لماذا لا نتذكر فؤاد الشطي؟

لا كل ما حدث يروى . ولكن ثمة أحداث لا تتوقف أمام متضمناتها اللفظية ، لذا وجب أن تروى . بالأيام الأخيرة من حياة المسرحي الكويتي فؤاد الشطي ، أصر على أن ندور حول العالم على غداء متأخر . أرسل سائقه إلى الفندق حيث أقيم في الكويت ، ضيفاً على مهرجان المونودراما جديد جمال اللهو المفتون بهذا الفن ، ليطير بالسيارة فوق الطرقات وعند مقاطعها . استعمل السائق كل مواهبه لكي نصل . وحين وصلنا وجدت مائدة لا تسعها صورة بصرية سريعة ، ما دفعني إلى الظن أن الغداء غداء موسع . ثم بعد دقائق وجدت أنني الوحش الوحيد بالغابة . هبط الرجل بطريقة عمودية بعناصره المرهفة ، لأجد نفسي في حالة عمل . قال أحد أبرز المسرحيين الخليجيين والعرب في صباح ذلك الصيف الذائع ، أنه وميض لغة المسرح لم تعد تمر أمامه منذ مدة ، أنه ترك شواهد الطرقات لسائقه لأنه لم يعد يخرج إلا لواجب عزاء أو واجب لا يتطلب الخروج اعتباطاً.

فهمت أن فؤاد الشطي أضحى كدون كيشوت ، وأنه ترك سيفه ورمحه وروحه في شراع الطاحونة . لن يخرجني أحد من منزلي سواك ، قال . وقال ، أنه لن يسرد سلسلة من الأفكار تدور في رأسه ، ليترك لي حرية كتابة نص مسرحي بفكرة من رأسي . هكذا مر الكلام كما يمر النسيم على شجرة . أعرف أن الرجل لا يحب التجريد لا في درجة عالية من درجاته ولا في درجة دنيا. ازددت قناعة بأنه يريد طيراناً شاسعاً في الجمهور ، حين قال أن العمل الجديد شراكة بينه وبين عبد الحسين عبد الرضا ، الممثل غير المحتاج إلى التعاريف. ممثل يواجه العبء الثقيل لحب الجمهور له .فؤاد يريد عملاً شعبياً إذن . قال أن العمل لرمضان ، وأن على العمل أن يمتلك ساقين رشيقتين، لأنه سوف يستغرق حضوره في الشهر الكريم . عروض ما بعد الإفطار . هذا كاف لكي اتزود بالمعالم الواضحة للعمل . لم أشعر بالحاجة إلى إيضاح المزيد ، لأنني أعرف كيف تدور فلسفة هذا الرجل وكيف تدور . ببيروت وجدت المسرحية الجنية في مكتبتي . جرة الذهب للكاتب الروماني بلاتوس ، كوميديا اجتماعية تدور حول رجل في حالة غرام وهيام مع جرة ذهب . مسرحية خفيفة ، جميلة ، سهلة ، شائقة . وجد فؤاد في ايجادي المسرحية موهبة ، حتى راح يجرها إلى تفصيلاته الحيوية في مجموعة من الإتصالات الشفافة . ولكنني ما أن التفت إلى النص حتى وقعت على خبر منشور في صحيفة كويتية ، حول كيف تستدرج داعش المحالين على التقاعد للعمل في صفوفها . هذه مادة لمسرحية أكثر حادثة ، لا علاقة لها بالتجليات الأخيولة . استغرب ، ولكنه لم يمانع الإنتقال من نص إلى نص في بوتقة كيميائي اختاره هو نفسه .مذاك ربط كونه بكوني باتصالات هاتفية يومية . لم أقدم ذلك النص الإنعطافي ، نص حلم به ينأى عن مسرحياته القديمة ، غير أنه أحب ما قرأ بين الفكاهة والحزن في نص بعنوان ” بانيك اتاك ” . قال أن بمستطاعه أن يمدحه أكثر بعد عودته من المانيا ، حيث سيجدد صفحات حياته في فحوصات شاملة يجريها هناك . ثم ، إثر العودة سيحدد نوع الأشكال اللازمة لهذا النص. ولكن الرجل مات في خلال واحدة من المفارقات وهو يجري فحوصه في المانيا ، ما حول النص إلى مخزون .

