وجهة نظر سياسية في أزمة الدولار في العراق

تفجرت في العراق أزمة جديدة اسمها  ” الدولار ” قبل أن تكون اقتصادية مالية فهي سياسية ناتجة عن تفكك قوة منظومة غسيل الأموال العراقية بالدولار بعد الإجراءات الصارمة للبنك الفدرالي الأمريكي .واقع الحال لم تنحصر أزمة الدولار داخل صندوق الاقتصاد العراقي الذي رغم التصريحات الوردية عن عافيته والتبجح اعلامياً ” بامتلاك البنك المركزي العراقي احتياطاً مالياً وسبائك ذهب قرابة 91 مليار دولار ” فالمقياس الحقيقي هو الناتج النهائي عند المواطن الذي تتصاعد مشكلاته المعيشية يومياً بسبب الغلاء في المواد الغذائية أمام انخفاض الرواتب العامة والتقاعدية , حيث الاعتماد الاقتصاد الريعي من خلال واردات النفط للخزينة المالية أمام انعدام فعاليات القطاع الخاص والتراجع الخطير في التنمية .

كان سعر صرف الدينار العراقي تجاه الدولار الأمريكي منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي بمعدل 3,37  دولار للدينار العراقي الواحد حتى حصول حرب الخليج عام 1991 أو ما سميت بحرب تحرير الكويت التي تحوّلت الى مقدمات لإسقاط نظام الحكم بعد حصار على شعب العراق دام قرابة الأربعة عشر عاماً , حيث انهارت قيمة الدينار العراقي ليصبح الدولار الواحد عام 2002 ما يساوي 2000 دينار عراقي .

من المفروض أن تعود للدينار قيمته السابقة قبل عام 1991 في ظل تدفق الأموال بالعملة الأمريكية منذ عام 2003 والهيمنة الأمريكية الكاملة على النظام السياسي في العراق , ورفع جميع عقوبات الحصار ما قبل 2003 . لكن ذلك لم يحصل ويبدو إن هذا هو الوجه الاقتصادي المالي البشع للاحتلال الأمريكي الذي خلفه لمجموعة الحكام الذين استمروا على سياقاته في تقييد النظام الاقتصادي العراقي وإتعاب المواطن في عدم قدرته على التعايش مع ارتفاع الأسعار في المنطقة والعالم . بعد خروج قوات الاحتلال عام 2012 كان من المفترض قيام دولة عراقية مستقلة سياسياً واقتصادياً تصبح من خلالها عملة البلاد طبيعية بفعل واردات النفط المتدفقة كحال دول المنطقة النفطية , رغم عدم ثبات الأسعار وهي حالة وقعت على جميع منتجي النفط , لكن ذلك لم يحصل في عراق السرقة والنهب والفساد السياسي , فقد أشر الدينار العراقي عام 2019 مبلغاً يساوي 1250 ديناراً مقابل الدولار الأمريكي الواحد . مما يؤكد على أن تدهور قيمته له خلفية سياسية مباشر متعلقة بتوجهات النظام وعدم اكتراثه بقيام نظام اقتصادي مستقل جديد.

بمنطق بسيط لو بقى العراق على تبعيته السياسية والمالية لواشنطن وحدها ولم يُسّلم للنظام الإيراني سياسياً واقتصادياً لما وقع الاقتصاد العراقي بالحالة التي أصبح عليها اليوم من تدهور وبروز مشكلات فرعية مثل انحدار قيمة الدينار تجاه الدولار رغم العائدات المالية العالية المتحققة عن ارتفاع أسعار النفط خصوصاً في العامين الآخرين .

الأزمة الحالية هي ناتج لوضع مرير يتعلق بدرجة كبيرة بغياب الاستقلال السياسي للبلد في العلاقة التبعية بالنظام الإيراني إضافة للدول المجاورة الأخرى , واشنطن فرضت عقوبات على إيران حيث لم تسمح بتدفق الدولار إليها , وهو العملة العالمية الأولى التي ثبت صمودها رغم محاولات كل من الصين وروسيا استبدالها بعملات أخرى للتبادل بين الدول الحليفة لكنها فشلت . لذلك أصبح للدولار قيمته المهمة لطهران , فكان من الطبيعي سرقته من بيت المال العراقي عبر عمليات ما سمي بغسيل الأموال بعد أن ابتدعت الأحزاب العراقية الحاكمة قصة قيام البنك المركزي العراقي بما سمي ” مزاد العملة ” غطاءه تسهيل عمليات استيراد الشركات والتجار المحليين للمواد المختلفة في مقدمتها الغذائية بالدولار الأمريكي الذي يتم استبداله بالدينار المحلي.”

