محمود الخطيب والرحلة المستحيلة من عين الحلوة الى كلّية إيتون في بريطانيا

عين الحلوة – لبنان

جاد الحاج

ماذا يجري في كلية ايتون البريطانية؟ أغلى معاهد التاج وأكثرها شهرة وأفضلها نوعية لجهتي السلوك والمردود العلمي، منحت خيرة متخرجيها لمجلس العموم البريطاني والحكومات المتعاقبة على 10 داوننغ ستريت . . .  يتسم السباق بالحصول على فرصة للدراسة في ايتون بمزيج من الجهد المبالغ واليأس المتوقع، ذلك أن أعداد الذين يفشلون في امتحانات الدخول الى المدرسة القريبة من قصر ويندسور  يبلغ أضعاف الذين ينجحون. مع ذلك، وعلى رغم المستحيلات الكثيرة ، مادية وعنوية، تمكّن محمود الخطيب المولود في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، من كسر الطوق الذهبي والدخول الى ايتون عبر منحة دراسية و وهامة مرفوعة،  وسبحة طويلة من الصلوات والامنيات العائلية.

كان على محمود أن يعاني زحمة الرحلة القصيرة الخانقة بين مدخل المخيم ومقهى الانترنت في قلب صيدا كي يكتشف أن ايتون وافقت على قبوله في صفوفها.   أمه وجدته  مواليد  1948   ووالده وعمته لم يسمعوا يوماً بمعهد ايتون.   وحين أخبرهم محمود انه تقدم بطلب الالتحاق بذلك المعهد بعدما برع في العلوم والرياضيات وحصل على منحة من صمؤسسة الايمانش خارج المخيم، لم يفهموا عمّا يتكلم الفتى. بمساعدة اتحاد الشبيبة اللبنانية الذين ساهموا في تحسين لغته الانكليزية، دُعي محمود الى التقدم بطلب التحاق رسمي بإيتون. ساندته مؤسسة  »كوجيتو« المهتمة بتقصي البارزين في تحصيلهم العلمي من مراهقي الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وغني عن القول أن محمود خاض معركة شرسة لبلوغ إيتون، لكنه تخطى الحواجز والمعوقات وبعد مقابلة معه في لبنان وأخرى في ايتون جرى قبوله واستقباله هناك منذ سنتين.

 اليوم ينتظر محمود علامات الرياضيات والكيمياء والفيزياء واللغة العربية المتوقع أن تكون كلها ممتازة. من الطبيعي ان يشعر والديه بالفخر والاعتزاز، مع ذلك يبتسم محمود ويقول:  »لا أظن أنهم استوعبوا تماماً ما حصل. حاولت كثيراً ان اشرح لهم…«  وحين وصل اخيراً الى

كلّية إيتون في بريطانيا

عين الحلوة وفتح حقيبته أخرج منها ملابسه المعهدية المتمثلة بمعطف طويل الذيل وصدرية وبنطلون مقلم، كي يريهم بزته الرسمية كما قال. أما بالنسبة الى أقاربه فعمته وحدها حصّلت دراسة متقدمة في مادة الآداب وهي التي استطاعت أن تدرك المعنى البعيد لوجود محمود الفلسطيني اللاجئ في أعرق مدرسة في بريطانيا. رفاق صفه في إيتون ذهبوا الى أماكن عطلهم المعروفة: جنوب فرنسا، توسكانا، اسبانيا الخ… أما هو فعاد الى المخيم ليمضي عطلته هناك. قال لرفاق صفه انه  سيمضي عطلته مع أصدقائه القدامى لكنه لم يخبرهم عن صعوبة التحرك داخل عين الحلوة ومشقة الخروج والدخول، وأخطار التنقل بين مختلف جهات المخيم والضغط الدائم من كل حدب وصوب   فالجيش والشرطة اللبنانيان لا يحق لهما دخول المخيمات الفلسطينية، بينما يفسح في المجال للهاربين من العدالة للاختباء فيه.   ثمة مناطق لا يستطيع دخولها محمود  حيث عمليات القتل يومية تقريباً، والمشاحنات الدموية قائمة بين الفصائل ما يؤدي غالباً الى سقوط ضحايا بين المدنيين:  »عشت في هذا المكان 16 سنة وعلمت نفسي كيف أرى الجانب المشرق من الحياة. نعم انه مكان خارج القانون ولا كهرباء فيه، وكثيراً ما تنقطع المياه أو تأتي ملوثة، إلا أن الواقع يعني اننا كلنا هنا معاً نشارك المعاناة نفسها«.