لن أدخل في سماوات أفلاطونية إذا ما قلت أن الرجل مذ مات ، مات وكأنه لم يولد ، سوى في احتفال يتيم بالذكرى الأولى على غيابه أقامه المسرح العربي حيث أدار مجلس إدارته على مدى أعوام طويلة .ها هو على طريق عدم الاستقرار في عام غيابه السادس بالدخول إلى السابع ، وكأنه لم يجسد علومه لا في الإدارة ولا في الإخراج والآداء . كأن لم تربطه صلة خاصة بعالمه ، بمحيطه ، بعشرات المسرحيات القوية في احيان ، الرهيفة في احيان من ” التحقيق ” إلى ” بالهشكل يا زعفران ” ومن ” رحلة حنظلة ” إلى سلطان للبيع وخروف نيام وطار الفيل ونورة وأوبريت والله زمان وبعض الدرامات التلفزيونية والإذاعية . لم يعد الرجل موجوداً حتى على صعيد المركبات الأولية ، حاله كحال المسرحي المغربي الطيب الصديقي والمسرحي التونسي المنصف السويسي والمخرج المسرحي السوري فواز الساجر وغيرهم من شكلوا جزءاً من إثارة الكون في المسرحي في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين . إنه نوع من تعسف العالم المعاصر وهو يمهر هؤلاء بالنسيان . نوبة ارتباك يصاب بها الأشخاص الأصحاء فجأة ، على النقيض مما ظهروا عليه . هذا نوع من أنواع القطع لا يجيده سوى الأخوة الأعزاء في العالم العربي . وكأن من مات عضو في أخوية انفرطت حين مات ، وحين انفرطت فقط وسيلته للبقاء كانسان اندفع في الحياة قبل أن يندفع إلى الموت .

مات فؤاد الشطي عن واحد وستين عاماً ، مع أن العمر لا يعبر عنه بالأرقام . ترك ريبرتواراً مسرحياً يقرأ بعملياته الصارمة كأحد محركات عالم المسرح ذي المنطق والأسلوب . ثم أن الرجل استطاع أن يشاهد المسرح من جميع جوانبه ، لا جوانبه الإبداعية فقط . شاهده من جانبه الإجتماعي والسياسي والفكري . لم يره سوى محاطاً بتدرجات مقاعد الجمهور . الجمهور أرض فؤاد الشطي، حتى في أكثر أعماله تجريداً أو سريلة. علماً أن معظم أعماله على النقيض من ذلك . أعمال ميالة إلى الواقعية أو الواقعية السحرية .

