بالخروج من غانا وهي تحمل كل مجوهراتها لأنها مصريه تقديرا لك يا والدي ،وقال له عبدالناصر لماذا تناديني بوالدي وأنا اصغر منك سنا ياجنرال فرد عليه قائلا ( لأننا نعتبرك والد لأفريقيا كلها يا والدي). كان محمد فايق هو الذراع الطولى لعبدالناصر في تلك القارة التي تفجرت فيها الثورات بعد ان وجدت من يساندها بقوة واقتدار.قصص كثيرة يمكن ان تروي عن انقاذ نيجيريا من حرب اهلية او كشف المخططات الاسرائليه في تنزانيا،وتصاعد حركة الثورة على الاستعمار ،وأيضا توفير احتياجات الدول الحديثة العهد بالأستقلال بالخبراء والفنيين ، وكذلك تلبية احتياجاتها الأقتصادية ،من خلال عملية تصدير للمنتجات المختلفة بأسعار شديدة التواضع بالنسبة للواردات الأجنبيه لتلك الدول ،ودور شركة النصر للتصدير والأستيراد ألمصريه التي كان يقودها محمد غانم ،وذلك بالتنسيق مع محمد فايق وغير ذلك الكثير والكثير والكثير .

كان محمد فايق أيضا الضابط الجسور الذي يتخفى في ثياب الصيادين ،ويتسلل الى بور سعيد اثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956،ليلتحم بقوى المقاومة الشعبيه ،التي تشكلت أثر الأنذار البريطاني الفرنسي بابتعاد الجيش المصري عشرة كيلوات عن قناة السويس  بعد مهاجمة اسرائيل لمصر والتحام الجيش المصري في معارك ضارية معها في سيناء ،أثر تأميم قناة السويس بثلاثة شهور  . رفض عبدالناصر هذا الأنذاروقال مخاطبا المواطنين المصريين ( أيها الأخوة لقد فرض علينا القتال،ولكن باسم شعب مصر ،باسمكم جميعا أعلن للعالم أجمع أنه لن يوجد من يفرض علينا الأستسلام ..سنقاتل ..سنقاتل ولن نستسلم أبدا ). دخل محمد فائق،ودخل معه اّخرون من القوات

محمد فايق يرأس احد الوفود

المسلحة متنكرين في ثياب الصيادين عبر بحيرة ( البرلس) لدعم حركة المقاومة الشعبيه ،وكانت البطولات التي سجلها المقاومون ضد قوات الغزو البريطاني الفرنسي مما سطرت ،يوميات المقاومة من صفحات من البطولات كانت تتصدر نشرات الاخبار،

تقلد محمد فائق وزارة الارشاد القومي، التي اصبحت وزارة الأعلام فيما بعد ،وعمل على اصدار نشرة خاصة تتضمن تلخيصا سريعا لأهم الأخبار التى تتصدر الصحف الأجنبيه والعربيه ،حتى توفر امكانية متابعة الأحداث التي تجري في العالم،وتوزع على كبار المسؤولين .كما أنشأ وظيفة المتحدث الرسمي لأول مرة ،وقام بتعيين مراسلين للأذاعة المصريه في الخارج ،اذ كانت مصر في تلك الفترة تموج بالحركة الثوريه في المنطقه ،ووصفت القاهرة بعاصمة دول العالم الثالث ،ومن هنا كان التلاحم بين حركة الاعلام في الداخل والخارج امرا حتميا .

محمد فائق ومرحلة الرئيس السادات

كان محمد فائق وزيرا للأعلام في اطار الحقبة الناصريه ،وذراع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في افريقيا ،وجاء الرئيس السادات الى الحكم ،وكان يمكنه ان يقوم بتغيير وزاري ،ويختار من يشاء لكي يتعاون معهم في اطار مرحلة جديدة،ولكنه شاء أن يختلق مؤامرة من النخبه التي كانت تمارس الحكم بجوار عبدالناصر،لكي يطيح بهم من خلال مؤامرة اختلقها ،وقدمها الى النيابة العامة ،فلم تجد فيها اي وقائع يمكن الاستناد اليها ،وبالتالي كان تقريرها سلبيا،لايرضى الرئيس ،فأحالها الى المدعي العام الأشتراكي الذي قام بتعيينه ،وأنشأ لها محكمة خاصة ( محكمة الثورة) باعتبارها قضية سياسية في المقام الأول ،وأصدر الأحكام بمعرفته على رفاق عبدالناصر،ولكي يتفرد ويتفرغ  لتغيير سياسات عبدالناصر ،ويسير على خطاه ( بأستيكه ) دون ان يجد من يعارضه ان لم يكن يردعه . قبض على محمد فايق وأودع السجن ،وعلم وهو في السجن أنه قد تم القبض على محمد عروق مدير صوت العرب ،وجورج اسحاق المراقب العام للشؤون السياسيه وسعد غزال مسؤول برنامج الجزيرة العربيه بنفس الاذاعة صوت العرب ،ويتم التحقيق معهم ،فأرسل وهو رهن التحقيق رسالة الى الرئيس انور السادات يقول له فيها ان اي اتهام يوجه الى

