د. علي القيم في مقدمة لكتاب عبد اللطيف الارنأووط

صدر عن وزارة الثقافة السورية كتاب للاديب السوري عبد اللطيف الارنأووط بعنوان »غادة السمان الاديبة المبدعة في الثقافة العربية« كتب مقدمته الدكتور علي القيم معاون وزير الثقافة ورئيس تحرير مجلة »المعرفة«. وننشر هنا هذه المقدمة.

في البدء كلمة…

للباحث الدكتور: علي القيم

الكتابة عن اعمال غادة السمان، يعني الكتابة عن مسيرة عطاء حافلة بكلام مشرق وحيوي ومتمرد في حياتنا الادبية، في زمننا الحديث والمعاصر، ولان كتاباتها واعمالها الادبية المتنوعة والشاملة، كانت ما زالت طاغية الحضور، يانعة الثمر، مستشرفة الآفاق، عالمية الهوى، تبحث دائما عن ذاكرة الاسئلة، فيلتقي فيها الحزن بالحنين، وتتداعى الذكريات في محطات الشوق والرحيل والوطن والتمرد وبومة الابجدية، وهي في كل ما كتبت لا تريد ان تستريح، لانها لا تريد مجاملة الصدأ، وتريد ان يقترب العشب منها… تسافر طويلا في بحور الكتابة، حتى صارت القطارات تسافر داخل دمها، وصفيرها يهدر في أنفاق شرايينها، ومع كل هذا ما زالت، ومن قاع غربتها تنادي أحباء الأمس… انه قدرها الجميل، حيث ما زال عقد الياسمين في عنقها نضرا جميلا ساحرا، كأنه قطف للتو، وما زال حب دمشق عندها بجعة بيضاء، تسبح فوق مياه الذاكرة المعتمة، الغامضة بكل صمت الياسمين وسريته.

الكاتب عبد اللطيف الارناؤوط، في دراسته النقدية وابداعات اديبتنا الرائعة »غادة السمان« يكتب عن كتابات امرأة استثنائية في حياتنا الثقافية والادبية، يكتب عن امرأة تطالب في كل اعمالها وكتاباتها بحصتها من الشمس والقمر والعمل والفرح والحبور والتدفق والحيوية، والنمو دونما قيود.. انها امرأة للحظة الآتية، لا ترتدي غير ثوب الدهشة والترقب… امرأة تسبح في اللا مألوف من حياتنا الرتيبة، وتحلم بالمستحيل، وترفض ان تستريح او تعترف بالتعب والكسل، او ان تهزمها المتناقضات الكثيرةالتي نعيشها في عالم »القرية الكونية« والاقنعة الزائفة.

منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، لا تزال اديبتنا الكبيرة، محافظة على ألقها وتجددها المتواصل، لقد ادهشتنا دائما بنور كتاباتها الباهر، الذي يتوحد فيه الفعل، ورد الفعل، من اجل انبعاث اصيل ومتجدد… انها كانت واعية تماما لمهمتها الكبيرة، تبحث عن هويتها العربية والانسانية، تبحث دائما عن خلاف ما… عن الحرية.. عن الصفاء والنقاء… ومن اجل ذلك تعيش التجربة بحسها المرهف، ورؤيتها الثاقبة، ومعرفتها الشاملة، وتطوع الكلمة لتكون مرآة الواقع بحلوه ومره، بلا مواربة او خداع..

في كتابات »غادة السمان« المسكونة بشهوة انتعال الريح، ووسواس المسافات، تفتح امامنا الابواب مشرعة للاطلاع على حقيبة سفرها، لنرافقها على »شهوة الاجنحة« الى بلاد ومدن ومتاهات وحارات وشوارع وأزقة، نبحث معها عن بقايا ذكريات عشناها في دمشق وبيروت وباريس وبلاد الاندلس وغيرها، فتعيد الثقة بالمستقبل، وتُشحننا من جديد برغبة المقاومة، وتمد حروقنا بالأمل الذي لا مفر منه لمن يتمنى المساهمة في التعجيل بحضور فترة الخروج من الرماد الى الضوء والتحليق في سماوات زرقاء صافية… وهي في كل هذا وذاك، تمضي مع نورسها الى الغربة، ولكن تعود الى الوطن من جديد، اينما رحلت وسافرت وتغربت، تجد الوطن في كتاباتها مشرقا، يفتح ذراعيه بانتظارك بحب ولهفة، لانه ما زال يستوطنها، ويبسط سيادته الآسرة على حواسها وخواطرها.. وتقول: سأرحل… لكنها لتلك الغيمة التي اينما امطرت، فخراجها يعود الى أرضها الأم، وتعلمنا كيف نمنح الوطن المزيد من ابجدية العطاء، وأن ثمة من الود والجمال يركض في الشوارع والأزقة القديمة، وان دمشق بكل ما فيها من عظمة وخلود وعراقة، حاضرة في القلب، متغلغلة في ثنايا المرئيات، اينما رحلت وذهبت.

