الاقتصاد السعودي…أنهكه النفط والحروب

بيروت ـ نادر صباغ

لم يعد السؤال اليوم، هل المملكة العربية السعودية تعيش أزمة إقتصادية أم لا. بات السؤال إلى أي مدى ستؤثر هذه الأزمة على أكبر اقتصاديات المنطقة، وما ستكون تداعياتها على دول الخليج والمحيط في ظل اشتداد الأزمات السياسية والعسكرية التي تعصف بها، والتي يبدو أن أمدها سيطول.

تخوض السعودية اليوم حربا اقتصاديا داخلية هادئة لا تقل خطورتها من النواحي الاستراتيجية عن الاستحقاقات العسكرية والسياسية الكبرى التي تترصد بالمملكة. ليس خافيا على أي من المتابعين ادراك أن أمورا كثيرا تغيرت في »مملكة النفط الكبرى« خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ما كان يتداول همسا بات أمرا تطالعه في كبريات الصحف والتقارير الغربية عن مشكلات بنيوية وظرفية وبعيدة المدى يتخبط فيها الاقتصاد السعودي.

قد تختلف الآراء في تشخيص الموضوع وتحليل أسبابه وطرق علاجه، لكن أكثر المدافعين عن متانة وقوة الاقتصاد السعودي وحصانته في وجه الكثير من المتغيرات السلبية التي تعترض طريقه لا يجد الحجج الكافية لدحض الشبهات عن أن اقتصاد المملكة يعيش حالا من الركود الحاد، وأنه مقبل على مراحل صعبة بدت ملامحها بالظهور في أكثر من مؤشر لم يعد بالإمكان إخفاؤه أو كتمان وجوده.

مؤشرات مقلقة

يواجه الاقتصاد السعودي مجموعة من التحديات الكبرى والمتزايدة في ظل استمرار انخفاض أسعار النفط عالميا. وتكشف مجموعة من التقارير المتخصصة أن النمو الاقتصادي خلال عام 2015 الماضي كان الأسوأ منذ 13 عاما حيث بلغ 1.5 %، وكذلك كان نمو القطاع الخاص غير النفطي الأقل منذ 25 عاما.

في سياق متصل، انكمش ناتج قطاع البناء في النصف الأول من العام الحالي بنسبة 1.9 % مقارنة بعام 2015، وبدأ الضعف يدب في باقي مفاصل الاقتصاد الأخرى. بينما نما قطاع النفط بنسبة 5.1%، بانكماش بلغت نسبته  0.7%، وهي النسبة الأضعف منذ خمس سنوات.

يشير تقرير صدر عن وكالة »بلومبرج« الاقتصادية الدولية، إلى أن المملكة تدرس بجدية إلغاء مشاريع بقيمة 260 مليار ريال سعودي )ما يعادل نحو 69 مليار دولار( وتقليص نفقات وميزانيات عدد من الوزرات بهدف تحقيق إصلاح مالي في ضوء تراجع أسعار النفط، وأن أغلب هذه المشاريع يتعلق بقطاعات النقل والصحة والإسكان. وأن الحكومة تعتزم تنفيذ تلك الخطط في فترة قصيرة لكن من دون ضجيج.

بدوره، يلفت صندوق النقد الدولي في تقرير حديث له إلى توقعه بانخفاض الناتج المحلي للمملكة إلى 10 % خلال عام 2017 المقبل، مشيراً إلى أن ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان اتخذ عددا من الإجراءات لكبح جماح عجز الموازنة العامة الذي وصل إلى 16 % العام الماضي وهي أعلى نسبة بين أكبر 20 اقتصادا في العالم.

أزمة سيولة

شركة »الراجحي« المالية أكدت أن السعودية تواجه أزمة سيولة في السوق بالتوازي مع تضاعف معدلات الفوائد المعروضة بين البنوك، فيما لفت إقتصاديون الى أن تزايد تكاليف الإقتراض سينعكس على الشركات ذات هامش الربح المنخفض والرافعة المالية العالية.

