الشعر بين العلم والمعرفة

نعيم تلحوق

سألني صاحبي، هل رأيت الله؟ رددت : »لم أكن …«استدركَ عني: »كي ترى، عليك أن تنظر أولاً »؟! بدأت رحلة اكتشاف الذات بسؤال : »من أنا« وأطلق البحث معناه ليفيض في داخلي، رحت من التخلّي إلى التجلّي أدرس نفسي وكيف يمكن للإنسان أن يكون بلا قيم أو بلا فضاء من الاستدراكات الكثيرة والمختلفة…

طريق لا بدّ من المرور فيه، كي أكون عِلماً لأصير بعد كثير من العلوم معرفة، فأشهد أني كنت وفق تجلٍ إنساني حدثاً في مستقر إسمه المكان على طريق الزمان …

 وحين التقيت بقامة أدبية كعمر أبي ريشة، سألته : ماذا عن المتنبي؟ أجاب ليس المتنبي شاعراً يا فتى؟ أعياني الجواب، فأصررت عليه؛فردَّ: ليس الذي يمدح ويستعطي على باب السلطان يحمل مواصفات الشعر … الشعر أكبر من ذلك بكثير…

اخترعت مفردة جديدة، الشعر هو الله … يعطي ولا يأخذ … فهو يبري الكلام كي يصير ملحاً فخميراً فعجيناً فخبزاً …

أناط بي المعنى سؤال الهوية، لماذا عليّ أن أكون أصيلاً، وللحداثة أشكال، وللشعر أنواع، وأنماط وأفكار ونفوس وأهوال صورية تأتي بلا دراية منّا، من لا وعينا الأثير، إلى أحلامنا الأرضية، لتكسبنا قراءة مستوفية الشروط بلا منّة ولا دِعَة ؟؟؟

فإذا كان الشعرُ وظيفةً لتكريس القيم الانسانية المتعارف عليها فما هي القيم، وما هو المتعارف عليه ؟ وهل الحداثة فكرةً أو مشروع؟

هذا يقودنا في محور البحث عن الهوية، كي نفهم القيم ونؤسس عليها تعارفاً يليق بسمعة الحياة …

اعتبر عبد القاهر الجرجاني أن أعذب الشعر أكذبه … وهو بهذه العبارة قصد الإنزياح اللغوي للمعنى، لا الانزياح الرؤيوي لجسد الحياة … فاللغة هي الحياة، ومن لا حياة فيه لا حركة تطاله، ومن لا تطاله الحركة لا يرصده المعنى …

للكتابة غرض أبهى هو الإنسان، لا البشري … ولا يستقيم أدب بلا قيم، والفضائل والرذائل لا تقبل التجزئة، على رأي الكاتب سعيد تقي الدين لنضيف حركة على المعنى، وهل يعقل أن يكون هناك سدْس لص وسبْع محتال وخمْس آدمي وربْع امرأة، وثُمْن رجال …هناك بالتأكيد لص واحد .. آدمي واحد … إمرأة واحدة، ورجل واحد…إذاً لا يمكن أن نجزِّيءَ في الأدب بين الصورة والمصوّر والعدسة، فكلهم واحد في المشهد القيمي …

وإذا كان الانزياح اللغوي، يقصد المعنى، فهو يثير بلبلة قصدية في المبنى ليقيم حركته، وهو من قطيع الجسم الذي يحمل ايقاعه في حركة الروح، لنستظهر الفعل من اللافعل، ولنستعير إيقاعات اخرى داخل حركة الجسد أو خارجه، ولنبلغ المؤدّى او الغرض المعرفي من كل هذا وذاك…

