ما بين البترودولار والتكنودولار

الدكتور إبراهيم الحريري

17-08-2018

علمونا بأن المنتصر هو الذي يكتب التاريخ على هواه ولكن هذه المقولة لا تصح بحاضرنا ومستقبلنا وهي منفصلة عن الواقع والصحيح أن المنتصر  يكتب التاريخ والسياسة والاقتصاد وكل كل شي ويتحكم بها ويسخرها لصالحه وخدمته على المدى القصير والبعيد ويكون ذلك عبر اتفاقيات ومعاهدات ملزمة للدول المهزومة يجعل هذه الدول تدور بفلك الدول المنتصرة وتتبع لها بطرق مباشرة أو غير مباشرة مما يحول الانتصار الأني إلى انتصارات تتكاثر وتزداد كلما بعد تاريخ الانتصار وليس العكس وخير ما نتناول به  في بحثنا هذا الانتصارين بالحرب العالمية الأولى والثانية وما تبعها من أتفاقيات ومعاهدات ملزمة.

بالحرب العالمية الأولى فبعد انتصار الدول الغربية على الرجل المريض كما يروق للكثيرين أن يسموها دولة العثمانيين تم توقيع عدة اتفاقيات للاذعان والاستسلام ولتكفل تقدم الدول المنتصرة بالعقود التالية للانتصار وتم ذلك ووقعت اتفاقية لوزان واتفاقية سايكس بيكو.

و بالحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء فيها صاغوا عدة اتفاقيات ومعاهدات ملزمة لكل دول العالم وليس فقط للمهزومين وأنشؤوا منظمات تقود العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا وفكريا وغيرها واليكم  الحكاية ومعاهداتها ومنظماتها:

الامم المتحدة ومجلس الامن: حيث سيطرت الدول المنتصرة سياسيا وعسكريا على العالم برضاه وحصر القرار العالمي بيد خمس دول هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وهم المنتصرون بالحرب العالمية الثانية مما أصبح من حقهم كتابة تاريخ العالم بتوافقية وماهية عالية مع خططهم وسيطرتهم ونفوذهم.

 أما اقتصاديا فقد عقدت اتفاقية بريتون وودز:)Bretton Woods( الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من 1 إلى 22 يوليو 1944 في غابات بريتون في نيوهامبشر بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة. وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. وتمنى الممثلون إزالة العقبات على المدى الطويل بشأن الإقراض والتجارة الدولية والمدفوعات. وقد رفع مؤتمر غابات بريتون خططه إلى منظمتين دوليتين هما: صندوق النقد الدولي)IMF( والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وقد عمل الصندوق على تشجيع الاستقرار المالي الدولي وذلك من خلال توفير المساعدات قصيرة الأجل لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزا في ميزان المدفوعات،  وقد أعطى البنك قروضا دولية ذات آجال طويلة خاصة للدول ذات النمو المتدني

لقد تأسست الاتفاقية من أجل استقرار سوق الفوركس وتنظيمه. وافقت البلدان المشاركة على المشاركة في المحافظة على قيمة عملتها في نطاق هامش ضيق مقابل الدولار وسعر مماثل من الذهب عند الحاجة. لقد ربح الدولار مركزا عاليا كعملة مرجعية،  يعكس التغير في الاقتصاد العالمي من هيمنة أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. لقد منعت الدول من تخفيض قيمة عملاتها لتستفيد تجارتها الخارجية ولم يسمح لها إلا بتخفيض عملاتها بنسبة أقل من 10. الحجم الكبير من المتاجرة في الفوركس دوليا أدى إلى تحركات ضخمة لرؤوس المال،  التي نتجت عن العمران بعد الحرب خلال الخمسينات،  وأدت هذه التحركات إلى عدم استقرار سعر الفوركس الذي وطده ببرتون وودز.

  بموجب الاتفاقية أصبح الدولار هو المعيار النقدي الدولي لكل عملات العالم حيث تعهدت أمريكا بموجب تلك الاتفاقية وأمام دول العالم بانها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات والولايات المتحدة الامريكية هي الضامن لمن يسلمها 35 دولار  تسلمه أوقية من الذهب.