انهى فؤاد الشطي عروضه الوامضة، بعرضه الحياتي الختامي .ختام علقه على الأجسام السماوية وهو لا يزال يحلم بالأرض وناس الأرض والمسرح ما أزهر حين مد يديه إليه . فجأة شوهد الرجل يطفو في السماء بعد أن ملأ المسرح بأدبه ومخيلته وتأثيراتهما على حركة المسرح الكويتي والخليجي . ختام حياة صارم ، أكثر تأثيراً من المخيلة الأدبية ذاتها . حدث الأمر حين لم يستجب الجسد وه. يقطع العالم بين عالمين . حين لم تستجب الشمس إلى البزوغ ، ذهب الرجل إلى ما بعد السكون، حين لم تستجب الشمس إلى البزوغ في صباحه الأخير على عادتها في صباحاتها الأخرى . ما ظن أحدٌ ، أن فؤاد الشطي، سوف يستسلم إلى الموت، بعد أن ترك أشجاراً من الدعوات على كوكب المسرح . كل شجرة نبضة. كل شجرة جذع وأغصان وأجسام أخرى تدور على الضوء والظل . ما ظن أحد ٌ أن الشطي ، المعروف بدبيب النمل في دمه سوى يخلف تحديداته وأشخاصه في نوع من أنواع غياب لا مهرب منه .لقد بكَّر بالرحيل ، بدون أن يمر بالتغيرات البسيطة قبل الغياب . لم يوَّدع أحداً، لأنه الأدرى ، بأن الوداع نوع من المقايضة ( كره المقايضات باستمرار) .وهو صادم لكل من يخادع الهواء الضاحك بالسموم . لم يدَّل “وحش الحياة” إلى فضاء ، إلا وجمع معه الوعي وضرورة حضور الوعي في البواعث والمواد المندفعة من عالم إلى عالم . وعي المرجعيات والثقافات العميقة، بالمسرح ، بعيداً من التأويل، وفي فؤاد فكرة التوازن بين مجالات الطيران . مسرح العالم . لم يكتفِ بالوعي وحده، لأن الوعي وعيَ. لأن الوعي ، وحده ، إذا جاع ، أكل أعضاءه. لأن الوعي عقدة الضرورة فقط ، بين نظريات التلقي واستجابات المشاهدين . دَّق على خدود الأفكار . سكب ماء أباريقها . أخذ ما بدا وترك ما لا يخفى. هذه استراتيجيته. استراتيجية إهداء الناس الذات ، ذاته . لا غير ذلك ، يفتتح الجهات .

روى الرجل أن إذن قبيلة ، هاجرت من العراق إلى الكويت واستقرت فيه ، حيث جعلهم الكويت شيئاً آخر ، شيئاً يتعلمون صيد السمك لا التفرج على من يصطادونه . بفضل هذا المنطق والأسلوب أضحوا على النقيض من أنفسهم السابقة . أضحوا في الأبعاد لا الأرقام. واذا ما اعتبر المسرح الكويتي طائرة ، فؤاد الشطي. أحد القادة في الأركان المكشوفة والأركان الخفية ، مع ثلة من الأصدقاء السعداء والمعذبين . لأن المسرح يسعد ويعذب . ثم أنه جريء حد رفع الكؤوس على شرف التجارب الأخرى . يضبطها ، ثم يرفع الكأس على شرفها ، ثم يمدها بما يستطيع مدها به . حين شاهد فرقة الحكواتي مع ” من حكايات ١٩٣٦” في دورة من دورات مهرجان دمشق المسرحي وجد في الفرقة الأمل وفي بيانها إجازة العبور إلى مسرح مختلف . لم ينظر إليها كمراهق رومانسي ، حين جاء بوفد من فرقة المسرح العربي ، لكي يتلمسوا روح الفرقة ، ثم تجري دعوتها لتقديم عروض مسرحيتها في الكويت .

