في الثقافة والتربية قبل أن نخسر اللغة العربية

نعيم تلحوق

إحساس دفين تملّكني بأن لغتنا العربية مهددة بالانقراض، في ظل عولمة جارفة لا تسمح للأصالة، بل لأبعاد الضوء الذي خلط الرقم بالحرف، وأصبحنا نتعامل مع لغة هيروغليفية جديدة لشبابنا الطالع؛ وهذا ما يعيدنا الى القرون الحجرية لناحية استعدادنا النفسي لمواجهة الآخر.. ولم يتبقَ من هذا التراث الذي نحمله سوى اللغة التي فيما لو أمحت ذهبت ذاكرتنا وانتشى وعينا على سراب لا نعرف إلى أي مدى سيبلغه ؟؟

هذه الخلفية دعتني لأن أقدم منذ أكثر من عشر سنوات، مشروع مسابقة الشعر والقصة القصيرة لطلاب التعليم الثانوي في مختلف المدارس اللبنانية من رسمية وخاصة، وقد تبنّت وزارة الثقافة هذا المشروع الذي بدأ فعلياً في العام 2006 وهو الآن في عامه العاشر على التوالي.. وقد أضفنا في العام 2012 على اللغة العربية، اللغتين الانكليزية والفرنسية، لمن يستطيع التعبير بشكل أفضل في لغة أخرى.

وقد كانت الوزارة وافقت على المشروع كمحرّك للشباب اللبناني، من سن المراهقة )15 ذ 19( عاماً، بغية تحفيز الطلاب في هذه المدارس، والأجيال الجديدة، على المشاركة في بناء جسر واحد لوطن سليم.. ولا يقوم ذلك إلاّ بالفن والإبداع، والتعبير عمّا يجول في خاطر كل واحد منهم، شبّاناً وشابات، من أفكار وآراء وطريقة معالجة الأشياء التي يعيشونها.. وهذا هدف رئيسي لتحفيز المدارس، من مدراء ومنسقي لغات، على إعطاء دور للشباب في الكتابة والخلق والبحث عن المختلف أو الجديد من الأفكار.

الطلاب هم من القطاعين العام والخاص، أي من المدارس الرسمية والخاصة على حدٍّ سواء. وهي محصورة فقط بطلاب المرحلة الثانوية…وقد أضفنا عليها منذ ثلاث سنوات اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ووسعنا المشاركة إلى الفئة الجامعية ذ أي حتى سن ال24 – وهناك لجنة تحكيمية للشعر ولجنة تحكيمية للقصة القصيرة، كل لجنة مكوّنة من خمسة أعضاء وأنا سادسهما في كل لجنة… أعضاء اللجنة موزعون على مدارس مختلفة في الأدب من قصة قصيرة ورواية وشعر، وهم من كبار الأدباء والشعراء في لبنان، وتتغير اللجنة أو تتشكل كل سنة من أسماء جديدة لنعطي المجال أكثر لآراء مختلفة ومتنوعة.. وما يهمني حين أقوم بالتصحيح هو الصورة الشعرية في الشعر، والحبكة الولاّدة في القصة القصيرة، أما الزملاء الآخرون، فكل واحد يحكّم حسب مدرسته ومذهبه الأدبي، فالبعض يهتم باللغة والآخر بالجوهر، وآخر ببنية القصيدة وحداثتها، وآخر بربطها بالتراث.. يبقى الهدف الرئيس من هذه المسابقة حثّ الطلاب على العودة الى لغتهم الأم والتعبير عنها بأحسن تعبير.. وتحويل الجملة الانشائية الى جملة إبداعية وتطويرها وتحسين بلاغتها التركيبية. أما بالنسبة الى اللهجة العامية، فقد فتحنا الباب منذ سنتين فقط لهذا النمط من الكتابة، وقد وجدنا الشعراء المناسبين ايضاً للتحكيم على هذا النمط، وفق معايير الشروط الابداعية، والفكرة التصويرية ومعالجة الموضوع…

 يتم إختيار الفائزين عبر مقاصة تجرى حيث يعتبر فائزاً من نال 6 أصوات من أصل 6 أو 5 من أصل 6 و4 من أصل 6 وهكذا دواليك، حيث يكون العشرة الأوائل قد توزعوا بين ماكينة المدارس أو المذاهب الفنية التي قامت على إرسالها اللجنة التحكيمية بالاختيار.. وتحرص المسابقة على تفعيل الدورين اللغوي والموضوعي، فإذا اجتمع الاثنان كان أولاً… وهكذا دواليك… بالنسبة لي، أقوم بالتصحيح انطلاقاً من مدرسة الحداثة التي أنتمى اليها، لا يهمني الموضوع الذي يتم معالجته بل كيف يمكن أن نعالج الموضوع وبأية طريقة…