وتوقع المراقبون أن يقع التأثير الأكبر على الشركات العاملة في قطاعات الصناعة والتشييد والبناء والزراعة والأغذية، رغم أن التأثيرات ستتفاوت استناداً إلى ملفات الديون الخاصة بكل منها وهيكل التكاليف.

وتضاف تكاليف الاقتراض على سلسلة من التحديات تواجهها الشركات السعودية في ظل انخفاض الطلب ما دفعها إلى خفض الأسعار، الى جانب تخفيض الحكومة السعودية نفقاتها وتقليل دعم الطاقة.

على الرغم من كل هذه التحديات، تصرّ السلطات في السعودية على سياساتها في ضخ النفط بمعدلات قياسية بعيدًا عن كل التهديدات التي تتربص بالإقتصاد. ورغم محاولات السعودية لطمأنة مواطنيها بشأن إجراءات تقشفية مرتقبة، إلا أن لغة الأرقام وحجم الإنفاق الحكومي المثقل بحرب طويلة الأمد في اليمن وتداعيات الأزمة السورية وتصاعد ميادين وأشكال المواجهة مع إيران يؤشر إلى أن اقتصاد المملكة بات مقبلاً على مرحلة صعبة، فما مدى صحة هذه التوقعات؟

كشفت بعض التقارير المتداولة أخيرا أن الاقتصاد السعودي مقبل على واحدة من أحلك فتراته مع استمرار تراجع أسعار النفط منذ منتصف 2014، وهو ما يتوقع معه محللون اقتصاديون أن تسجل السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم، عجزاً قياسياً في الموازنة قد يتجاوز 120 مليار دولار هذا العام.

ولتغطية هذا العجز لجأت الحكومة لسحب أكثر من 80 مليار دولار من الاحتياطات الخارجية منذ أغسطس/ آب الماضي، وفي خطوة لاحقة خاطبت سلطات المملكة بنوكا محلية لإصدار سندات بقيمة 20 مليار ريال سعودي (5.33 مليار دولار) لتمويل عجز الموازنة.

رسالة سرية

وكانت صحيفة »الغارديان« البريطانية نشرت مؤخراً ما قالت إنه مضمون رسالة سرية بعث بها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى وزير المالية إبراهيم العساف في سبتمبر/ أيلول الماضي. وتنص الرسالة على ضرورة اتخاذ إجراءات تقشفية لتقليص الإنفاق الحكومي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من ميزانية العام الحالي، من بينها إيقاف جميع مشاريع البنى التحتية الجديدة، ووقف شراء أي سيارات أو أثاث أو تجهيزات أخرى، بالإضافة إلى إجراءات أخرى.

بدورها نشرت وسائل إعلام عربية نقلاً عن مصادر خليجية أن الملك سلمان بدأ في إطلاق إجراءات تقشفية واسعة في مختلف القطاعات بسبب ارتفاع العجز في الميزانية الناجم عن تراجع عائدات النفط. وذكرت أن هذه السياسة التقشفية ستشمل تخفيض الدعم للمحروقات والكهرباء والماء وبعض السلع الأساسية الأخرى، وربما إلغاءها كلياً، بالإضافة إلى دراسة إمكانية فرض ضرائب على الدخل والتحويلات الخارجية بالنسبة للأجانب، وزيادة بعض الرسوم على تجديد الإقامات ورخص القيادة والخدمات البيروقراطية الرسمية الأخرى.