استرجاع الماضي ضرورة . لأن العيش العودة إليه تجنب الحروق . لا مضيعة للوقت عند فؤاد الشطي. لديه من الوقت للهو والعيش على هواه ما أبقاه في جموحه يشبع متطلبات الشغف ، بدون أن يفرض هيمنته على أحد . بيروت عنده كالكويت ، لا تلتقي المدينة بالأخرى ، لأن المدينتين مدينة واحدة على جمال المسافة بينهما . صراع بدون إعياء ، هذه استراتيجية الشطي. استراتيجية لطالما أبتعد بها عن ندوبه الشخصية . ذلك أنه لم يقف على مسافات حذرة ، لا مع منتج ولا منهج ولا شخصية ولا دراسة . فجأة حوَّل بيان فرقة الحكواتي اللبنانية إلى بيانه ، ثم دعا مجموعة من الأسماء العربية الوازنة آلى الكلام على جذور وأصول تحدراته ، كعبد الكريم برشيد شيخ الإحتفالية . كل شيء ذي جدوى له شقة في مبنى فؤاد الشطي العامر باللقاءات . العمر عنده مسألة اختيار . العمر قضية فكرية ، لا ما استجد وما قد يستجد . يده في يد الآخر ، يمضي به في شوارع المسرح ، ثم يعود به إلى المنزل . لا ضرورة لكي أؤكد ، لأن الجميع يؤكد أن الرجل لم تأخذه عواصف الغير ولا راقب نفسه على صفحات المرايا . حداثي وتراثي وكل ما احتاج وما يحتاج إليه . ولكنه لم يكن يوماً فلكلورياً، حتى ولو اعتبر في مرحلة من المراحل أن جمالات مسرح زكي طليمات إشارة سير ، لا يمزح بحمل الآخرين على الظن بها، مذ شدا الرجل في الكويت مقتسماً القهوة مع رجال مسرحها . أقام طليمات نوعاً من التواطؤ بينه وبين المسرح الكويتي ، حتى أضحى التواطؤ هذا مجموعة من العادات ، يعتبر بعض مسرحيي الكويت تخطيها نوعاً من الخطايا . فؤاد الشطي واحد من هؤلاء ، حتى أدرك بعد التجربة الطويلة المكتسبة ، أن ثمة ما استجد في غياب طليمات.بحيث اشتغل على الطبيعانية والتغريب والواقعية السحرية والفانتازيا المسرحية . وفيٌ على جثته ، ولكنه لم يعد يشدو بالأغاني الرائجة منذ قفز عن استقراره على ما تركه طليمات ووجده الكويتيون لا مثيل له ، حتى استفاقوا ذاهلين على ما جمعهم بابتهاجات المسرح الأخرى ، بعد أن أضحوا أخلياء بال من عاصفة المسرحي المصري المعروف. الإستقرار عبودية . ثم أنه بقي يصبو إلى اللقاءات المفعمة بالعافية والقوة والرخاء والرجاء والشغف والتجدد في العلاقات بين دول العالم العربي والعالم الإسلامي ، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب .

هرول الرجل في الزمن ، لكي لا يهرول الزمن فيه. هرول كحلم في منام ، مدركاً أن الحلم غير المنام. الحلم من المنام . المواطن واحد عنده. عنده: الخارطة واحدة.خارطة ككلام طويل ما على أصحابها سوى أن يجدوها متاحة للجميع ، بعيداً من الرجعية ، البخل ، الصرامة ، التزمت ، التنغص، النعوت الجاهزة . هذه ليست لعبة بين البحر والدلافين ، هذه حقيقة مهلكة تدور بين الرطوبة والقيظ أفنى لأجلها فؤاد الشطي جزءاً من عمره القصير ، جزءاً من قربه من البحر . . أرهق الأمر جسده وعاطفته و روحه، ولو أنه بقي شاسعاً، فسيحاً ، كشرفة .

أول الكلام : فؤاد الشطي قومي عربي، لا يكره ولا يخاصم تحت قمر ليل أو ضوء نهار . آخر القوميين العرب . ربط ملامحه بقوميته العربية ، باستخدام ما امتلكه من نحو . هذا مأثوره، لا مرحلة أفلاطونية . الأهم أنه ما عاد مقلداً وهو يقود قضاءه وقضاء فرقة المسرح العربي بعيداً من المظاهر البيروقراطية وارتداء الصديريات والبدلات الجاهزة . إنه كخليفة عادل .لم يجد في التلفزيون مركزاً للتجارة ، حين هيأ نفسه للعمل فيه أول الأمر ، ليلائم بين أحلامه وذائقة الجمهور . غير أنه ، لم يبق على مقربة من شواطئه طويلاً، بعد أن زين بعض أعماله بنقوشه كأوبرا أيام زمان . واحدة من الدرامات الحافلة بازدحامات الشطي الجمالية . “صبي ٌ كسر المنظرة” دراما أخرى. الدراما أنثاه الجميلة ، حوريته ، سواء في المسرح أو في التلفزيون . لم يجد وعيه ولا فرادته وجدارته في أصص الإعلام ،بعد أن درسه في جامعة كولومبيا ، بالولايات المتحدة الأميركية. ذِكره المسرح، فيلته ببلاطها من الأخزاف الملونة . علم ٌ أعلى ، بقدرة أجَّل . هكذا وجده ، منذ أن وُجد بفرقة “المسرح العربي “بالعام ١٩٦٣. ثم ، وجد نفسه ، عفواً أو قصداً في أمانة السر ، وهي برج مزود بتليسكوب يرى من خلاله سفن المسرح وهي توسو على شاطئه . وهو بلهجته الصاخبة ، الدائرة بلهجة تبدو فيها الحروف الساكنة كالحروف المتحركة ، لم يترك قاعة الانتظار في أمانة السر ، لأنه لم يهدأ فيها ، ليضحي الرئيس على المسرح ، حيث لم تعد ذبذبات الهواء مناحة مذاك . المسرح عكازه . عصا الرجل الأعمى . فضاء الطيور المهاجرة . وجد قِش الأمنيات بفكرة أن من لا يحب المسرح ، يَنقُص ُ وطنه أو يسير على خطوط يديه كمغترب أو يصاب بقلق وجودي . المسرح أساس اللغة عند فؤاد الشطي ، لا أساس الكلام. الفرق بين الإثنين ، قبض اليد على الهواء أو الصورة . كل خصم للمسرح خصمه، على نحو حر أو نحو منتظم بدون عجز أو حيرة .