كانت الحالة المرافقة لمزاد العملة الارتفاع الجنوني في أرقام واردات العراق للمواد الغذائية من ايران , كان من المفروض أن يتحقق في هذا البلد الاكتفاء الذاتي بالمواذ الغذائية الزراعية  مثلما كان عليه الحال قبل عام 2003  , لكن الإحصاءات الرسمية العراقية تحدثت مثلا عن شراء العراق مادتي البطيخ والطماطم بمبلغ 4 مليار دولار مع إن التاريخ أثبت إنه حتى خلال فترة الحصار كان البلد مكتفياً في هاتين المادتين . هذا عملياً يعني التخريب المباشر للزراعة العراقية من خلال تطويق  إيران للقطاع الزراعي في غلقها للروافد النهرية القادمة من أراضيها , بذلك أصبحت إيران هي الموّرد الرئيس للمواد الغذائية , الأمر الثاني إن قسماً كبيراً من عمليات غسيل الأموال تمر عبر شراء تلك المواد . بل صدرت دعوات داخل العراق أخيراً لزيادة الواردات من ايران الى عشرين مليار دولار عبر عمليات غسل الأموال .

تزايدت وتيرة هذا الوضع الشاذ الفوضى في التهريب المنظم للدولار عبر استبداله بالدينار العراقي الذي دخل بورصة يومية يقودها أصحاب المصارف التي تتصدر عمليات غسيل الأموال لدرجة وصول الانخفاض لحد كتابة هذه السطور الى 1700 دينار مقابل الدولار الواحد , هذا يقود تلقائياً الى زيادة أسعار المواد الغذائية في الأسواق المحلية التي لا تتحملها خزينة الفرد العراقي ذي الدخل المحدود .

كشف تسريب صوتي وفيديوي أخيراً عن طريق الناشط العراقي علي فاضل حول  اجتماع عقد عام 2015 بين أحمد الجلبي ورئيس البنك المركزي العراقي علي العلاق الذي طرد من منصبه ثم اعيد أخيراً لذات المنصب واللواء حسين الشمري مدير مكافحة الجريمة في العراق . أعلن الجلبي خلال ذلك الاجتماع عن تهريب 12 مليار دولار من قبل المصارف التي سماها عبر عرضه للوثائق بأنها مرتبطة بطهران . تم تسريب خبر بأن هذا الكشف الخطير كان سبباً بالوفاة المفاجئة لأحمد الجلبي .

 سعر الصرف والحكومات العراقية

لأن الحكومات لم تتمكن الخروج من هيمنة الأحزاب المتحكمة بكافة شؤون البلد فكانت وما زالت إجراءاتها شكلية ,تحاول كل حكومة رمي المشكلة على سابقتها  الى جانب خضوع المؤسسات المالية والبنكية المحلية لذات الإرادة السياسية , وصمت المستشارين الماليين الكثر داخل العراق .

 حكومة السوداني في حرج كبير , لذلك يحاول مستشاروه تسريب المعلومات بأن الأزمة أوجدتها حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، حيث اقترحت الحكومة تغيير سعر الصرف من 1200 دينار للدولار الواحد، إلى 1445 ديناراً.

برَّرت الحكومة آنذاك قرارها بالرغبة في إيقاف تهريب العملة إلى الخارج، على أن يكون رفع سعر الصرف مؤقتاً لحين السيطرة على الأمر، لكن تم اعتماد الرفع أيضاً في موازنة 2021، وكذلك 2022. علماً بأن رمي المشكلة على مسؤول سابق لا يعفي من حلها .

واشنطن لا تتحمل

التطور السياسي المهم هو إن موقف طهران المساند لروسيا في حرب أوكرانيا دفع واشنطن للتضييق على طهران من خلال تصعيد العقوبات والالتفات الى المشكلة العراقية القديمة المتعلقة بغسيل الأموال العراقية وتهريبها الى إيران .لهذا لم تتحمل واشنطن قيام مصارف أهلية عراقية بشراء الدولار من سوق العملة وتهريبه إلى إيران ، غير أنَّ إدارة البنك المركزي العراقي السابقة تجاهلت  الرسائل الأمريكية واستمرَّت في بيع الدولار لتلك المصارف.