محمد فايق يلقى كلمة
المنظمة العربيه لحقوق الانسان

اي  عنصر في وزارة الاعلام اعلمكم ابتداء انني المسؤول الأول عن ذلك الاتهام فهم ليسوا سوى موظفين ينفذون تعليمات الوزير،وعلى ذلك فهم لم يرتكبوا اي جريرة،وأنا الوزير المسؤول الأول. بالطبع عن اي تصرف لهم ،صال وجال المدعي العام الاشتراكي بتلك الرساله من على منصة الادعاء ،باعتبارها اعتراف من( المتاّمر) محمد فائق،وصدر الحكم بالسجن عشرسنوات لمحمد فائق،وسبع سنوات لمحمد عروق مدير اذاعة ( صوت العرب) وذلك بهدف هدم تاريخ تلك الأذاعه التي لعبت دورا شديد الثراء في الاعلام العربي وحركة التحرر العربيه ،والسجن لمدة سنه مع ايقاف التنفيذ لكل من جورج اسحاق وسعد غزال .الموقف الاكثر اثارة في تلك الحقبه لمحمد فائق أنه بعد مرور أكثر من أربع سنوات على سجنه ،بعث له الرئيس السادات برسول يقول له ان الرئيس السادات يرغب في الافراج عنك ،فرد عليه محمد فائق شكرا للرئيس ،لكن وفق القواعد الشكليه ،يطلب الرئيس ان تكتب له رسالة تعتذر فيها ،وتطلب الأفراج . رد عليه محمد فائق أن ما يطلبه الرئيس لا افهمه ،فعن اي شيئ اعتذر،فأنا لم ارتكب ما اعتذر عنه ،واعتذاري لسبب مجهول لدي يجعلني استرد حريتي ،ولكن أفقد احترامي لذاتي ،وعلى ذلك فانني أفضل السجن واحتفاظي باحترامي لنفسي وظل محمد فائق في السجن لمدة عشر سنوات كاملة ،فقد دخل السجن في اتهام المؤامرة المزعومة في 13 مايو عام 1971،وخرج مرفوع الرأس في 13 مايو عام 1981. ولحقد دفين عليه تم اعتقاله مرة اخرى بعد حوالي ثلاثة اشهر ونصف من خروجه ،في اطار الأعتقالات المكثفة التي قام بها الرئيس السادات ،فقد اعتقل أكثر من ثلاثة اّلاف مواطن من النخب السياسية والصحفيه والدينيه والشعبيه ،وظلوا بالسجن حتى اغتياله ،وافرج عنهم الرئيس الأسبق حسني مبارك في اطار فتح صفحة جديدة مع القوى الشعبيه بعد شهر تقريبا من تسلمه للسلطه .

محمد فائق و العمل العام

كان الرجل مسؤولا عن الاعلام ،لذلك كان ولعه كبير بالمعرفة والثقافة فأنشأ دار المستقبل العربي للنشر والتوزيع، وكانت تلك الدار منارة كبيرة في عالم النشر والتوزيع معا ،وتعاملت مع الكثير من الكتاب الكبار،وكذلك الذين في أول الطريق ،وسدت فراغا كبيرا في عالم النشر والثقافة  .وشغل محمد فايق موقع رئيس مجلس ادارة جريدة ( العربي) التي أصدرها ( الحزب الناصري)، وهنا أورد رأيا للأستاذ الجليل الراحل احمد بهاء الدين في بداية تشكيل الحزب الناصري اذ قال لي في حوار شخصي (أنني أري أن أصلح القيادات الناصريه لتولى قيادة الحزب الناصري هو الأستاذ محمد فايق ،ففي قناعتي أنه قادر على عبور الكثير من المشاكل وألأزمات التي اتوقع ان تصادف هذا التشكيل خصوصا في بداياته حتى تستقر الأوضاع وتكون هناك قواعد للحركة وللعلاقات الداخلية في الحزب أو خارجه ). ثم تطورت حركته في اطار تعظيم حركة حقوق الانسان، وكانت البدايات عقد المؤتمر التأسيسي للمنظمة العربيه لحقوق الانسان الذي عقد  في قبرص ( ليماسول ) عام 1982 بمبادرة من مثقفين من مختلف الدول العربيه ،كان من رموزها محمد فايق وخير الدين حسيب وشخصيات عربيه ومصريه أخرى  تمتلك صوتا عاليا في ارساء حركة حقوق الانسان ،وقد تولى رئاسة المجلس القومي لحقوق الانسان في 22 اغسطس عام 2013 .

محمد فائق .. سيرة ومكانة

يندر تماما ان تجد رجلا استغرقت المسؤوليات والمواقع المختلفة كل مسيرته ، ولاتجد له خصوما بالمعنى المعروف والمتداول ،ويندر كذلك ان تجد مسؤولا يسارع بالذود عن معاونيه لحمايتهم الى حد اتهام نفسه وتعرضه لأقسي انواع العقاب ،ويندر ثالثا ان تجد انسانا قد تحصن بالمبادئ والقيم ،مهما كان مدى الخسارة او التضحيه التي تلحق به . انه محمد فائق الصوت الخافت الى حد الهمس في علاقاته الاجتماعيه ،والتصرف الحاسم والباتر والقاطع العالي الرنين في ساعة الجد . أنني اتشرف بأن أقول انني أعرف هذا الرجل .