رفيق صقر الرشود ضد الظلم والتفاوت . لم يتهم الرشود بالعمل على اندلاع ثورة أخرى ، لأنه اشتغل على اندلاعها منذ ” حفلة على الخازوق”. مات الرشود في حادث سير وهو لا يزال بعد في مقتبل مشروعه . كما كان الشطي بعد أن فتح صندوقاً من صندوقي المسرح . بالصندوق الآخر ما يعجز عنه الكثيرون سواه . خسارتان مؤسفتان ، حين زجهما الموت في عشه . خسارتهما خسارة دماغين من أدمغة المسرح الكويتي حيث المسرح نشاط طبيعي بعد سنوات من الكد والجهاد والعمل، ضرورة لا ظاهرة .

فؤاد الشطي ذو نظرة غير مبرأة، لأنها لا ترى إلى الأشياء بحيادية. الحياد موت عنده.الشطي داخل البيت، غير أنه أب عائلة ، لا يتألف سكانها من أهل البيت وحدهم . سكان البيت أهل البيت وكل من لا يرى نفسه آمناً، أمام النمائم الصغرى . بلل الرجل ، ذو اللباس التقليدي ببلاده وخارج البلاد( لم يرتدِ اللباس الأوروبي إلا نادراً ، لأنه وجد بارتداء لباس الآخر، نوعاً من أنواع الخبث ، وسيلة انتشار خادعة ) . ثم أنه واقعي ، لم ير أن بمقدور المسرح أن يسقط الأنظمة الديموقراطية ولا أن يدعم الدكتاتوريات الوحشية ولا أن يخدم مصالح النخب ولا أن يبث الرعب في الشعوب ولا أن يتقدم متذرعاً بحج المشاركة في الحروب الباردة والساخنة . ولأنه أدرك طبيعة الأشياء بالمزاولة ، وجد يتنافر مع ما تم وضعه من نظام ، منه ومن الآخرين ،ارتفع فوق الكلاسيكيات إلى الواقعيات المعروفة من أهلها بملامحها الصخرية ،إلى التجريب مع “رحلة حنظلة”. وإذ وجدها المسرحيون أصلية لا مخادعة في اعتمادها التغريب واللعب والاحتفال ، منحها مهرجان بغداد المسرحي جائزة أحسن عمل مسرحي بدورة العام ١٩٨٥. ابتعد العمل عن جغرافيا العبث القدري في مسرحيات الواقعية والواقعية السحرية عند الشطي ، إلى اللعب المسرحي. مسرح في المسرح. بحر واحد من بحور . لن يمشط المسرحي مسرحاً أقرع بمشط مكسور. اجترح الشطي ” مسرحه الآخر” مذاك. قدم “القضية ” في أيام قرطاج المسرحية، ما وجدته الأيام من اختصاصه من قبضه على مزايا التعبيرية الكثيرة ، لتمنحه بجائزة أفضل تقنية( ١٩٩٢). خروج من الشرانق الضيقة والزجاج اللماع لمسرح قديم ، إلى رحاب التشكيل الجديد. لم ينوجد الرجل على مسند مرتفع ، على الرغم من أنه مطلع على خواص نبات المسرح ويملك هبة علاجها بيديها . كأنه بقي في ولادته الأولى ، ضد الصرامة بحيث لم يرفض أحداً من خطاب المسرح . لا هم له سوى أن لا يتوه في ذاكرة المسرحي ذكرياته ، بعد أن اندلعت حمى التجديد في حقبته الجديدة . لن يتدهور المسرح بعد في صمت . لن يحتل قسماً من المنزل ، بعد أن أضحى المنزل نفسه . سوف يعزي ما اتخذه لنفسه إلى وقوفه ضد ما يسمى “عثملة المسرح” . ولأن المسرح أرمل الحب عنده راح يشغل شوارعه في الكويت وخارج