ميناء الفاو .. مشروع المكانة الاستراتيجية للعراق

لا ينظر الى ميناء الفاو على بوابة العراق الجنوبية بكونه مشروعاً اقتصادياً محدوداً , بل عقدة استراتيجية مهمة تتناسب مع مكانة العراق المطلّة على الخليج العربي سبق لظروف التاريخ الاستعماري البريطاني أن منعتها عنه حين رسمت حدوده السياسية عند إتمام إحتلالها للعراق عام 1917 حيث منحته ممراً ضيقا على الخليج العربي لا يزيد طوله عن( 58) كم . ونتيجة لزحف الحدود الإيرانية باتجاه شط العرب بسبب ما يسمى بعامل النحت المائي فان طول السواحل العراقية يتناقص باستمرار، فضلا عن ضيق المنفذ البحري العراقي . لذلك أقام العراق ميناء البصرة على مياه شط العرب بعيداَ عن الخليج، كما اضطر لبناء ميناء أم قصر على قناة بحرية تم شقها في أحد الأذرع البحرية للخليج العربي في المياه المشتركة العراقية – الكويتية (خور الزبير)، كذلك ميناء البكر النفطي وسط مياه الخليج العربي على بعد (٢٤) كم من الخط الشاطئ .

عام 1970 طلب العراق من الكويت استئجار جزيرتي (وربة وبوبيان) لاستخدامهما في بناء المرافئ لمدة مئة عام لعمق مياهها، لكن الكويت في حينها رفضت لخوفها من أن العراق يريد لنفسه موطئ قدم وأنه لن يخرج منها، وخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988 ) أغلق منفذ العراق على الخليج تماما، وأصبح يصدر معظم نفطه عن طريق تركيا والسعودية بوساطة أنابيب النفط . هذا الحيف كان مُدبّراً بدوافع سياسية أضرت بشعب العراق ومكانة البلد قياساً بما تتمتع به دول جواره التي تمتلك سواحل طويلة، مما قلل من استفادته من مرور البضائع عبر أراضيه كتجارة الترانزيت مثلاً أو قدرته على الاطلالة التجارية على منفذ الخليج استيراداً وتصديراً إلا من خلال الكويت .

بما أن النفط هو السلعة الأساس التي يعتمد عليها الاقتصاد العراقي، والنفط يعتمد بشكل كبير في تصديره على المنافذ البحرية، لذا أصبح البحث عن خيارات جديدة لتوسيع منطقة نشاطه البحري ضرورة ملحة.  فأصبحت الحاجة ضرورية لزيادة القدرة الأستيعابية لموانئه من خلال إنشاء ميناء الفاو الكبير وزيادة الأرصفة في الموانئ الحالية.

ميناء الفاو حاجة استراتيجية  

تتجاوز أهمية انجاز ميناء الفاو المردودات المالية والتجارية الوطنية الداخلية الاقتصادية والأمنية , فبحسب ما يوصف به هذا الميناء سوف يكون أداة رابط خط البضائع والسلع والنقل البحري بين الشرق والغرب، وذلك من خلال تحويل العراق إلي قناة جافة يتصل طرفها العلوي بموانئ البحر المتوسط عبر تركيا وسوريا، وطرفها السفلي يتصل بالخليج والمحيط الهندي، وهي آلية تسهم في خفض الأسعار إلي مناسيب كبيرة جداً وتعجل في حركة البضائع، وتوفر أمانا كبيرا للحركة البحرية. إن هذا المنفذ سيقدم دعامة جيبولوتكية تضيف توازنا مؤثرا في صراع القوة المحتدم في منطقة الخليج، ويوسع الخيارات لأطراف عدة مما يقلل فرص الابتزاز والضغط، ويحقق مصلحة تجعل الغرب والشرق مهتما برعايتها وتوفير الأمن لإنسيابيتها.