غني عن القول أن محمود يشعر بالامتنان لحصوله على تلك الفرصة، إلا أنه لا ينكفئ مرتاحاً ولا يبحث عن تسلية بل يصرف وقته بتدريس الرياضيات والفيزياء لطلاب المخيم الذين مهما برعوا لن يتمكنوا من الحصول على وظيفة مرموقة في لبنان بسبب القوانين المرعية الاجراء. إضافة الى ذلك يساهم محمود في مشروع تنظيف المخيم وتدريب سكانه على تدوير النفايات. وقد تعوّد  المساهمة الاجتماعية لدى دراسته في ايتون، إذ كان يقوم بزيارات منظمة لبعض العجزة، يساعدهم في شؤونهم اليومية ويخفف عنهم وطأة وحدتهم:  »لقد أحسست أن ايتون غيرت حياتي ولدي شعور قوي بضرورة رد الجميل« يقول محمود.

خلال انتخابات حزب العمال سنة 2005 في بريطانيا ظهرت مقالات مفادها أن أحداً من طلاب ايتون القدامى لن يصل الى رئاسة الحزب بسبب سياسة ديفيد كاميرون التي أنزلت أسهم المعهد الى مستوى منخفض لم تبلغه من قبل، وايضاً بسبب لجوء كاميرون الى توظيف عدد كبير من زملائه السابقين في ايتون، ناهيك عن بعض الحوادث الفوضوية التي تناقلتها الصحف عن عدد من طلاب ذلك المعهد والنقد القارس الذي اصابهم وأصاب أهلهم الاثرياء  »المرتاحين على وضعهم«. على أثر ذلك شعر الرأي العام البريطاني ببدء ثورة هادئة لكنها وطيدة في ايتون، فالمعهد الذي انطلق منذ 578 سنة بهدف تدريس 70 صبياً من الفقراء استنهض  الروح القديمة التي جاءت به الى الوجود، واليوم يحصل 79 من اصل 1300 طالب إيتوني على تعليم مجاني بالكامل، علماً ان قسط الفصل الواحد يبلغ 13.600 جنيه استرليني! ومما يعني ان المعهد سوف يساهم بـ4.2 مليون استرليني وصولاً الى 6.49 مليون مع نهاية 2018. وتأتي موارد المنح الدراسية من أرباح المدرسة والمساهمات الخارجية والمؤسسات الداعمة لها لا من اقساط الطلبة.

لكن يجدر السؤال ما اذا كانت تلك الهبّة الكريمة نتيجة لحاجة المعهد الى ترميم الصدوع التي اصابته في الحقبة الاخيرة. يقول مدير المعهد سايمون هيندرسون:  »ان مناخ العولمة الذي طاول كل حقول الانتاج والثقافة في العالم تأخر بعض الشيء في التأثير على مسار الامور داخل معهد ايتون وذلك بسبب سمعته المميزة وأسعار أقساطه المرتفعة، لكن القفزة النوعية التي أحدثناها أخيراً طاولت مختلف الحقول الدراسية وبحثت عن المجلين والناجحين والواعدين من كل اقطار العالم، ما يعني اننا فتحنا ابواب ايتون عمداً لكل من يستحق الفرصة«. وأعطانا هيندرسون اسماء تحاكي نموذج محمود الخطيب. مثلاً دانيلو ديلا كروز، والده ميكانيكي  هاجر من الفيليبين الى بريطانيا مع عائلته. نجح دانيلو ولمع في المدرسة مظهراً موهبة موسيقية واعدة جداً، وعندما توقفت مدرسته عن اعطاء دروس موسيقية تدخلت مؤسسة  »اوركسترا للجميع« وأخذته تحت جناحها، وسألته ذات يوم إن كان يحب إكمال دراسته في ايتون. يقول دانيلو:  »لم أكن  قد سمعت بإيتون من قبل )ويضحك(. فكرت أنها مدرسة عادية ربما لديها اوركسترا كبيرة ولم أكن أعرف اننا سنكون داخليين بل ما كنت اعرف ان في بريطانيا مدارس داخلية! وعندما دعوني لألقي نظرة قلت لنفسي نعم أريد الانضمام الى هذا المعهد. هنا الجميع موهوبون ومتحمسون جداً لمواهبهم«. في النتيجة يكمل دانيلو دراسته بمنحة من أندرو لويد ويبير ولا يتكبد أهله مجرد فلس واحد لتعليمه.

وفي إيتون  اليوم عدد آخر من التلاميذ المماثلين من كاتماندو ومن أوروبا الشرقية ومن مناطق فقيرة في بريطانيا مثل كراملينغتون على مقربة من نيوكاسل. ويذكر أخيراً أن محمود حصل على منحة جديدة لأربع سنوات في جامعة  »بريتش كولومبيا« سيعود بعدها الى المعهد الملكي للقيام بأبحاث في الهندسة البيوكيميائية.

 السؤال الأخير: هل شعر أولئك الغرباء بالانتماء العادي والطبيعي الى معهد ايتون؟ كلا. يقول محمود. صلم يكن الامر بهذه السهولة، لكن للوقت طاقة غريبة على تغيير ما لا يبدو قابلاً للتغيير للوهلة الأولىش.

01

الباحة الخارجية

02

المعهد الموسيقي في ايتون

03

الممرات ومساكن الاساتذة في ايتون )2(

04

محمود الخطيب