في نهاية العام الماضي أبلغ الفيدرالي الأميركي المركزي العراقي بضرورة منع 4 مصارف أهلية من دخول مزاد العملة بتهمة تورطها في تهريب العملة إلى إيران وهي مصارف (الشرق الأوسط، والأنصاري، والقابض، وآسيا) التي يمتلك أغلب رؤوس أموالها رجل الأعمال العراقي علي غلام.

رغم تنفيذ البنك المركزي لهذا الأمر، إلا أنَّ تلك المصارف الأربعة لا تزال تمارس عملها المصرفي، غير أنها ممنوعة من الدخول في مزاد العملة. وعقب هذا الإجراء، فرض الفيدرالي الأميركي على البنك المركزي ضوابط جديدة لبيع العملة للتجار والمصارف.هذا الاجراء الحاسم هو الذي فجّر الأزمة داخل البلاد .

شملت الإجراءات الأمريكية تقديم كشوفات عن الجهة المستفيدة من الدولار سواءً كانت في الداخل أو الخارج خلال مدة أقصاها 24 ساعة، بدلاً من 20 يوماً كما كانت المهلة في السابق، ما أسهم بشكل مباشر في عزوف المصارف الأهلية والتجار وأصحاب المصارف عن الدخول إلى مزاد العملة خوفاً من شمولهم بإجراءات عقابية تمنعهم من مزاولة عملهم، بحسب ما ورد من بيان الفيدرالي الأميركي.

بعد تطبيق هذا القرار، انخفض حجم شراء الدولار من البنك المركزي العراقي من 320 مليون دولار يومياً إلى 85 مليون دولار فقط. ولأنَّ هذا الرقم لا يغطي بالتأكيد الحاجة الفعلية للتداول في السوق العراقية، مما أدى إلى إيجاد طلب أعلى على الدولار في المصارف الأهلية ومكاتب الصرّافة ليرتفع سعر الصرف تلقائياً في الأسواق، إضافة إلى ارتفاع أسعار البضائع المستوردة، مع إضافة التجار فرق الشراء من السوق السوداء على البضائع التي يقومون باستيرادها، وبذلك تحمَّل المواطن العراقي أعباء هذا الفرق.

الاجراء الأمريكي المهم المرافق في آليات مبادلة العملة العراقية بالدولار هو إنشاء منصة الكترونية تتضمن المعلومات التفصيلية لأسماء وعناونين طالبي شراء الدولار معززة بوثائق الاستيراد وما يسمى ” المستفيد النهائي ” خلال 24 ساعة , لكي تتم الرقابة المالية الأمريكية , بعد تطبيق هذا الإجراء انخفظت التعاملات  .

تنقل صحيفة وول ستريت جورنل عن مسؤولين أميركيين قولهم إن “القواعد الأكثر صرامة للتحويلات الإلكترونية بالدولار من قبل البنوك الخاصة العراقية لم تكن مفاجأة للمسؤولين في بغداد، حيث تم تنفيذها بشكل مشترك في نوفمبر بعد عامين من المناقشات والتخطيط من قبل البنك المركزي العراقي ووزارة الخزانة الأميركية وبنك الاحتياطي الفيدرالي”. المسؤولون الأميركيون بينوا للصحيفة أن الارتفاع في سعر صرف الدولار لم يكن بسبب الإجراءات الجديدة، وإنما بسبب “التدقيق في المعاملات الدولارية”. وقال مسؤول أميركي لوول ستريت جورنل إن الإجراءات ستحد من “قدرة الجهات الفاعلة الخبيثة على استخدام النظام المصرفي العراقي”.

لكن رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني، قال إن تصرف مجلس الاحتياطي يضر بالفقراء ويهدد ميزانية حكومته لعام 2023، اقترح على واشنطن ” وقف السياسة الجديدة لمدة ستة أشهر”. قام بعزل محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف يقال انه تابع للتيار الصدري , وأعاد لقيادة البنك المركزي من تدور حوله الشبهات بتورطه في تغطية عمليات تهريب الأموال المقال علي العلاق التابع لحزب الدعوة . وهي إجراءات لن تحل الأزمة .