مما شجع الدول على جعل خزائنها وبنوكها المركزية خاوية من الذهب والمعادن الثمينة الاخرى واستبدالها بالدولار لما له من قوة وهيبة وضمان…

و استمر الوضع على هذا الحال  حتى صدمة نيكسون  )Nixon shock( ببداية  السبيعينات حيث خرج الرئيس الامريكي نيكسون  صادما العالم  أجمع بأن الولايات المتحدة لن تصبح ضامنه لتغطية الدولار بالذهب

وصدم العالم بأن الولايات المتحدة ستطبع الأوراق الخضراء من فئة 10 و100 و500 دولار بدون تغطية وتبيعها مقابل الذهب وكل السلع لكل دول العالم. وما يحدد القيمة هو الرقم الذي يكتب رغم أن تكلفة الطباعة واحدة ولكن الخلاف بتقييم الخزانة الامريكية والبنك الدولي لهذه الاوراق المالية الورقية للدولارات.

وقد كانت مغامرة من الرئيس نيكسون بامتياز ولكن الدهاء للرئيس والقوة والهيمنة الامريكية جعلت كل الدول العالمية مرتبطة بالبنك الدولي وبالولايات المتحدة الامريكية مجبرة على ذلك لان تقييم كل ما تنتجه هذه الدول يقيم ويباع ويصدر ويستورد بالدولار لا غير.

وبإعلان نيكسون بأن الدولار سيخضع للمضاربة ويحدد سعره وقيمته  العرض والطلب وليس الذهب،

 لم ولن تستطع اي دولة من الخروج والتمرد على هذا النظام العالمي المحكم لان المشرعين لهذا النظام قاموا بصياغتة وحبك بنوده  وعقده وشيطنة من يخرج عليه من الدول ومحاصرتها وتدمير اقتصادها وحتى إذا لزم الامر تدميرها عسكريا وشن حروب عليها بحجج واهية وغير واهية ومصوغات ومبررات وقرارات تنتج عن هذه المنظمات العالمية التي اصبحت أدوات المنتصرين والدول القوية تجاه المتمرديين العالمين بنظرهم وهذا ما حصل ببلدان كثيرة وخير مثال عراق الحضارات،

وكأن للرئيس نيكسون عدة أدوات استغلها وخطط لها لحكم الاقتصاد العالمي غير الاتفاقية السابقة  ونذكر منها:

البترودولار: تسعير المواد الخام بالدولار ومنها نتج مصطلح البترودولار حيث استطاع نيكسون أن يقنع الدول المنتجة للبترول وحلفاء الولايات المتحدة ومنها دولنا بإنشاء منظمة جديدة تتحكم بأسعار البترول وبأمداداته وحصصه بالعالم وسميت هذه المنظمة منظمة الدول المصدرة للبترول)أوبك( وكان من أهم بنود هذه المنظمة واتفاقياتها أن السعر المعياري للبترول هو الدولار مما ربط اقتصاديات وعملات هذه الدول بالدولار مجبرة وأصبحت هذه الدول ملكية أكثر من الملك وتدافع عن الدولار واستقراره بكل المحافل الدولية حيث يعتبر العملة الأوحد للاقتصاد العالمي وتقييمه, وقد كان عام 1973 م عام حاسم لأختبار قوة الدولار مع زيادة أسعار البترول وتجاوزه المئة دولار  وقد اجتاز الرئيس بيكسون هذا الأختبار ومن ورائه الولايات المتحدة والدولار بنجاح ليتم سيطرت الدولار على الاقتصاد العالمي وبالتالي سيطرت من يطبعه دول تغطية على هذا الاقتصاد العالمي الهش.

والنتيجة لم ولن  تتمكن أي دولة من الاعتراض أو إعلان رفض هذا النظام النقدي الجديد ,لأن هذا الاعتراض سيعني حينها أن كل ما خزنته هذه الدول من مليارات الدولارات في بنوكها سيصبح ورقا بلا قيمة وهي نتيجة أكثر كارثية مما أعلنه نيكسون .