الكويت ، بعيداً من الأفكار الكولونيالية ، بعيداً من الأفكار الاستعمارية . “بالهشكل يا زعفران” مد ٌ لأسلاك الإبداع المكهربة بين دولتين ، دولة لا تصغر من قدرها حين تستعين بالأسماء الجميلة ومبدع من دولة لزمت نفسها نقل أسر المسرح من دولة إلى أخرى، لا من طبقة إلى أخرى . ذلك أن ” بالهشكل يا زعفران ” أخرجها الكويتي / العربي فؤاد الشطي بإسم الإمارات العربية المتحدة . لا تجويف ولا غموض . أراد أن ترتدي الأمارات ثوب العرس في المسرحية هذه على قواعد بعيدة من الاستهلاك ، بالمساهمة في أخذ المسرحيين الإماراتيين من التذرع إلى حرية الطهو ، طهو مسرحياتهم الخاصة باعتبارهم طاقم العمل الأساسي ، لا مجموعة من الديكة تذبح إثر العرض . فكر تنموي ، يقود إلى مستقبل أجمل . فهم الموارد المحلية والابتكار على كفاءاتها وحلولها الإجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية والإنسانية . ” القضية خارج الملف” واحدة من مسرحياته المحمولة على متن طائرته الخاصة . افتتان مفاجئ بالتعبيرية ، لا نزوة، لأن سرعة المسرحية إلى هذا المنهج سرعة لا انتحارية من فهم الشطي لعناصر التعافي فيها لا ما يؤدي إلى ملازمة الفراش من كثرة الصداع . حركة تشكيل على مفاهيمها الأساس ، ما يقود عناصر العرض إلى الإرتجاع إلى الأشكال الهندسية ، في واحدة من طلعات الشطي الشعبية . الإرجاع إلى الأشكال الهندسية ، ولكن على العواطف والمشاعر لا على التجريد ، تجريد الأشكال وهي في مغامرتها الخليقة بها. سمح السائق أن يدخل بنفسه إلى سهل التعبيرية ، بعد أن فرض على نفسه الحجر في الواقعية الخشنة على مدى زمن طويل .لم يبدل قرميد سطح المنزل وهو يغادر فكرة ازدهار زكي طليمات في الكويت . ابتعد عن ما بلغه هناك ، بدون سب أو فجور . إشتغل على تسييل التقاليد القديمة برؤية جديدة . اشتغل على المسرح بالمسرح. اشتغل على السينما بالمسرح، حركة الكاميرا الخفية، المونتاج، الإضاءة. تحرر ، بالكثير من الأوقات ، من مقتضيات الحدث الدرامي. أضفى عليه روحاً جديدة ونسيجاًلا يجمده . أعطاه حرية حركة . حركة تكبح خوفاً من أن تقع بالإفراط. ساءل الرجل ذاته قبل أن يسائل الآخرين . لم يجادل هؤلاء، بعنف. لأنه قرن سلوكه الشخصي بسلوكه المسرحي ، ما قاده إلى النضال في سبيل الحرية، حريته وحرية المسرح ، على مراحل . كل مرحلة تقود إلى مرحلة. مراحل مهمة جدا. أعمال ما بعد واقعية ، جمع فيها بين الواقع والميتولوجيا ، بين الواقع والرمزية المخففة، بين المسرح واللعب على المسرح بعد كشف أسرار اللعب ، بعد التأليف ، على الجمهور . لم تختفي الحدود الممكنة للتقاليد الشعبية في مسرحياته في النص والموسيقى وتلميع الإخراج بالمهمات الوظيفية لا بالمهمات الثقيلة ، المجانية .