موقف الأحزاب الحاكمة في العراق

قبل تصريحات نوري المالكي رئيس وزراء العراق الأسبق مسؤول الاطار التنسيقي الذي دعا الى الحوار مع واشنطن , خيم الصمت على قيادات الأحزاب المتورطة بهذه الأزمة ” دعاة الحرب على أمريكا في العراق ”  لأن هؤلاء يعلمون بأن واشنطن تحتفظ وتدير واردات العراق النفطية في بنكها الفدرالي , هي قادرة على تعطيل تحويلها الى بغداد وفق مختلف المبررات أهمها حماية الدولار من التسرّب الى طهران . مغزى التفاهم الذي دعا اليه المالكي وردده الاخرون من بعده خصوصاً رئيس الحكومة محمد السوداني هدفه تأجيل الإجراءات القوية المحددة لحركة الدولار لمدة ستة أشهر , وهذا الطلب يبدو غير مرحب به أمريكياً . المسؤول الآخر الذي ردد ما قاله المالكي هو رئيس تيار الحكمة عمار الحكيم خلال مقابلته  لممثلة الأمين العام للأمم المتحدة ببغداد جينين بلاسخارت . ممثل أحزاب ” المقاومة هادي العامري الذي تربطه علاقات قوية بطهران وصف الإجراءات الأمريكية  خلال اجتماعه مع السفير الفرنسي ببغداد ” يعلم الجميع كيف يستخدم الأميركيون العملة كسلاح لتجويع الناس”.

موقف الجمهور العراقي

سلّم المتظاهرون العراقيون البنك المركزي خلال أيام تصاعد الأزمة ، مطالب  محددة بشأن خفض سعر الدولار وإعادته إلى وضعه السابق ، وإلا فإنهم سيعمدون على اعتصام مفتوح أمام المنطقة الرئاسية «الخضراء» حتى تحقيق مطالبهم, وأغلبهم من أتباع التيار الصدري المنسحب من البرلمان، إلى جانب نشطاء في «حراك تشرين» هتفوا خلال تلك التظاهرة الاحتجاجية  ضد الفساد والسياسات الاقتصادية الحكومية، وكذلك ضد محافظ البنك المركزي الجديد علي العلاق، المقرب من رئيس ائتلاف «دولة القانون» نوري المالكي .

قلق إيران من الوضع المالي العراقي

لا شك إن التقييدات المالية الأخيرة على صرف الدينار ومزاد البنك المركزي لعملة

الدولار قد ترك آثاره الحالية والمستقبلية على طهران . هذا الوضع سيشكل علامة في تراجع مستويات التهريب التي لن توقفها الإجراءات البنكية الجديدة . ابتعدت الدوائر الرسمية الإيرانية العليا عن التصريحات المباشرة . لكن صحيفة “عصر اقتصاد” الِإيرانية أشارت إلى التحركات والضغوط الأميركية التي تمارسها على العراق للحد من علاقاته مع طهران وتقليص العلاقات المالية. وكتبت: “المطالب الأميركية من العراق واضحة للغاية وهي وقف العلاقات المالية مع إيران وسوريا ولبنان”.  ِتسبب هذا الوضع في ضغوط مضاعفة على رجال الأعمال والاقتصاد الإيراني، لأن أحد مداخل الدولار لإيران يتم إغلاقه، وستكون ‎إيران بالتأكيد الخاسر الأكبر في هذه القضية”.

  كما تطرقت صحيفة “اقتصاد بويا” (30 كانون الثاني 2023) إلى الاضطراب المستمر في أسواق العملات الصعبة والانهيار غير المسبوق في قيمة العملة الإيرانية وتراجعها الكبير أمام الدولار، الوضع الحالي في إيران يجعل الاقتصاد شبه متوقف ولا أحد يمكنه العمل والاستثمار بشكل كبير.

رئيس الوزراء محمد السوداني في أزمة كبيرة , فقد امره رئيس الاطار التنسيقي نوري المالكي بالتفاهم مع أمريكا , لكن مشكلة السوداني إنه بانتظار موافقة البيت الأبيض على زيارته لواشنطن التي تمانع في قبول زيارة السوداني رغم دخول توسطات عربية كوساطة الملك الأردني عبد الله الحسين التي لم تنجح . فالأمريكان مصرين على الاستمرار في هذه الإجراءات الوقائية بعد توثيق عمليات التهريب الى طهران التي تدعم روسيا التي هي في حالة حرب مع أمريكا والدول الأوربية .

 واضح إن العراق وشعبه هو الضحية الأولى مما يحصل بسبب ارتباطه المباشر بالوضع الحالي الذي تواجهه طهران من تصعيد قد يفود خلال الأسابيع المقبلة الى نقل ملف طهران النووي الى مجلس الأمن الدولي .