الأسراب الشامية في السماء المصرية

الكتابة عن المهاجرين الذين استقطبتهم مصر وشاركوا في نهضتها، لا تزال تحتمل جديداً في الاضاءات والكشوف. والأحدث في هذا المجال كتاب فارس يواكيم “الأسراب الشامية في السماء المصرية” الصادر عن دار ميريت في القاهرة. وهنا يبدو المؤلف جزءاً من موضوع كتابه. هو المولود في الاسكندرية لعائلة لبنانية، اكمل دراسته في مصر حتى تخرج في معهد السينما في القاهرة فوجد نفسه متوجهاً الى بيروت التي صارت مقصداً لفنانين مصريين دفعتهم الضائقة الاقتصادية الى العمل في افلام اختار ممولوها لبنان مكاناً لانتاجها. لكن فارس يواكيم انصرف الى الكتابة الدرامية بأنواعها المتعددة، خصوصاً بعدما لمع اسمه كمؤلف لمسرحية “آخ يا بلدنا” التي مثلها النجم شوشو (حسن علاء الدين) على مسرحه اليومي الفريد من نوعه في لبنان السبعينيات.

كانت مصر تبلور صورتها كمركز عالمي منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، حين دعمت اوروبا السلطنة العثمانية لدحر جيش محمد علي باشا المصري الذي كان يجتاح الشرق العربي بنجاح ويدفع جيش السلطان بعيداً نحو اسطنبول. لقد فضلت اوروبا العثمانيين الضعفاء على المصريين الاقوياء ونجحت في دفع القائد ابراهيم باشا وريث محمد علي الى الانسحاب نحو مصر التي اصبحت دولة مستقلة باعتراف اسطنبول واوروبا، مع بعض الشعارات الرمزية بالولاء للسلطان التي مالبثت ان طواها النسيان. بهذا اصبحت الصلة مباشرة بين القاهرة وعواصم اوروبا فاستقدمت مصر اليها كفاءات حديثة صاعدة وتميزت اداراتها بالمرونة والقدرة على استيعاب الجديد الآتي من الضفة الأخرى للمتوسط، وأدى ذلك الى تزايد عدد الاوروبيين في مصر (ومعها السودان)، وترافق ذلك مع نزوح مؤيدي ابراهيم باشا لدى انسحابه من بلاد الشام خوفاً من انتقام العثمانيين، وكان سبقهم الى مصر “شوام” آخرون تدفقوا نحو مصر عقب انكسار ضاهر العمر في عكا امام العثمانيين ومقتله سنة 1775 مع وزيره الكاثوليكي ابراهيم الصباغ. فقد نزح هؤلاء من ولاية عكا التي كانت تضم أيضاً صور وصيدا وصفد وبيروت. وكان المهاجرون “الشوام” في معظمهم من النخب المتأثرة بقيم الحداثة الناشئة في اوروبا. ومنذ العام 1840 تكرس حكم محمد علي باشا وسلالته لمصر، وبدأت نهضتها المتأثرة بالقيم الغربية مع حضور مباشر لجاليات اوروبية ولنخب شامية حداثية. وبذلك اصبحت مصر في وقت مبكر مختبراً للحداثة والتنوع الحضاري. واستمر ذلك حتى ستينات القرن العشرين حين دفع انشاء دولة اسرائيل وانقطاع مصر الجغرافي عن بلاد الشام الى انكفائها على مجتمعها الاصلي من باب الدفاع عن الذات. وقد اندمج عدد من الوافدين الاوروبيين والشوام في المجتمع المصري وعادت غالبيتهم الى مجتمعاتها الأصلية حاملة قدراً كبيراً من الحنين الى مصر التعددية الغاربة. ولكن، لا تزال معالم الكوسموبيليتية بارزة الى اليوم في أحياء عدة من القاهرة والاسكندرية، على رغم تغير اصول السكان وثقافتهم.

وفي المكتبة المصرية مؤلفات كثيرة موضوعة ومترجمة عن الشوام والأجانب المتمصرين، ولكن لا حضور كافياً لكتب تروي ايام هؤلاء في مصر، عدا كتب مخصصة لتجربة اليونانيين والشوام والايطاليين المتمصرين، ولكن هذا لا يكفي لتغطية ظاهرة حضارية عالمية في مصر محمد علي ووارثيه.

يكتب المفكر المؤرخ اريك هوبسباوم في كتابه “عصر مثير: رحلة عمر في القرن العشرين”

“السجل الاول: بالنسبة اليّ هو صورة تظهر على ما يبدو رضيعاً في عربة أطفال خشبية كبيرة، ولا يوجد في الصورة أي شخص آخر. لا بد أن الصورة التقطت كما افترض في الاسكندرية، حيث ولدت في حزيران (يونيو) 1917، ليسجل ميلادي موظف في القنصلية البريطانية أخطأ في تاريخ الميلاد وتهجئة اسم العائلة”.