 وحين وجدت منذ أكثر من عشر سنوات أن التكنولوجيا تأكل الذهن البشري، أدركت حينها أن خطراً سيكون على اللغة نفسها، حيث يتم التواصل بين الناس بلغاتٍ رقمية في لغاتٍ أخرى غير العربية.. وهذا التطعيم أربكني، فقلت ما هو مصير شبابنا ولغتنا بعد عشر سنوات أخرى؟؟ فتقدّمت الى وزارة الثقافة بهذا المشروع الذي أعتبره ذاتياً ووافق وزير الثقافة آنذاك د. طارق متري ومدير عام الثقافة د. عمر حلبلب على تنفيذ هذا المشروع، فتبنته الوزارة وسرنا به. وها نحن في السنة العاشرة نحقق بالأدوات المستطاعة بين أيدينا، وبالتعاون مع زملائي وأصدقائي في الوسط الثقافي رحلة الألف ميل، فتبرعوا أن يكونوا في اللجان التصحيحية دون مقابل مادي، نظراً للخطر الذي استشعروه حول مصير اللغة العربية.. وقد وجدت على المستوى الشخصي أفكاراً جديدة يتعامل معها الطلاب ولا تخطر على بال، فلم تعد تهمّ الشباب اللبناني أفكار الحرب وتداعياتها، ولا المواضيع المستهلكة من حيث المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المواطن اللبناني والعربي.. بل ذهبت الأفكار الى توسيع رقعة الخيال، الى حدّ الخيال العلمي.. فراحت فنّيات القصة القصيرة تتحسّس لغتها بالتكلم عن عوالم تحت الأرض وما بعد السماء.. وكوني أنا أميل الى الفلسفة في الشعر أحبّ هذا النمط من الافكار الولاّدة التي تتحسّسني بأن العالم أكبر من التفاصيل الصغيرة.. فهناك حسّ الانتماء، الظلم، التعاون والمحبة، الغياب، فقدان الأحبّة، الجوع النفسي قبل الجسدي وهكذا دواليك، أفكار كثيرة يؤسس لها جيل جديد ولا تعني ذاكرتنا المادية بشيء. بل إن الأدب هنا سخّر المادة لغرضه، ألا وهو المعرفة…

 أما مستوى الطلاب اللغوي فيتفاوت بين جيد الى حسن الى مقبول، وذلك بحسب المدرسة التي ينتمي إليها الطالب، فالمدارس الخاصة تركّز الطالب على اللغتين الانكليزية والفرنسية أكثر من العربية لمواجهة العالم الكبير.. لكن هذا، يغيّب اللغة الأم.. إضافة الى لغة الكومبيوتر ووسائل التكنولوجيا الرقمية، من الفايسبوك والتويتر، والـ أس أم أس، والواتس آب، وبلاك بيري.. كل هذه الوسائل جعل مصير اللغات يتدهور وقد تأثرت العربية أكثر من غيرها، لأن برنامج الانترنت الاساسي هو باللغة الانكليزية، ممّا جعل الكثير من الطلاب يخاطبون بعضهم بلغات »كرشونية« أو لغة هيروغليفية.. تعيدنا القهقرى الى الوراء.. وربما تكون لغة جديدة تجمع بين لغات مختلفة.. لكن مؤكد أن هذه اللغات لا قواعد رئيسية لها.. وهنا خطورتها، وهناك من يعبّر باللغتين الانكليزية والفرنسية أفضل من العربية.. لهذا فتحنا هذه السنة باب الاشتراك بهاتين اللغتين، لكن باللغة الأصل لا باللغة المرقّمة..

 إن لغة شبابنا في تركيبتها الحالية ستؤثر على طبيعة اللغة العربية مستقبلاً؛ لكن بالسلب أكثر منه بالإيجاب.. اللغة العربية أوسع وأغنى لغة في العالم، وهي لغة صعبة وجميلة، لكن السهل أو الاستسهال قاد اللغة لأن تنفض عنها أكثر من عشرين ألف مفردة لا طائل منها، ويتم التعامل حالياً بخمسة الالآف مفردة لغوية.. وقد يكون غداً من يأتي اذا ما استمر الشباب اللبناني والعربي على وضعه، أن لا نستطيع استثمار أكثر من خمسمئة مفردة، وهذا يقود الى اضمحلال اللغة حتماً.. أنا أتكلم عن المفردات الأدبية لا الشعبية أو المتداولة في الصحافة اليومية..

 لذا، أرى إن مستقبل اللغة العربية في خطر كبير.. إن شعباً لا يدرك لغته اللسانية، سينتحر عند أول مفرق.. وسيخرج من باب الانتماء الى باب الشعار والالتزام بالهوية الوطنية صورياً، وهذا عارٌ وعيب فاضح على حضارات الشعوب.. فالعربية حضارة وثقافة جميلة لن يدرك جمالها إلاّ من يحاول قتلها في داخله..

هناك جمعيات مدنية تبادر وتعمل على حماية اللغة ونحن نشجعها وندعمها بما استطعنا من إمكانيات، كالجمعيات والأندية التي تعنى بالثقافة وتبحث عن تفعيل دور اللغة.. كأسماء الجمعيات التي ذكرت، ووزارة الثقافة تدعم الجمعيات التي تنشط في المجال الثقافي بشكل عام وترعى هذه النشاطات، لكن الموازنة محدودة في هذا المجال.. ونحن نضطلع بدور تفعيلي للأنشطة عبر مراكز التنشيط الثقافي وأسبوع المطالعة التي تقيمه الوزارة كل عام في شهر نيسان، بالتنسيق بالتعاون مع البلديات ومؤسسات المجتمع المدني التي تهتم بهذا الشأن.. وفي نهاية الأمر الكتاب هو المهم لا الضوء.. لأن الثقافة كتاب وبعده تأتي الفنون الأخرى.

إن أمّة لا تقرأ كتاباً، مصيرها الى زوال.

إن أمة لا تفكر ولا تبدع، مآلها الموت الحتمي…