موقع العراق الجيوسياسي يتناسب وحالة الصدارة الجديدة للاتصال مع أوربا برا، وجسرا ً أرضيا بين شرق أسيا و أوربا عبر تركيا وسوريا، المسافة بين الموانئ العراقية في شمال الخليج العربي والأراضي التركية لا تزيد على1200 كم مما سيفعل خط سكة حديد [ برلين – بغداد ] الذي كاد أن يُنفّذ في بداية القرن العشرين لولا قيام الحرب العالمية الثانية،  لتصبح الموانئ العراقية ومنها ميناء الفاو الكبير من أهم الموانئ الإستراتيجية التي ستغير خارطة النقل البحرية العالمية . العراق يملك من المقومات الاقتصادية ما يجعله مركزا ً عالميا ً للتجارة والاستثمار، وتعد مدينة المدن البصرة بحكم موقعها الجغرافي المطل على الخليج العربي أهم المدن العراقية من حيث امتلاكها للواجهة البحرية الوحيدة التي تربط العراق مع العالم الخارجي، ومع ما تمتلكه من ثروات نفطية، يستطيع من خلالها العراق أن يطور علاقاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع دول العالم.

يقع ميناء الفاو الكبير في منطقة الفاو أو شبه جزيرة الفاو جنوبي محافظة البصرة عند مصب شط العرب في الخليج العربي مباشرةً، والذي من المنتظر أن يصبح من أكبر عشر موانئ في العالم وأكبر ميناء في الشرق الأوسط، وسيحول الفاو إلى مدينة عالمية تجارية اقتصادية ضخمة، ويسهم في خلق فرص عمل كثيرة.

بداية المشروع والمعوقات

من المفترض لدولة ذات سيادة تعمل وفق السياقات العامة للمؤسسات إنها حين تفكر ببناء مشاريع تلبية لحاجة وطنية لا يسمح من خلال الدستور والقوانين  للأحزاب التي حملت سمعة سيئة بالفساد الطاغي أن تتدخل وتلعب مثلما يحصل في كثير من النشاطات الاقتصادية في العراق منذ 2003 , والصورة التي كشف عنها ملف بناء ميناء الفاو صادمة , التدخلات السياسية الحزبية التي اخترقت المؤسسات الرسمية العراقية بعد إقرار إحالة المشروع الى شركة كورية جنوبية وليست الشركات الصينية كما ترغب بعض أحزاب الإسلام السياسي الشيعي تلبية لرغبات إقليمية .

منذ وضع الحجر الأساس لهذا المشروع في5 نيسان ابريل عام 2010 كان مقرراً انجازه خلال ثلاث سنوات أثيرت شكاوى وشكوك بعض الاعضاء في البرلمان العراقي ذوي الخلفيات الطائفية من أن هناك قضايا فساد وتلاعب بمواصفات وكلفة المشروع الذي لم ينفذ منه لحد الان سوى ما يسمى ” كاسر الامواج في مياه الخليج العربي.”كذلك محاولة تقليل عمق الميناء إلى 14 مترا بدلا من 24 مترا مما يجعله عاجزا عن استقبال السفن الكبيرة. كما قال وزير النقل العراقي حينها عامر عبد الجبار إن “امتيازات عرضت عليه من أجل عرقلة المشروع”.

بحسب الاتفاق الاخير مع الشركة الكورية فانه من المؤمل أنجاز المشروع عام 2024 وسينقل البضائع من الصين و اليابان و جنوب شرق آسيا الى أوروبا و بالعكس، كما يضم المشروع أكبر كاسر أمواج في العالم. . وستبنى حول المشروع فنادق ومولات وبورصه عالمية ومصارف مع احتمال انشاء مطار جوي للتجار.

يعد المشروع حلقة وصل بين دول الخليج العربي التي تعتبر مستهلكًا رئيسيًا للبضائع الأجنبية، كذلك مع تركيا التي تعتبر مستهلكًا رئيسيًا للنفط وفي الوقت نفسه المصدر الرئيسي للبضائع القادمة من العراق والخليج .

تقدر كلفة بناءه ما يقارب 6.4 – 15 مليار دولار مع بقية المرافق الخدمية الاخرى، وتبلغ طاقة الميناء ما يقارب 99 مليون طن سنويا، ويحتل مشروع ميناء الفاو الكبير المرتبة العاشرة على مستوى العالم والأول على مستوى موانئ الخليج العربي، ويتألف من كاسر أمواج شرقي وكاسر أمواج غربي و100 رصيف إضافة للأرصفة ومناطق التفريغ والشحن ومخازن ومنشآت إدارية ومجمعات سكنية ومرافق خدمية متنوعة، فضلا عن ارتباطه بخطوط السكك الحديدية وشبكة طرق برية سريعة ومناطق حرة للتجارة .

