الشعر ابن الفكر

نعيم تلحوق

عندما تعانق الصورة الرامضة المكثَّفة وتحوّلها الى عبارة بسيطة من خيال واسع، فهذا يعني أن الصورة وحيٌ من خلقٍ عظيم وهي نتاج عبقرية كونية لَحَظَتْ فعلها في اللحظة… كما النبتة والمطر والزهر حياة في مكان… فالشعر حياة في زمان يعلَّم المكان زهوَ العناق… فتنبجس الصورة / الوحي، فكرة، من خيال عظيم يدخل مكامن الألق… فيكون المتخيّل هنا، رامضاً، دون دراية منّا. أي دون فعلٍ يؤسس لولادة… كممارس الحب الذي لا يفكّر بالإنجاب قبل المضاجعة وإنما بالمتعة التي سيحصل عليها، فيأتي الحمل نتيجة للحظة الممارسة…

وهكذا الشعر، يكون ابن الفكر، الذي يخطر من مكان أثير أدعوه الخيال… فحين تأتي الفكرة من زمان المكان، يُسمَّى وحياً يوحى عند المعتقدات الدينية، لكني أسميه الخيال، الذي لا يبصره أحد وإنما يسعى إليه الجميع، فيَنبت الخيال من الفكر والشعر من الفكر، فتكون المعادلة الرياضية البسيطة… إذا كان الشعر هو ابن الفكر، والفكر ابن الخيال، فيكون الشعر هو حفيد الخيال متضمناً روح المعنى… فالشعر اذاً حياة وإن لم يكن كذلك فهو صنعة بلا روح…

لهذا اعتمدته قصيدة ˜الهايكو منذ اكثر من ألفي سنة، الطبيعة عنواناً للحركة الشعرية… والنقص في العبارة، كي يكمِّلها المتلقي حسب أهوائه ومتخيلاته… فقد تشرّب الصينيون أرواح كلمات الحكماء بصدق، وازدانوا بطبيعة الحياة ليشتقوا معناها… فجاءت العامية اليابانية المشتقة من الأدب الصيني لتبحث في ميزة الشعر كونه قول لحظة اللحظة معتمداً على الجملة الناقصة… فكما الحياة لا تكشف أسرارها لأحد، كذلك هو الشعر يبقى ناقصاً كقيمة حيّة اذا لم يكمله خيال آخر يحقق المعنى… ولأن ˜الهايكو كقصيدة يابانية عبرَّت عن الحياة السريعة الزوال، ظهرت أركان الطبيعة ومشاهدها ذ كحركة النحل، والنمل، والضفدع والماء، وحركة اليعسوب، وولادة النار، فقد ذهب معظمهم بعد فترة مع أول شاعر لقصيدة الهايكو ˜ياشو مانونوسا الى التضرّع الى حركة الوجود والاستئثار بالمعنى وتبليغ نقص الصورة لناقص آخر كي تمتدّ الصورة وتبلغ ذروتها الى تحقيق المعنى… فراح معظمهم الى أخذ الكثير من مذهب ˜زن البوذي حيث علّم ياشو مانونوسا، المعنى من الوجود الى تلاميذه، فمارس التأمل، وترشيد الطاقة وعدم تضييعها واستهلاكها في أمكنة عادمة، والحفاظ على الخفة والنقاء الداخلي، فبهذه العملية ينفتح ذهن المرء شعرياً أو صوفياً أو دينياً…

حتى العين التي لا أرى بها،

أنظف جهتها،

من بلور النظارات…

هنيوسووجو

فالشعر لا يستدعي الثرثرة في النص الأدبي، وهو محاولة جادة لتكثيف الحالة واللحظة والقبض على القلق الشعري والوجداني الذي يعتمل الحياة… فالشعر لا يخاف الموت، لأن الموتى موتى، هو يخاف الحياة، لأن وظيفة الحي تستدعي تجسيد حرارة الموت كأثير لغوي غير مدرك وغير مفهوم، وربما غير ملحوظ عند الكثيرين..

من كونفوشيوس، ومنشيوس، ولاوتسي، وتشوانغ تسي، وممفي تسي، ولي تسي، وبوذا، عبارات من الشعر تكفي ليصير الشاعر نبياً، دون أن يحتكر الحياة كونه غير مندثر… فالجميع يذهب الى الموت أما رافضاً أو خاشعاً، أو خائفاً، أو كارهاً، أو راضياً، أو محبّاً، لكن واحداً منهم لا يهاب الموت هو الشعر، لأنه حركة ضد الفناء…

يوسف رقّه في جوف حوت …

 بعد  أن أهدانا قبعاته المختلفة والمتنوعة ، يذهب يوسف رقّة في ˜ 33 صلاة في جوف حوت Œ ، إلى محاكاة الحدث بلغة الواقع ، مع تضمين عباراته أفكاراً يحتاجها الريَّض قبل الحاذق ، وهو إلى ذلك ، نَفَسٌ أصيل يحاول أن يبتكر علاقته مع الأرض ، مع الجذور ، مع الينابيع والتراب …إنه من طينة المخضرمين الذين عاشوا سمعة الحرب بكل أنينها وويلاتها ، ولأنه كان واحداً فيها ، فهو طرفٌ أساسي في عرض الصورة ومعايشتها في الحياة كما هي ، لكنه ينقلها إلينا بحسٍّ مسرحي على خشبة المعنى …

لا أظن يوسف رقَّة كاتباً مسرحياً فحسب ، رغم أن هذا اختصاصه  – إخراج مسرحي – ، فهو عينٌ إخراجية تلتقط الصورة لتوظفها في خدمة المعنى … هو مسرحي يقاتل على أكثر من جبهة : الكتابة ، الإخراج ، الأداء ، وإن كان لم يمثِّل إلا قليلاً، غير أن الراوي في كتابه هو الممثل خلف الستار ، الحاضر دائماً لأخذنا على متعة المشهد … والإخراج عنده سمعي وبصري ، يحاول أن يخلق كوناً في مفردة ، وهو إلى ذلك ناشط إعلامي على صفحات التواصل الإجتماعي ، يعشق التفاعل مع الناس لاستنباض حركتهم …

    فهو إذاً ، يقوم بواجبه تجاه الحياة دون أن يضيِّع معناه ، رجلٌ دمث محب ، خلوق ، غيور ، لا يحب أذية الآخرين ،تقرأ سمات وجهه على ناصيات القلوب ، وضحكته تذهب بعيداً حين يكون مغتبطاً …

   سرُّه يكمن فيه ، يلاحظه الجميع بابتسامة دائمة على محياه ، ويرسم على ثغر الكوكب المعتم ضوءاً يحتاجه الكثير من الآخرين …

    حين قرأت له عمله الأخير ˜ 33 صلاة في جوف حوتŒ ) نص مسرحي مستوحى من حرب تموز 2006 (، شممت في الكلمات قدرة النبي يونس الذي خرج من الماء ذ الظلمة ، الى الأرض ذ النور ليجدد الولاء والوفاء للتراب والمجتمع والإنسان ، فهو يحمل أريج زيزفزنه في حركة الصورة التي تبحث عن معنى ، هكذا يكون المفرد جمعاً ، ليتحوَّل بعدها إلى فرادة تبحث عن ألقها لتضيء في المعرفة كما في الحياة …

يقول يوسف في المشهد 8 ، وهو الراوي هنا :

أحتاج إلى شهقة ليعود الحب إلى قلبي ، عودة الروح إلى الميت /

أحتاج إلى قلب ميت ليبقى بعيداً عن الألم …

يوسف رقَّة ، أهلاً بصلواتك في نبض الحياة …

ا