نيكولو باغانيني شيطان الموسيقى وساحر الكمان

لم يكن نيكولو باغانيني عازفاً فحسب ، بل كان رسّاماً في هذا الفن ، لذلك استطاع  خلب الأبصار والقلوب من خلال مؤلّفاته الموسيقية المدهشة وعزفه الآسر وشخصيته الغرائبية، الجامحة والمتشرّدة والمثيرة للاهتمام في الوقت عينه، سواء من قبل النقّاد الفنّيين أو الجمهور المأخوذ بروعة مؤلّفاته الموسيقية وأدائه غير المألوف منذ  القرن التاسع عشر وحتّى يومنا هذا .

إنّ كلّ هذه العوامل مجتمعة، بدءاً من موهبة متوحّشة وشخصيّة متفرّدة  في تلك الحقبة الزمنيّة، تسببّت لنيكولو بالكثير من الشائعات المغرضة والتي اعتبرت أنّ عزفه الساحر ومخيّلته الموسيقيّة المتّقدة، ليسا سوى نتيجة عقد أبرمه صاحب كابريس ٢٤ مع الشيطان، وقد تداول الناس فرضية أنّ آلة الكمان التي يعزف عليها ليست سوى عبارة عن أوتار حقيقيّة تعود للبشر وهي من لحم ودم، وممّا ساهم في تفشّي مثل هذه الأوهام مظهر باغانيني وشحوبه الدائم، نتيجة معاناته من اضطرابات وراثية مثل متلازمة مارفان أو أهلرز دانلوس،  ولباسه الأسود الممتقع وحياته الشخصيّة الصاخبة وإدمانه لعب القمار، بالإضافة إلى تعاطيه المفرط للكحول .

فمن هونيكولو باغانيني ، ولماذا ملأ الدنيا وشغل الناس ؟

وُلد نيكولو باغانيني في أكتوبر من عام ألف وسبعمائة واثنين وثمانين في مدينة جنوا بإيطاليا، تعلّم في بداياته العزف على آلة المندولين كوالده، وبعدها على آلة الكمان، فأصبح باغانيني في وقت قصير أمهر من معلّميه، كاشفاً عن موهبة فذّة واستثنائية، وصاحب أسلوب  منفرد و جديد في فنّ العزف على هذه الآلة، فساهم في إجراء تطوّر هائل في تقنيّة العزف، فسحرت أنامله الجميع، حتّى قال عنه أستاذه ألساندرو رولا بعد أن قدّم عملاً موسيقياً صعباً جداً له، أصاب الأخير بالذهول: “أعتقد أنّني أهلوس … إنّ الشيطان نفسه يعزفُ عملي”.

وقال فرانز شوبرت عن الحركة الثانية من الكونشرتو الأوّل لباغانيني:

“سمعت الملائكة تُغنّي على الكمان”.

وقد ألّف وعزف نيكولو مقطوعاته الموسيقية في سنّ الثامنة، بعد أن تلقّى الدعم من الكنيسة التي قدّمته في معظم حفلاتها، وفي جميع المناسبات الدينيّة المهمّة نظراً لنبوغه الملفت  للأنظار ومهاراته الاستثنائية.

ثمّ ما لبث باغانيني أن درس التأليف الموسيقيّ للكمان، فأصبح من أكثر المواهب اللامعة في فن ّالعزف على الكمان، وأبرزهم في فنّ التلحين والأداء وأحد أعمدة تقنيّة الكمان الحديثة، إضافةً إلى قدرته الخارقة في حفظ النوتات الموسيقيّة من دون وجود الأوراق أمامه، فتخطّت عبقريته الموسيقى التقليدية، وقد عكست شخصيته إحساساً قلّ نظيره وإبداعاً تخطى النوتات والأصابع العشر.

وقد اشتهر نيكولو بمعزوفاته الرومانسية التي تعتبر أيقونة في عالم التأليف الموسيقي العالميّ. بعد أن بذل ذاته في سبيل الفن مُخضعاً نفسه لساعات تدريب طويلة وشديدة القساوة، ممّا راكم الشائعات حوله لجهة بأنّه باع روحه للشيطان وأنّه هو من علمه العزف، مُعتبرين أن الأخير كان يزوره باستمرار وطيفه حاضر في جميع حفلاته الموسيقية.

The Devil’s Viloinis هو الفيلم الذي تناول بجرأة أبرز محطّات حياة باغانيني والذي قام ببطولته عازف الكمان الألماني دافيد جارين.

يُظهر الفيلم موهبته الخارقة في فنّ الموسيقى، وشخصيّته غريبة الأطوار وولعه في التأليف والعزف، والذي ساهم في امتداد شهرته  إلى أرجاء القارّة الأوروبيّة كافّة، وخاصّة من خلال ولعه بآلة الكمان، ويتضمّن الفيلم سيرته الموسيقيّة وحياته العاطفية الصاخبة، وقد حاز الفيلم على أكثر من أوسكار .

 على ما يبدو أن باغانيني استعمل تقنيّات عالية في التأليف والعزف، ما جعل أداء مقطوعاته من أصعب الأنواع، إذ قلة هم الذين يُجيدون عزفها، ويُعتبر من يقدر على أداء أحد أعماله، بأنّه وصل إلى مرحلة الكمال .

يُعتبر نيكولو أيضاً مؤلّفًا لـ ٦ كونشيرتو الكمان والأوركسترا وهي أعمال ذات تقنيّة عالية، وهي جميعها مقطوعات الكمان المنفرد ، كذلك كابريس وكابريس ٢٤ فهي مقطوعات موسيقية ذائعة الصيت بسبب المهارات الاستثنائية التي تتطلّبها في العزف .