سبل التعطيل مشروع سكة حديد البصرة – الشلامجة

إيران والكويت تحاولان ربط خطوط سكك حديد مع محافظة البصرة للاستفادة من موقع العراق على مستوى التجارة الدولية، ولتكون بديلا عن ميناء الفاو من خلال استقبال البواخر والسفن التجارية في موانئ الدولتين، فيما يتحول العراق إلى مستقبل للبضائع وممر بري لها فقط، في وقت سيتيح ميناء الفاو الفرصة للعراق أن يكون المستقبل للسفن والبضائع مباشرة، ويتحول إلى قوة اقتصادية كبرى في المنطقة .

سبق للحكومات العراقية أن فكرت بمد خطوط سكك حديد لتقليل كلف النقل . إلا أن طهران ضغطت على الحكومات العراقية فوقعت مع حكومة مصطفى الكاظمي اتفاقية مد خط سكة حديد “البصرة- شلامجة” بطول 32 كيلومترا.كانت دوافع هذه الاتفاقية تخريبية لتعطيل مشروع الفاو . سبق لعامر عبدالجبار وزير النقل العراقي الأسبق (2008- 2010)، إنه من أوائل الشخصيات التي رفضت مشروع ربط العراق بإيران عبر خط سكك حديد، وكشف في العام 2018، أن الربط السككي مع الكويت وإيران سيلحق الضرر بالموانئ العراقية من خلال حرمانها من أجور وعوائد السفن والوكالات والخدمات البحرية،وأشار إلى أن المشروع السككي مع إيران لا يعطي الفعالية الحقيقية لميناء الفاو، وسيقتل الفكرة الأساسية للمشروع العملاق.

كما يقول عدد من الخبراء العراقيين بالشأن الاقتصادي إن “الربط السككي مع إيران يضر بالعراق اقتصاديا ويضرب ميناء الفاو، ولذا يجب أن يكون الربط السككي لنقل المسافرين فقط، وليس للأغراض التجارية الأخرى كنقل البضائع وغيرها، لأن ذلك يحقق مصالح الآخرين على حساب مصالح العراق واقتصاده”.

الخطر الأول على مشروع الفاو كويتي إيراني 

  يأتي الخطر الأول والأكبر على انشاء ميناء الفاو الكبير من ميناء مبارك الكبير في الكويت، والتي باشرت حكومة الكويت بناءه عام 2010 بنفس عام بداية مشروع ميناء الفاو بقيمة 1.1 مليار دولاراً قبالة السواحل العراقية على جزيرة بوبيان، المشروع وكما اختارت الكويت تنفيذه يقع على بعد كيلومترات قليلة من مشروع الفاو الكبير، هذه المنطقة حرجة سياسياً وملاحياً  كونها تفرض واقعًا جغرافيًا على العراق لأنها تغلق الرئة البحرية الوحيدة للعراق الذي لا يملك منفذًا بحريًا غيرها، وتحرم العراق من ارتباطاته البحرية مع البلدان الأخرى، علمًا أن دراسة جدوى المشروع أقرت أن ميناء مبارك سيهتم بالتجارة الكويتية العراقية إذ سيعتمد على الحركة التجارية العراقية بشكل كبير، من باب الاعتماد على الاستهلاك الذي تتركز أعلى نسبة له في العراق بنسبة 68%، ومن المتوقع أن 80% من السوق العراقية ستتحرك عبر ميناء مبارك الكبير في بوبيان لأن الموانئ العراقية لا تحمل سعة كبيرة للحاويات مثلما سيحمله ميناء مبارك.  والمشروع بحسب التقارير التي اثبتت سيؤدي الى اضرار جسيمة ستلحق بالاقتصاد العراقي بشكل مباشر، أذ ستصاب الموانئ العراقية الواقعة شمال خور عبد الله بالشلل التدريجي بعد انجاز المشروع، كما ستلحق امتدادات الميناء بتقليص مساحة الجرف القاري للعراق، وإنشاء السواتر الخرسانية في خور عبد الله سيلحق ضررًا جسيمًا بالثروة السمكية في المياه الإقليمية العراقية. فضلًا عن خطة لتحويل الكويت إلى مركز إقليمي ومنطقة أساسية للتجارة الحرة تربط آسيا بأوروبا من خلال بناء مدينة تبلغ قيمتها 90 مليار دولار، وبناء سكك حديدية وشبكة مترو تخدم الميناء.

