الجماعات المتروكة إلى في غياب الدولة الراعية
حين أعلن زياد الرحباني ، قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن ، بأنّه سيكف عن كتابة المسرح ، وإخراج المسرحيات الجديدة وتقديمها للجمهور اللبنانيّ ، لم يكن ليبتعد عن الحقيقة في شيئ ، لأن المسرح يحتاج إلى مجتمع مديني ، تتفاعل شرائحه بعضها مع البعض الآخر وتُشكل نصاب حياة سياسية وإجتماعية وثقافية متطورة . وحين رأى زياد الى الحرب اللبنانية بوصفها عامل تقويض لهذا النصاب وبأن المسرح لن يستقيم في ظل هذا التذررالمذهبي والطائفي البغيض والدّموي ، الذي أعلن عنه في مسرحية “شي فاشل” ، فقد كان من الطبيعيّ أن ينسجم مع نفسه ويلوذ بالصمت الكامل . ولكن يحيى جابر، الشاعر والمخرج والكاتب المسرحي ، لم يَرفع راية استسلامه كما فعل صاحب ” فيلم أميركي طويل ” ، بل راح في ظل الانهيارات والتّداعيات المُتلاحقة ، يُصرعلى تقديم أعمال مسرحية متلاحقة ، تنفذ ببراعة واستبصار الى أعماق الواقع اللبناني المأزوم ، وتفضح بوعي عميق البنى الاجتماعية والطائفية المتخلفة التي تمنعه من التّقدم والإزدهار .
والواقع أن تجربة يحيى جابر لم تتأسس في الفراغ الكامل ، بل أفادت من التجارب السابقة لزياد الرحباني ، وحسن علاء الدين المعروف باسمه الشعبي ” شوشو ” ، ومن مسرح الحكواتي لروجيه عساف ، حيث تم تسليط الضوء على الوحدات الاجتماعية اللبنانية ، وبخاصة على المجتمع الجنوبيّ الّذي عاين عساف معاناته عن كثب زمن الاحتلال الاسرائيلي ، وصولاً الى رفيق علي أحمد ومسرح الشخص الواحد . لكن جابر المُستند الى كل هذا الإرث المسرحي الثريّ ، لم يكن ظلاً أو صدىً لأحد من أسلافه ، بل كان له من موهبته الصرف ووعيه الفكري واطّلاعه العميق على ثقافة العصر ، ما ساعده على بلورة تجربته وأسلوبه المميزين . وإذا كان صاحب ” بحيرة المصل ” قد رَفد تجربته المسرحية بقدر وافر من التخييل والغنى المشهديّ ، فهو بالمقابل لم يحوّل مسرحه الى فضاء للعواطف السيّالة والرومنسية الميلودرامية ، بل راح عن الحقيقة الفنية في تربة الواقع المُعاش واللغة الجارحة والمُمعنة في حسيتها . كما أن تجربته الحزبية ” اليسارية ” ، قد وفرت له سبل النفاذ الى أعماق المجتمع اللبناني والوقوف على إيجابياته وسلبياته وتناقضاته المختلفة . هكذا بدت أعماله المسرحية أشبه بصور بانورامية متنوعة للجماعات اللبنانية المترنحة بين التفكك والالتئام ، والبعيدة بفعل التنابذ الطائفي عن الانصهار في بوتقة وطنية جامعة .
إلا أن المشهد اللبناني ، على مأساويته ، ليس قاتماً تماماً في مسرح يحيى جابر . فالشرائح الاجتماعية المتباينة في مسرحياته ، يمكن لها أن تتكامل وتتفاعل بما تمتلكه من تراث مشترك ومرونة تاريخية وانفتاح على الآخر ، وأن تُحول الوطن الصغير الذي تتقاسم جغرافيته الساحرة الى مصدر للثراء المعرفي الى مختبر دائم لصناعة المستقبل .فهو يُقدم في مسرحيته ” مجدرة حمرا ” صورة عن المجتمع , الجنوبي بتعبيراته الثقافية والاجتماعية وبما يواجهه من تحديات . كما يقدم في ” الطريق الجديدة ” صورة عن البيئة البيروتية وعلاقتها بمحيطها ، معبراً عن هواجس المجموعات اللبنانية ومخاوفها من جهة ، وعن توقها البالغ الى الدولة الجامعة والعادلة من جهة أخرى .