وقبل بلوغي، علّمني أبي البلاغة في سن العاشرة، فعرفت الإيجاز والبلاغة في الحديث عن القيم واللطافة في المؤدَّى … فاختبرني ببلاغة الصغير والكبير، لا بالمدرك الزمني بل بالبحث القيمي الذي على ضوئه تتأسس فكرة الأدب فهل سمعتم .. أن لصاً أو نذلاً، حقيراً أو سافلاً، بخيلاً أو مرابياً، كاذباً أو جباناً يكتب أدباً ؟؟؟ بالله عليكم إذا حصل كيف يكون المعنى صادقاً، وكريماً، ونبيلاً، وراقياً، كي يتفق الكاذب مع الشعر إذا كان انزياحاً عن صاحبه في سمة وعيه لحركة الجسم والروح في آن معاً …

إذاً، الهوية، أساس لوعي الشاعر أو الأديب لمعنى حركته وعليها -أي الهوية- تتمظهر كل الوقائع والأحداث والأفكار … فلا تخرج اللحظوية والبنيوية عن ظلال الهوية … لان العمل الفني سينحو منحىً آخر لا يليق بسمعة المعنى والمعنى المضاعف إذا خرج عن هويته … فلا تفكيكية دون معنى ولا جسم دون سائر معانيه …

وبما أن الحداثة مشروع إنتاجي، فنحن لم نلحظ حداثتنا بعد، كوننا غير منتجين فكراً وصناعة وغلالاً … فلا يعود هناك حق لمن لا يعمل ولا خير لمن لا يسمع، ولا جمال لمن لا يعشق ويحب ويفكر، هنا أضفتُ الفكر للجمال، لأني اعتبرتُه وازعَ خيرٍ للمدنية والبسيطة لا عامل شرّ …

 الحداثة هوية متجذرة ومتجددة في آن، لذا، اعتبر ان المتنبي شاعر حديث بامتياز، كونه حديث الساعة، وشعره لم يزل يليق بسمعة الحياة، فهو لم يخرج عن طاعة المعنى الذي تأسست قصيدته عليه بغضّ النظر أكنا نحبه كشخصية أدبية أو كنص … هو شخصية ملتبسة تقيم وزنها داخل بيئتها وينسحب مدلولها على بيئات مختلفة ومتعددة، مما يشير إلى أن حركة المعنى جذرية بامتياز وغير قابلة لتفنيد السلوك البنيوي للنص اذا أخذت بالمعنى الجماعي لا الفردي البحت، طالما السلوك الرؤيوي حاصل لا محال … فشعره ناتج معرفي لفعلٍ جماعي سواء كان هدفه فردياً أم غير ذلك …

وإذا نزع أحدنا إلى قراءة النص بإطاره البنيوي فهذا يعني أنه يقرأ الجسم في وظيفته لا في كيفية خلقه أو إبداعه، وبهذا المعنى لا يمكن اعتبار فكرة القبيلة والعشيرة والطائفة فكرة حديثة، أو حداثة، لأنها فكرة قديمة مكرورة أو منسوخة عن سابقاتها … الفكرة هنا لم تتغير بل الأدوات، إذاً، هناك فكرة جديدة وأخرى قديمة، شعر قديم وآخر حديث، البنيوية تكمن في جنس الحركة أكثر من قيمة الحركة داخل الموضوع، أما قيمة الموضوع فتكون في حركة الحركة التي تكمن في الكيف لا في المتى والأين .!!

إذاً، الثقافة هوية، والهوية متلازمة مع الحياة القيمة لا الترف، والقيمة لتكون عليها أن تقيم ارتباطها السحري بالروح والوجدان والجذور، أي بالأرض واللغة والتاريخ والمستقبل، فالحداثة القيمة تجمع الفكرة التي تنتج وعيها الثقافي رؤيةً ومعرفةً، ولا يقوم ذلك إلاَّ بتفاعل الحوار بين الفعل والإنفعال، أي بتثوير الرؤية التي تسمح للأفراد والتعدد والآراء إقامة فضاءٍ أو منارة يقتدي بها الغد، فالتاريخ هو ما سيكون وليس ما كان فحسب …