ويلاحظ فارس يواكيم ان استقلال مصر وانفتاحها على العالم شكلا أساساً لنشوء فكرة القومية العربية للتحرر من الحكم العثماني. ومن ابرز الناشطين في مصر ضد “التتريك” الذي مارسته جماعات الاتحاد والترقي العثماني: محمد رشيد رضا وانطون الجميل وداود بركات وغيرهم ممن سعوا الى تنسيق صفوف الشوام، يساندهم مصريون من أمثال الشيخ علي يوسف ناشر جريدة “المؤيد”. وتأسست في مصر هيئات شامية كان أبرزها “حزب اللامركزية الادارية العثماني” عام 1912. ويرى يواكيم ان الشوام اندمجوا بالسكان ولم يشكلوا غيتوات في المدن المصرية، وكانت اجادتهم لغات أجنبية مدخلاً لتقلدهم وظائف في القطاعين العام والخاص، ولحضورهم في قطاع الأعمال على تنوعه، ومن هؤلاء الحضور حبيب السكاكيني صاحب القصر المعروف باسمه حتى الآن (من مواليد دمشق) وحبيب لطف الله (من طرابلس لبنان) والاخوان سليم و سمعان صيدناوي (صاحبا المحلات المعروفة باسم عائلتهما حتى الآن (من بلدة صيدنايا قرب دمشق) وكان لمحلات صيدناوي في مرحلة ازدهارها 72 فرعاً في مدن مصرية عدة. وفي حريق القاهرة المعروف استهدفت محلات صيدناوي مع محلات كثيرة يملكها يهود. ما أدى الى التباس لدى عوام المصريين في حقيقة عائلة تنتمي الى طائفة الروم الكاثوليك.

ما ذكرنا هو لمحة من كتاب فارس يواكيم الذي يتألف من دراسة وافية لموضوعه. تليها لائحة أسماء لشوام بارزين في مصر. وهنا ينبغي التأكيد على ميزة يقدمها كتاب يواكيم هي الامانة في التعبير عن كلمة “الشوام” التي تعني اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، فقبل هذا الكتاب كان يتم حصر “الشوام” في اللبنانيين وحدهم، وفي هذا ظلم لاسماء شامية بارزة واشكالات في نسبة هؤلاء الحقيقية إذا صودف ذكرهم. وهنا نسجل ابرز اسماء “الشوام” من غير اللبنانيين التي ذكرها المؤلف في كتابه:

– انور وجدي: اسمه الحقيقي محمد أنور الفتال. مخرج وممثل ومؤلف. هاجر والده من دمشق أواخر القرن التاسع عشر حيث ولد أنور سنة 1904 وتدرج في ادوار المسرح والسينما وفي الاخراج حتى توفى سنة 1957. – نجيب هواويني: خطاط متميز. ولد في دمشق سنة 1878 ودرس الخط في اسطنبول، وقد بنى شهرته في القاهرة التي اصبحت وطنه الثاني وكان الخطاط الخاص للملك فؤاد واستاذاً في مدرسة تحسين الخطوط. توفي في القاهرة سنة 1956. – محمد حسني البابا. خطاط سوري اشتهر في مصر. ولد في دمشق سنة 1894. انتقل الى القاهرة سنة 1912. كان صديقاً لمواطنه نجيب هواويني. والد المغنية نجاة الصغيرة والممثلة سعاد حسني. -نعوم شبيب. مهندس برج القاهرة وبرج بلمونت. ولد في القاهرة سنة 1915 لعائلة سورية. هاجر الى كندا سنة 1971 وتوفي فيها سنة 1985. – بدر وابراهيم لاما، ولدا في تشيلي لأب فلسطيني مهاجر من بيت لحم اسمه عبدالله الأعمى. بدر كان ممثلاً وابراهيم كان مخرجاً وقد تركا بصمتيهما في بدايات السينما المصرية. – غاستون زنانيري. ولد في الاسكندرية سنة 1904 لعائلة سورية. كان صديقاً لقسطنطين كافافيس ولورنس دارل. هاجر الى فرنسا سنة 1951 والتحق بسلك الرهبنة. من مؤلفاته “الكنيسة والسلام”، “بين البحر والصحراء: مذكرات”. – جبرائيل تلحمي منتج سينمائي من اصل فلسطيني – بيت لحم. – جاك تاجر. مولود في القاهرة عام 1918 لأسرة سورية. من مؤلفاته بالفرنسية “أقباط ومسلمون: منذ الفتح العربي حتى 1922”. أثار جدلاً لدى صدوره. أعادت الهيئة العامة للكتاب في مصر نشره سنة 2010. – هنري بركات مخرج سينمائي وقع 98 فيلماً. ولد في القاهرة سنة 1914. والده الدكتور انطوان بركات هاجر من دمشق سنة 1876 ودرس الطب في القصر العيني. – فريد الأطرش واسمهان. أخوان في اسرة تعود الى جبل العرب جنوب دمشق. رحلا مع العائلة الى مصر حيث اشتهر فريد ملحناً ومغنياً، واشتهرت اسمهان باغانيها الدائمة الحضور.