ويتوقع محللون أن تواجه موازنة السعودية أكبر عجز في تاريخها نتيجة استمرار تراجع أسعار النفط. الحديث عن العجز في موازنة المملكة لا يقتصر على »الغارديان« وغيرها من الصحف، إذ كان صندوق النقد الدولي قد قدر أن السعودية ستواجه في 2015 أكبر عجز في تاريخ ميزانيتها قد يصل إلى 150 مليار دولار. وحسب تقديرات محللين عسكريين فإن الحملة العسكرية التي بدأتها الرياض ضد الحوثيين في اليمن في مارس/ آذار الماضي بالإضافة إلى تدخلها في النزاع السوري والمساعدات الضخمة التي قدمتها لمصر وكذلك المبالغ الضخمة التي تصرفها من أجل التسلح ستثقل ميزانية المملكة بمليارات الدولارات، وستؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على المشاريع الاقتصادية العامة في المملكة.

وكان تقرير لمؤسسة الراجحي كابيتال ذكر أن السعودية ضاعفت سعر الفائدة بين البنوك ثلاث مرات تقريبًا، أي حوالي 2.3% من أقل من 0.8%، على مدى العام الماضي، وهي تواجه الآن أزمة سيولة في السوق. وأظهرت بيانات رسمية أن صافي الأصول الأجنبية لدى مؤسسة النقد العربي السعودي انخفضت إلى 555 مليار دولار في يوليو، بانخفاض 6 مليارات مقارنة بالأشهر السابقة، وبهذا ينخفض 16% مقارنة بالعام الماضي، إلى أدنى مستوى له منذ عام 2012.

ويعد انخفاض الاحتياطي الاجنبي أمرًا ملحوظًا؛ نظرًا لانغماس السعوديين في الاحتياطات، في ظل العجز في الميزانية؛ لانخفاض أسعار النفط.

وتشير مؤسسة كابيتال إيكونمكس إلى انّ الاقتصاد السعودي انكمش بنسبة 2.3% سنة تلو الأخرى. وخلال الربع الثاني من العام الجاري تراجعت النتائج بنسبة 2% على أساس سنوي.

وفي هذا الاطار، يقول خبير شؤون الشرق الأوسط في كابيتال إيكونمكس جيسون توفاي: »في حال صحة تعقبنا للنتائج، سيكون هذا أول انكماش للاقتصاد السعودي منذ عام 2009، في خضم الأزمة المالية العالمية. كما أن القطاع غير النفطي شهد تراجعا في الإنتاج بنحو 4.5%، والذي يعد أكبر انخفاض منذ عام 1986«.

في المقلب الآخر، يرى إقتصاديون أنه وبالرغم من هذه المعطيات فإن الاقتصاد السعودي لايواجه أزمة في الوقت الحالي بل حقق نمواً في عدد من المجالات. كما أن إعلان الملك سلمان فتح سوق تجارة التجزئة، وهي سوق ستكون الأكبر من نوعها في المنطقة، سيساهم في إنعاش الاقتصاد السعودي. كل ما في الأمر أن البلاد تخوض حالياً حروباً وبالتالي فمن الطبيعي أن تزيد نفقاتها لكن لا يوجد موظف اشتكى مثلاً من تقليص أو تأخر مرتبه. الحياة اليومية للسعوديين مازالت كما هي.

ويعتبر عدد من الخبراء الاقتصاديين أنه حتى تراجع أسعار النفط لا يُتوقع أن يؤثر على الاقتصاد بالشكل الذي يتم تصويره فالسعودية وضعت ميزانيتها على أساس أن سعر برميل النفط سيكون في حدود 40 دولاراً، ولديها احتياطي جيد، وتحاول تقليص السحب منه كما أن الوضع المالي جيد.

مهما تكن الاجتهادات في توصيف حال الوضع الراهن للاقتصاد السعودي والمرحلة التي يمر بها وتداعياتها المستقبلية على المملكة وحتى العالم، ما بات شبه مؤكد أن السعودية ما قبل العام 2014 هي أكيد غير السعودية ما بعده، وتبقى التفاصيل برسم ما هو آت.

ـ الملك سلمان بن عبد العزيز… اجراءات تقشفية في مختلف القطاعات