مضى أبو أسامة، خلف الصوت الخاص، بعيداً من التعرض لاعتداءات النسخ هو النفس أو عن الآخرين . حقق الكثير. لأن مرجعيته مرجعيتان. مرجعية ثقافة النص المسرحي ومرجعية ثقافة العرض المسرحي ، على ثقافة التواصل لا ثقافة التشفير. القصدية الثقافية بأعماله واضحة، لا لَبْس فيها. لذا، تتغير قصديتها من متلق إلى آخر ، بين ضروب الخطاب وأشكال وأساليب السلوك. هكذا ، لم يخضع فؤاد الشطي مسرحه، للعقائد الدينية والإجتماعية والأخلاقية، لأنهاموجودة، لا كدرس ، كحقل من حقول المعرفة الإنسانية. صحيح أنه لم يمل إلى النو والكابوكي أو البيوميكانيك ولا السريلة أو التجريد ، غير أن أعماله ذات مرجعيات لا تدل على ذاتها بالتضمين . المسرح الإغريقي بكل أنيابه العلامتية. مسرح بريشت . المسرح التعبيري. وإذ فقد التواصل بالآخرين ، انسحب بهدوء، لأنه لا يريد أن يقع المسرح في التظاهر، بعيداً من شبكات المعاني الأولية والثانوية فيه. وإذ لم ترضه الفودفيلات الدارجة ذات حقبة في الكويت بعد أن وجد فيها علامات المرور نفسها تتكرر بلا هوادة، لم يروج لها بعد أن وجدها واحدة من المظاهر الوحشية للرأسمالية. ولأنه وجدها جزءاً من حياة سياسية راحت تتهافت بعد أن راجت فيها فكرة اغتنام الفرص، كما تروج السيارات . لم يتصالح مع الحياة السياسية المتهافتة.

مات فؤاد فجأة، وكأنه يخرج في نزهة . لملم جسده وطار إلى هولندا بالطريق إلى ألمانيا. مات في هولندا ، بعيداً من تدابيره الموضوعة فوق قدور الماء المغلي دوماً. جاء موته محملاً بوقوع العالم العربي في الاتناسب الطردي . اذاك بدا كئيباً، كطفل مسكين حرم من صدر أمه . بآخر اتصالاته أنه ترك نص بلوتوس في الكافوروأنه سرسب على “نوبة ذعر “( سرسب :سهر) .لا رواية بعد، بموت بطل الرواية. لم تمته الأحداث الدراماتيكية بالكويت، حين أصر على البقاء فيها، أثناء إجتياح الجيش العراقي لها واحتلالها .واحدة من أزمات الإحتلال ، إحراق مكتبته. وإحراق أحد أبرز أعماله: ” مسرحية عربية” لبول شاوول ، ما نوى تقديمه مع فرقة عربية جامعة . أغلق سقف صندوقه عليه ومات . رجل الآمال وتثمين الإبداع وأنسنة الإدارة(العضو العربي الأول بالهيئة العالمية للمسرح – ساهم في تأسيس اتحاد المسرحيين العرب والإتحاد العام للفنانين العرب.)، العاطل عن الصيد ، عابر مضائق القسمة والتفريق بين العرب،غادركطائر طري،في أنابيب العواصف ، قارئاً على فلسطين السلام ، بعد أن تركها معظم العرب تتآكل في الهجير، بين الذمم الصهيونية الواسعة واختراقات النسيان.