 حين يسمع أحدكم عن » الشاعر الكبير« … فهذا تفسير الماء للماء فالشاعر له مواصفات إما أن يكون فارساً، نبيلاً، مقداماً، كريماً، عزيزاً، او لا يكون … فالكبير والصغير، عبارة تنطلي هنا على القيمة لا على الفرق أو القياس، من حيث المعنى، وهذا يدل على الداخل والخارج وما يتماثل معهما في الرؤية، كأن يقول أحدُكم :«وجهك جميل كالقمر« … هنا كلام لا ينبو إلا على تفسير الماء بالماء … فإذا كان القمر أخذ دلالة الجمال، رغم بشاعته شكلاً فهذا يؤكد بالضرورة أن استعمالاته الجمالية امتلكت هذه الصفة، فصار بامكاننا القول :« وجهك القمر« … »وجهك البدر«، فلماذا نفسر المفسَّر إذاً …

 وهذا يأخذنا إلى تحقيق هوية نملكها لتشذيب حيوية النص، وإزالة الحشو من داخلنا، أو ما يعرف بالثرثرة اللغوية أو الإنشاء اللفظي. فالإنسان ليتعفف وهي من شروط الأديب، أن يتسم ما يلفظه بما يستطيعه، أو يتمناه او يبلغه عبر إدخال ذاته في المشهد )المعنى والمبنى( لا أن يصف القضايا والاشكال بعيداً عن معنى هويته أو رؤيته. فالمدح والهجاء والرثاء انماط رؤيوية لزارع يحاول إيجاد بذور نصه عبر توليفية نصية لمناظرتها … لكنه لا يدخل فيها … أما إذا كان السؤال أن النص لعبة السائل والكيف، فهذا يأخذنا حتماً الى متاهة الكشف والبحث عن قيمة النص وجماليته من داخلنا لا من خارجنا.

لننهِ المتاهة، هل الإنزياح اللغوي هو غيره الإنزياح القيمي للنص، ما الجدوى من الأدب إذاً… سيما إذا اعترفنا بأن اللغة هي الحياة … وأي حياة لا ترتبط بهوية ومكان ورؤيا، هي حياة ثقافية خارج المرسل والمتلقي في آن واحد، فكيف يقوم النص خارج الحياة ؟؟؟

لا أدعو هنا إلى الواقعية، فالتخييل قدر لا استحالة في رؤيته لكن متى سقطت قيم النص، سقط صاحبه، إذا لم يكن صاحب النص تضميناً فيه، وهذا يعني ان اعتواراً يصيب المعنى، دون أن نبلغ سر الحياة وجدواها … فلنلعب بالصور اللغوية بمبناها لا بأسرارها، علينا الكشف عن المعنى الجمالي لوجودنا بصور ومفردات جمالية وذلك عبر إدراكنا أن الإبداع هو سمة قيمة لا سمة فرق … فالمشكلة هي أن تحوز على فكرة ماذا تقول لتفوز بفكرة كيف تقول ماذا، لا النظر إلى الأشياء بالمفرد وبالتقسيط، فالقيم ضمير الجماعة وضمير الهوية … ومن لا ضمير له لا أدب عنده …

عمر ابي ريشة: المتنبّي ليس شاعرا انه مداّح

ــــــ

أنا وهي

المقامرة بالزمن، اللعب بالألفاظ، التداول المعرفي أو الوظيفي، الاستلهام المعنوي…

 أنا أكتب بالحروف، وهي تكتب بالألوان… مساحتي أضيَق لكنها أسهل، مساحتها أوسع لكنها أصعب… أدوات اللفظ منوطة بمعرفة كل واحد منّا الآخر، نحن عنصران نتكامل في الصورة، ونتجزأ في المشهد… هي أفضل منّي لأن صدرها أرحب، أنا خلقي ضيّق، فحين يضيق خلقي توسّع لي صدرها… وحين تحتدم ذاكرتها أساعدها في إعادة إنتاج الفكرة… هي أصلب منّي، لأنها لا تعترف بالهزيمة، أنا أكثر جُبناً، أقرُّ فوراً بهزيمتي، هي أكثر تحدياً وإستعداداً لمواجهة الوقت، أنا هي وهي أنا …