الغذادولار و الدوادولار: وأصبحت الولايات المتحدة ومن خلال شركات الادوية والاغذية التي تتحكم بغذاء ودواء العالم وجلها شركات امريكية  والتي تحتاجها كل دول العالم وتفرض سيطرتها من خلال العملة التي تسعر منتجاتها بالدولار.

السلاح دولار: وبتفوق الولايات الامريكية بالمجال العسكري وتصنيعها للاسلحة ومعداتها  كان للدولار وجود بكل صفقات الاسلحة والتسليح حول العالم وحتى لو لم يك البائع أو الشاري هو الولايات المتحدة ليسيطر الدولار على كل صفقات الاسلحة ويسعر به.

الدبودولار: وهي الديون التي يعطيها البنك الدولي للدول المتعثرة والفقيرة والتي تكون بالدولار ويربط أقتصاديات هذه الدول بالدولار كشرط أساسي للحصول على هذه الديون وتحرير الاقتصاد , فتعيش هذه الدول ليل نهار لتحقيق هدف واحد هو الالتزام بنظم وقواعد البنك الدولي وتسديد الدفعات المستحقة بالدولار بموعدها أو اعادة جدولة هذه الديون بفوائد مضاعفة وهو ما يتم فعلا.

التكنودولار: وهو تسعير التكنولوجيا ووسائلها وتعاملاتها بالدولار و هو الاخطبوط المقبل الذي اصبح تتحدد معالمه  يوما بعد يوم  وله عدة أدوات :

شركات التكنولوجيا: تبقى الولايات المتحدة هي سيدة التكنولوجيا من خلال شركاتها العابرة للقارات وللحدود وحتى المخترقة للبيوت والخصوصيات هي المسيطرة على سوق التنكولوجيا وما له وما عليه وتقوم هذه الشركات بتسعير كل منتجاتها بالدولار وهي شركات اصبحت تسيطر على البشر والحجر داخل الولايات الامريكية وخارجها وقيمها السوقية تفوق كل تصور ومن هذه الشركات غوغل وأبل ومايكروسوفت واوركل وفيسبوك وتويتر والويتس أب وياهو وانستقرام وسناب شات وغيرها الكثير.

حيث القيمة السوقية لهذه الشركات تتفوق وتزيد عن ثلثي اقتصاديات دول العالم  ,و تزيد القيمة السوقية لكل من شركات التكنولوجيا السابقة عن 700 مليار دولار واي هزة لهذه الشركات يؤدي الى انهيار بالبورصة الامريكية والبورصات العالمية من بعدها.

العملات المشفرة: وهي الطريقة التي نهجها المخططون بالولايات العالمية للسيطرة على من يفكرون بالخروج من عباءة الدولار وسيطرته فتم أختراع العملات المشفرة وعلى رأسها البت كوين والتي حصر التعامل بها بالدولار الامريكي وللعلم فالان يوجد اكثر من 1300 عملة مشفرة بالاسواق وأكثر من 100000 عملة قيد الاعداد وكلها مسعرة بالدولار وليس غيره.

التجارة الالكترونية: اليوم اصبحت التجارة الالكترونية هي الملاذ لكل متسوق حول العالم لما لها من سهولة بالتعامل وخيارات بالاسعار والتوصيل والمفاضلة بين هذه الخيارات من خلال برامج سهلة الاستخدام وتذكيرك بما نسيت وللامريكان وللدولار الدور الاكبر والمسيطر على هذه التجارة من خلال شركات التجارة الالكترونية الامريكية مثل امازون واي بي أو من خلال طرق الدفع والبنوك الامريكية.

رغم اننا نعيش بعالم ينضمه المعادلات والفرضيات ولا وجود للحقيقة المطلقة الا أن الحقيقة والواقع يقول مما سلف أن الدولار  سيبقى المسيطر على السياسة والاقتصاد العالمي رضي من رضي وأبى من أبى وسيبقى العملة  العالمية المتفردة  والمتحكمة بأقتصاديات الدول وتبعيتها للولايات المتحدة الامريكية إلى زمن ليس بالقريب رغم كل الجهود التي تبذلها الكثير من الدول  للتمرد والخروج من عباءة الدولار.