وجوه بلون الرّماد والذاكرة

صدر حديثًا عن “مكتبة بيسان” كتاب “وجوه بلون الرّماد” للكاتبة والمحامية اللبنانية وداد يونس. الكتاب الذي يزدان غلافه بلوحة معبّرة للفنان زعل سلوم يروي، في 224 صفحة، ذاكرة الكاتبة في نصوص منفصلة يجمع بينها في خطّ بياني وثيق، امتداد زمني كثيف الذكريات، شفيف الحنين، وعميق المعاناة والفقد والقلق والغضب.

 أسلوب الكاتبة الرشيق رافق القصص الذاتية والشخصية ذات الارتباط بالعائلة والمحيط والبلدة والوطن، وأضفى على قصص الكتاب رصانة أدبيةً سلِسة السياق، بليغة الرؤية، تتداخل فيها الواقعية السردية بالأبعاد الرؤيوية، في انسيابية ممتعة بعيدة من التكلّف والافتعال.

نصوصٌ سيّالة المضامين، مكثّفة الدلالات يصعب ترتيبها في قائمة الأنواع الأدبية، ويلتبس تصنيفها بحسب السّائد، وذلك لتداخلٍ فيها بين رواية متعددة السياقات، وبين قصة قصيرة تختزل امتداد حياة بتجاربها، وبين أقصوصة تختزن ذاكراتٍ متعددة بإيجاز مكتنز المعاني. لذا، عمدت الكاتبة إلى تصنيف تجربتها الأدبية النّوعية بـ “كتاب الذكريات”. ولعلّ هذا التصنيف يليق بصفحات حياةٍ استرقت منها يونس ذاكرةً متراكمة، حيّة، مشحونة، حالمة، سعيدة أحيانًاً وحزينة مرات، موجعة ونابضة بالأمل في الآن نفسه. فاستطاعت استعادة ماضٍ بكامل تجلياته وانفعالاته وتجاربه وتنوّعه، ولاسيّما في محيط جغرافي بالغ الدلالات الإنسانية والوطنية والشخصية، إذ تتشابك فيه الأحداث العامة بالخاصة لينبثق منها إطار شديد الخصوصية ظلّل ذاكرة الكاتبة، ليشكّل هويتها الخاصة في كتابة قصصية سردية، ترتقي في نهاية المطاف إلى كتابة السيرة وإنما بطريقة وداد يونس المتميزة وأسلوبها الشائق.

سيرة تتشابه، ببعض جوانبها، مع تجربة كثر من اللبنانيين عاشوا معاناة مشتركة. معاناة اختارت الكاتبة أن تُخرجها من غرف الذاكرة ذات الأبواب المواربة. ذاكرة الحرب والاحتلال الاسرائيلي للجنوب اللبناني، ذاكرة الخيام ومعتقلها، ذاكرة الحرب الأهلية وبروز المليشيات والحواجز المتنقلة، ذاكرة الوجود السوري وتداعياته وسياساته، ذاكرة نظام الفساد والطوائف في مرحلة ما بعد الطائف، ذاكرة النزوح والهجرة والقرية والعائلة وبيروت والخوف والألم والقلق والقهر والمرارة، وذاكراتٌ ثقيلة ومرهقة، تختزل زمنًا بثراء تجاربه ومحطاته.

زمن وداد يونس المستعاد بكثير من الحنين والأسى، اختصرته بعبارة جبران خليل جبران من كتابه “البدائع والطرائف” في مستهل الكتاب: “لبنانكم طوائف وأحزاب، أما لبناني فصِبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول ويقذفون الأكَر في الساحات”. عند هذه العبارة تتقاطع أحلام الكاتبة وذاكرتها النقيّة عن لبنان مع أحلام جبران البعيدة، حيث يلتقي عشق كبير للبنان. عشق وداد يونس لوطن توجعها آلامه اليوم، وهي المناضلة الراسخة في قناعاتها الوطنية مهما تبدّلت الأحوال وتغيّر الزمن.

في هذا الكتاب – السيرة، حاولت وداد يونس نفض الرماد عن وجوهٍ غائمة في مخيلتها من دون أن تمطر. زمن مضى لكنه لايمضِ، كما تقول في أحد نصوصها، رمادٌ لم يحجب عنها طيلة سنوات الذاكرة القصيّة، ملامح وجوه عاشت معها وعايشتها، وكأنها تقول لقرّاء حكاياتها الجميلة، آن أوان إزالة الصّدأ عن باب الذاكرة حتى وإن كان مواربًا ومخاتلًا، لكنه يبقى شكلًا آخر للحرية ومحاولةً عنيدة للنجاة من غربة طويلة محتّمة.