الكتابة عن أدب وفكر »غادة السمان« ليس بالأمر السهل، لانها الاكثر شهرة في وطننا العربي، وهي الأكثر قدرة على التطور والتجدد… وهي الاكثر جرأة وشجاعة، تشتعل بالحرية، وتحلم بالقبض على خارطة الهمّ العربي.. ومع ذلك فقد قدم لنا الزميل الصديق عبد اللطيف الأرناؤوط دراسة وافية وشاملة وطموحة للولوج الى عوالم هذه الكاتبة المتمردة على الاقنعة والزيف والرياء، وقد سبق له ان قدم دراسة مماثلة عن بعض اعمالها منذ سنوات عدة، حالفها الكثير من التوفيق والنجاح، لانه عرف كيف يقدم صورة رائعة عن القفزة النوعية والهامة التي حققتها اديبتنا الكبيرة في الرواية العربية والعالمية، فجعلنا نتعرف القضايا التي عالجتها في اعمالها العديدة، ونتوق الى البحث عن كل جديد ورائع في نتاجاتها وابداعاتها… وها هو ذا يعود ليتابع مسيرة الرصد والدراسة والبحث في رحلة جديدة في اعمالها الجديدة، فتلج في قصص »القمر المربع« باب الادب الغرائبي، الماورائي واللا معقول، لتقول لنا: »كونوا اصحاء لتظلوا اقمارا سعيدة لا تتخطى مداراتها، لتتطلع اليكم العيون عند كل شروق وغروب بالحب«.

وتدخل من خلال رسائل حنين الى الياسمين« مملكة نثرها التي يسوقها جواد العقل الجامح، وتعبر عن ادق المشاعر الانسانية الصادقة، رائدها في ذلك قوة المخيلة وعمق التفكير وجدته، وسلامة الذوق، وعشق لا ينضب للوطن الذي يضيق حنينا حتى يصبح مسقط رأسها مدينة »دمشق« او يتسع ليغدو وطن العروبة من المحيط الى الخليج.

وفي »انشودة الحب الخالدة« يتحقق لدى »غادة السمان« معنى الوجود.. في عذابه، حيث تعود الألوان الى الدنيا بعد ان كانت سوداء، رمادية، ويعود القلب يركض بين الغابات كغزال صغير متمرد، اما »المحبوب« فيبدو في نظر »المحبوبة« كم هي هذه الانسانة المبدعة، مسكونة بالحب في شتى الوانه ومظاهره، بريقه يجذبها دائما الى دائرة الذوبان فيه… إنها تفلسف الحب، بل تقدمه تجربة ومعاناة وشعورا عميقا نحو البشر والاشياء والارض وما عليها، وكأن قلبها يتسع أو يريد أن يتسع الكون كله.

وفي »القلب نورس وحيد« تحمل غادة معها جراحاتها النازفة، وغربة الروح، ترحل الى المدن الغريبة والبعيدة لتعقد معها صداقات حميمة، تحثها على ان تبوح لها بأسرارها، لكنها تستعصي على البوح والمشاركة، لانها منصرفة عنها الى ارتحالها الذاتي، متطلعة الى التجدد والبحث عن المطلق في مسيرتها عبر الزمن.

وفي »عاشقة في محبرة« تفتح »غادة السمان« دروبا جديدة للابداع في مستوى المضمون والشكل الشعري، فتجهد لتطويع اللغة الشعرية للنفاذ الى الإعماق، وتحميلها طاقات ايحائية هائلة، دون ان يعتريها الارهاق او الهبوط… وتقوم في »البحر يحاكم السمكةو باستجواب نفسها حول سيرتها الذاتية، والرجل وقضايا ادبية متفرقة… لتتابع بما يشبه سيرتها الشخصية في »الرواية المستحيلة« ونحط الرحال عند »شهوة الاجنحة« التي تمتزج فيها الحقيقة بالفانتازيا، لنصل الى روايتها الجديدة »سهرة تنكرية للموتى« التي تعد استكمالا لرحلتها مع الواقع اللبناني الراهن بعد الحرب، وما افرزته من اثار نفسية واجتماعية جديدة.

الكاتب عبد اللطيف الارناؤوط في رحلته الجديدة في اعمال »غادة السمان« كعادته، يعرف جيدا كيف يعالج مواضيعه ودراسته وكيف يمحص فيها ويقدمها للقارئ بأسلوب علمي وادبي دقيق ومشرق، ويعرف ايضاكيف يعطي الابداع حقه، وهو بذلك يخط منهج حياة واسلوب معرفة زاهية، لنكون في حضرة اديبة كبيرة تنشد الحب والحلم والمستقبل المشرق في كل كتاباتها وابداعاتها الرائعة.

د. علي القيم

كلمة الغلاف الاخير

قراءات وفق رؤية تُبرزُ الانتماء الوطني والقومي لغادة السمان، وما تحيل عليه من هموم اجتماعية وقضايا تحضُ تحرر المرأة من منظور قومي وإنساني عام.