وفي عمله الأخير “هيكالو” ، يقدّم لنا جابر من خلال شخصية بطله البقاعي ، صورة واقعية عن العشائر اللبنانية في تكوينها العصبي وتقاليدها وعاداتها المتوارثة ، كما في كرمها ونُبلها وسخائها من جهة ، وفي لجوء إلى العنف لحماية نفسها ، من جهة أخرى . لكن المفاجأة التي حركت مشاعر الجمهور ، طوال مدة عرض المسرحية ، هي أن جميع مشاهدها المضحكة والمبكية معاً ، ليست سوى قصة عباس جعفر نفسه ، الذي تربى في دار للأيتام ، بعد أن هربت به والدته ، بعيدا عن عالم الثأر و تجارة الممنوعات وعادات الأخذ بالثأر ، الذي تتوارثه العشائر ، وقد قدم عباس مونولوغا ساخرا لعب فيه أدوار العائلة بأكملها ، أي الجدّة والعمة وعجاج وغيرهم . أما الشيخ نوفل فهو من أشد الشخصيات طرافة ، حيث يُكيف أحكام الدين وشرائعه بما يتناسب مع مصالحه وطموحاته ، لا وفقاً لأيّ اعتبار آخر . كما يبدو انفتاحه على الديانات والطوائف المختلفة ، بمثابة الممر الالزامي لتوسيع دائرة مكاسبه ، لا تعبيراً عن عمق إدراكه وسِعة أفقه الفكريّ . كما يطرح جابر في مسرحيته قضية المطلوبين الفارين من العدالة بجرائم شتى ، وتواطؤ الدولة في الكثير من الأحيان مع السياسيين المتنفذين والمهربين الكبار ، في حين تتلكأ عن القيام بأبسط واجباتها إزاء مواطنيها المعوزين والمقهورين .
ولعل أبرز مشاهد المسرحية ، هو المشهد الاستهلالي , الذي يُطل فيه أحد أبناء آل جعفر من قرية ” الدار الواسعة ” باتجاه بعلبك ، فيرى ضوءاً ينبعث من مكان قريب من القلعة ، لينجذب إليه بدافع الفضول ، مُستطلعا له ولعائلته مساراً للحياة المدينية يختلف عن سابقه بشكل جزئي ، دون أن يقطع الصلة مع تقاليد العائلة وأعرافها العشائرية المتوارثة . كما يجمع هذا المدخل الملحمي للعمل ، بين الكوميديا الطريفة والسخرية السوداء ، بين علم الاجتماع وعلم النفس ، وبين مقدمات الواقع المضحك ومآلاته المُبكية . فحين تغيب الدولة الراعية تصبح شريعة الغاب هي الشريعة البديلة التي يفرضها الأقوياء على الضعفاء والمسالمين . وحين تتعاظم الحاجة ويسود الفقر ، لا يجد البشر الجياع غضاضة في الإستيلاء على لقمة الآخرين وسلبهم حقوقهم ومنازلهم بكل طريقة ممكنة . وانطلاقاً من هذا الواقع ، عملت العشيرة الهابطة من أعالي الجرود على مصادرة البيوت والأراضي المحيطة بعمود الكهرباء الذي جذبها ضوؤه الى المدينة ، لتبدأ بالتوسع التدريجي في الحي الذي عرف لاحقاً باسم “حي الشراونة”، ولتتدبر شؤونها في ضوء علاقتها ” المضطربة ” بغيرها من الشرائح ، مستمرة في الوقت نفسه في زراعة الممنوعات ، كما من الأرباح القليلة التي توفرها لبعض أبنائها مهرجانات بعلبك الصيفية . هكذا يبدو العمل نوعاً من العرض العميق والحاذق للبنية العشائرية البقاعية ، في قوتها وضعفها ، في جبروتها وهشاشتها ، وفي بحثها المضني عما يخرجها من دائرة العوز والتهميش والقلق على المصير . وهو ما لا تقتصر مفاعيله على منطقة لبنانية بعينها ، بل تطال معظم مناطق الأطراف التي لم تعرها الدولة أي التفاتة ، والتي تتوزع مصائر أبنائها بين الهجرة المطردة ، والتشرد فوق أرصفة العاصمة ، والاكتظاظ المأساوي في سجون الإهمال والتخلي .
ولا أملك أخيراً أن أختتم هذه المقاربة ، دون التنويه بالقدرات الفنية العالية التي أظهرها الممثل الشاب عباس جعفر، على امتداد ساعة ونصف من الحركة الدائبة والمواقف الدرامية ، المتفاوتة في توترها وحبكتها وثرائها التعبيري . لقد نجح جعفر بامتياز في تجاوز أدواره التلفزيونية النمطية التي رُسمت له على عجل ، مظهراً قدرات إبداعية غير مسبوقة ، ومتقمصاً بكفاءة عالية العديد من الشخصيات والأدوار، ومستفيداً الى أبعد الحدود من انتمائه الغعلي الى العشيرة التي عمل على تظهير صورتها من جديد ، في مرآة الفن الهادف ، والنابع من أعماق القلب .