لقد أعجب بموسيقى باغانيني كبار المؤلّفين الموسيقيين في عصره ومنهم “شوبان” و “بوليرو “، وقد أثرى هذا الأخير الموسيقى من حيث طرق الأداء والتأليف والصعوبة والجاذبيّة، سواء في الشكل أو في المعنى، فصار رمزاً للعبقرية والإبداع .

لقد عانى نيكولو أيضاً طوال حياته القصيرة من أمراض كثيرة، مّما ضاعف من شحوبه وضعفه ، وهذا ما زاد الطين بلّة بالنسبة للشائعات التي رافقت مسيرته، إذ لم تقتصر على أنّه أبرم عقداً مع الشيطان بل أنّه هو ابن الشيطان نفسه .

أمّا بالنسبة لعلاقاته العاطفيّة، فقد كانت صاخبة وفيها الكثير من الضجيج والتَّفلُّت إلّا أّنَّه التقى في العام  ١٨٢١ بالمغنية الإيطالية “أنطونيا بيانتشي”، وقد عاش باغانيني قصّة حبّ غيّرت حياته ، وكان قد أنجب منها ابنه الوحيد. لكنّ المشاكل التي لها علاقة بالشائعات السابقة لم تتركه، فلم تقبل الكنيسة عقد قرانه على حبيبته نظراً لنعته بالكافر وابن الشيطان ونظراً لتصديق الناس لمثل هذه الخرافات التي لازمته كظلّه، ولم يسعى باغانيني مطلقاً لتكذيب هذه الأحاديث المغرضة، بل كان على العكس يرتدي ملابس سوداء على الدوام وكان مظهر شعره وذقنه يوحيان بمثل هذه الخرافات.

ممّا لا شك فيه أن شهرة باغانيني طالت أرجاء القارة الأوروبيّة كافّة، وقد تقاضى أمولاً طائلة مقابل حفلاته، نتيجة موهبته ومؤلّفاته الموسيقية الاستثنائيّة. وقد رافقه ابنه الوحيد اشيلينو في معظم هذه الحفلات، خاصّةً وأنّه كان يَعاني من عدد من الأمراض ومنها سرطان الحنجرة في آخر سنوات حياته، والذي أثّر على حاسة النطق لديه، حيث عانى كثيراً وتقلّب مزاجه وأصبح سريع الغضب، لكن المرض لم يؤثّر على موهبته والتي جعلت منه رقماً صعباً في فنّ التأليف والنظرياّت الموسيقيّة، والتي لا زالت حتّى يومنا هذا، تُعتبر امتحاناً صعباً لكلّ من أراد خوض مغامرة العزف على الكمان .

لفظ باغانيني أنفاسه الأخيرة بين يدَي ابنه الوحيد أشيلينو، لكنّ لعنة الشائعات لم تتركه حتّى خلال موته، ذلك أّن الكنيسة رفضت دفنه بعد الموت، وعوضاً عن ذلك وضعت جثته داخل قبو الفيلا التي كان يسكن فيها في فرنسا. وعندما حاول ابنه دفنه في جنوا مسقط رأسه، وجد أنّ الخرافات منعت الكنيسة ومصدّقيها من منح باغانيني راحته الأبديّة تحت تراب مدينته.

وفي النهاية توصل ابنه إلى دفنه بعد محاولات كثيرة في حديقة منزله في بارما، وذلك بعد موافقة البابا، ومن ثم نقل جثمانه إلى مقبرة المدينة في عام ١٨٧٦، وبعدها  إلى المقبرة الجديدة في عام ١٨٩٦.

إنّ حياة باغانيني القصيرة لم تؤثّر بتاتاً على إبداعه وقدراته الخارقة، والشائعات التي طالته لم تؤثّر على أهميّته كعازف متمكّن، استطاع ترك بصمة في عالم العزف والتأليف الموسيقيّ، قلّ نظيرها في العالم ولا زال اسمه مرتبطاً بالموهبة والعبقريّة والجنون المرافق للإبداع والتميّز .

ولا زالت معزوفاته تفتح الأبواب على أسئلة فلسفية ، كون موسيقاه لا تختصر بالتأليف فحسب، بل بالحالة الوجدانية واللاواعية التي نسج من خلالها هذا الأخير كلّ هذا السحر الخالص. وربّما تكون الشائعات قد خدمته ليثبت مرّة بعد مرّة أنَّه لم يبرم عقداً مع الشيطان، وأنّه ليس ابن الشيطان بل هو شيطان الموسيقى نفسه الذي استطاع تغيير العالم من خلال ألحانه والذي غيّر قواعد العزف على الكمان وسمح لنفسه بإدهاش الآلات جميعها اثناء أدائه الصاخب والمتميز .

باغانيني اسم صعب في عالم الموسيقى والكمان والتأليف والأوركسترا .

أفكاره الموسيقيّة جزءٌ من أسطورة نسجها الآخرون وصدّقها هو نفسه ليبقى ذلك العازف الذي أدمى قلبه  ليحرّر النوتات من قبضة العادي ويفلتها كسرب من الملائكة باتّجاه مكائد البشر الشيطانيّة التي تُحاك باتّجاه كلّ موهبة فذّة يصعب تفسيرها.

لهذه الأسباب وأكثر: سيبقى باغانيني ظاهرة موسيقيّة ممتدّة في جميع الأزمنة والأمكنة وسيظلّ شيطان الموسيقى وملاك الكمان الحارس