 سبق لعالية نصيف النائبة في البرلمان العراقي أن طالبت من رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، برفع دعاوى قضائية في المحاكم الدولية ضد (الكويت لتجاوزها على حدود العراق البرية والبحرية ونهب ثرواته) وقالت (سبق وأن حذرنا من قيام الكويت بإنشاء ميناء مبارك الذي تهدف من خلاله إلى تدمير اقتصاد العراق، كما نبهنا إلى المخطط الخطير الذي تقوده الكويت وبعض الخونة داخل العراق  الذين كانوا مرتزقة ومحامين لها,  وأخذوا على عاتقهم التنفيذ الأعمى للقرارات الدولية) . تقصد بذلك اتفاقية الحدود بين البلدين كإحدى متطلبات إذعان العراق بعد حرب 1991 .

من بين الضغوط المتواصلة لتعطيل تنفيذ مشروع الفاو ما حصل للمدير التنفيذي الكوري السابق  (بارك شل هو) الذي وجدَ في 9 تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، مشنوقاً داخل غرفته في مقره الملحق بمشروع الميناء. وقيل إنه انتحر بحسب التحقيقات العراقية .

تقف كتل سياسية معروفة بولائها لطهران الى جانب مهمة تعطيل استمرار الشركة الكورية والدفع باتجاه احالته الى الشركات الصينية لتتولى المشاريع الحيوية في العراق خدمة للمصالح الإيرانية التي تجد في الصين خيارها المهم هكذا يفقد العراق سيادته في الحفاظ وحماية مصالحه العليا .

انتقل الصراع السياسي على الجهة المستثمرة لتأهيل ميناء الفاو الكبير، إلى وسائل الإعلام واستخدام لغة التخوين المباشر بين زعامات قوى الإسلام السياسي الشيعي ذاتها . فقد طالبَ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في أكثر من مناسبة بإبعاد ما اسماهم بـ”الميليشيات” عن مشروع الميناء، مهدداً بتدخلهِ الشخصي في حال فشل الحكومة بذلك، فيما اعتبر قيس الخزعلي، زعيم حركة عصائب أهل الحق (حركة سياسية – ميليشاوية منضوية في تحالف الفتح). إسناد المشروع إلى الشركة الكورية بأنه “جريمة كبرى بحق العراق”. لكون التعاقد مع الشركة الأخيرة يكلف العراق أموالاً طائلة في ظل الضائقة المالية التي تمر بها البلاد، بينما التعاقد مع الجانب الصيني يقوم وفق مبدأ “النفط مقابل الخدمات”. لكن هذه الدعاوى ليست حقيقية .

هناك تعمد لعدم إكمال مشروع ميناء الفاو الكبير، وهناك ضغوط من أجل إلغاء المشروع من قبل دول إقليمية، حتى أن هناك مبالغ كبيرة جدا وخيالية دفعت من أجل إلغاء هذا المشروع، فهي تريد بقاء العراق على وضعه الاقتصادي حتى تبقى هي المستفيدة من هذا الوضع”.

بعد وقوع العراق في مستنقع الانهيار والنفوذ الخارجي لم تعد حكوماته الحزبية المنشغلة بتقاسم حصص النهب مهتمة بقيام مشاريع استراتيجية تحمي مصالح شعبه , لهذا سيظل هذا المشروع الاستراتيجي العملاق عرضة للتعويق أو التوقف ببدائل ظاهرها فني وباطنها الرئيسي عدم السماح بأية خطوة وطنية للمصالح الوطنية العليا .