تدفّق جامعات الغرب نحو عواصم العرب

يتدفّق الغرب إلينا باعتبارنا أسواقاً غنيّة متعطّشة للمعاهد والجامعات لتُعيد نحت الأبناء والأجيال والأوطان. تلك ظاهرة لافتة تُرشدنا الى مستقبل أجيالنا التي تستأهل التوعية والتغييرلإخراجها الذكي وهي في أحضان مجتمعاتها المغمّسة بالدماء والمال والإرهاب والتديّن. تصوّروا أن لبنان صار فيه مثلاً 48 جامعة ومعهداً عالياً لا من يعرف هوياتها مما يقودنا نحو السؤال الصارخ: من يُقيّم تلك الجامعات بهدف صيانة المستقبل  المنتظر؟

ظاهرة تدفق الجامعات على العرب بعد ال2003 بعد التنكيل بالأدمغة قتلاً وتهجيراً وسقوط العراق معقل الجامعات والمطابع والصحف ثمّ سوريا ولبنان وعواصم الربيع العربي وتفشّي مظاهر الإنحطاط التعليمي والثقافي الكبرى يجعلنا أسرى الإنزلاق نحو مظلاّت “استراتيجيات” جديدة مستوردة تجعل الوطن أوطاناً بما يتخطّى مقدرات أيّ بقايا نظامٍ أو جامعة أو كاتب نص عربي في الإجابة عمّن وكيف نقيّم مناهج التعليم العالي ونترصّد مستقبل الأجيال في عصرالعولمة المشرّعة الأرض والفضاء على أجيالٍ وفي دول هائمةٍ مرتبكةٍ بما يضيق به المجال والمقال.

أروي تجربتي طالباً في ال1970 خلال تحضيري للدكتوراه بحثاً في “مظاهر الحداثة العربية” في جامعة السربون 3 في باريس حيث كنّا نقفز من قاعةٍ لأخرى في الكوليج دو فرانس أو في جامعات السربون التي أنزلها الثوار أساتذةً وطلاّباً من أبراجها العالية عبر ثورة ال1968 فأسقطت شارل ديغول وتشظّت وصارت السربون واحد وإثنان…إلى دزينة أبوابها مشرّعة لطلاّب العالم.

كان المشرف أندريه ميكيل في ال1971 آخر كبار المستشرقين الفرنسيين المتوفي منذ شهرين، يستقبلني بمنزله كلّ أسبوعين متابعاً أبحاثي موجّهاً شريطة متابعة محاضراته الجامعية. حين أزوره، كانت تأتي زوجته حاملة كوبين من الشاي فوق صينية قش فتقدّم لزوجها كوباً، وترشف كوبها جانباً في معظم الأحيان بانتظار زوجها الذي يفرغ كوبه وملاحظاته وتوجيهاته الصارمة. بقينا خمسة أعوام ليزفّ موافقته النهائية على طبع الأطروحة وتسجيلها للمناقشة. يومها دخلت الزوجة وفوق صينيتها 3 أكواب من الشاي قدمت لي أحدها. صعقني الإحمرار لهذا التحوّل وسرعان مسح أستاذي الدهشة النافرة بملامحي مبتسماً بشفتيه الرقيقتين وقال: لم تعد طالباً بل زميل طري له الحق أن يُشاطرني كوب الشاي. أصبحت بعد مناقشتي للأطروحة مساعداً له في مرحلة كانت الحروب الطائفية تبتلع لبناننا الذي ما زالت بقاياه بين أسنانها.القصة للإضاءة فقط على “سلطات الدراسات العليا والمناهج الأكاديمية التي يمرّ بها الطلاّب الباحثون الى المناهج التعليمية المكثّفة التي تخوّلهم التعليم العالي والإشراف والإسهام بمستقبل الأجيال والأوطان، في حين إذا كشفت الأغطية عن تجاربنا اللبنانية والعربية في كيفية استيراد الجامعات وتحضير شهادات “الماستر” والدكتوراه لأدهشتنا الإنحدارات الأكاديمية ولي في الميدان مآخذ يدمع لها الحبر وينتحر.

تحوّلت العواصم العربيّة إذن إلى مقاصد دولية عبر تأسيس الجامعات، بعدما فتحت الدول العظمى أعينها توخّياً للتغيير والتحولات الاستراتيجية للأجيال في بهجةٍ وغفلة من دولنا وأهلنا والأنظمة التربوية. تحتلّ الجامعات والمعاهد والبرامج المستوردة حالياً العتبات الجاذبة للتغيير في مجتمعاتنا تحدوها إغراءات كبيرة ومساهمات تقنية ظاهرة وتأسيس لفكرٍ متحوّل عالمي الهويات يصعب رصد فلسفاته ومناهجه في الجامعات وفروعها والمعاهد البحثية وفق استراتيجيات ملزمة وتصنيفات للدرجات الجامعية غير واضحة المعالم العلمية في الأذهان التربوية العربية وهي لا تخضع لشروط التسلّم والتسليم والتدقيق في العلاقات بين الدول. لو أخذنا، مثلاً، المناهج في جامعات بلدان شمالي أفريقيا الرائدة، قد يستحيل علينا نزع البصمات الفرنسية ووظائفها القيمة عبر الأبحاث والإشراف دون نسيان الجموخ نحو التعريب الذي يمكن إدراجه ً في رفض سياسات أوروبا. هذا أمر قد ينطبق تاريخياً على المشرق في لبنان ومصر والأردن وتركيا وبعض دول الخليج، إذ يمكننا رصد الدول التي تحضن في ديارها جامعات ومعاهد تتجاوز حاجاتها وتطلّعاتها في زمنٍ متحوّل ومتردّد وغير مستقرّ في تنظيم هوياته عبر هذه الألفية العنيفة التي تجمع العلم والإرهاب والماضي السحيق مع الحاضر والمستقبل” العريق” في إيديولوجيات المغيّرون لا المتغيّرين. هذه تجارب ربحية ومغرية وتطرح الأسئلة الكثيرة حول المستويات والحدود والأبعاد الثقافية والتعليمية والتربوية والفكرية، باعتبار أننا نُعاني عصراً من الفتون بالعولمة تندرج تحت عنوان ضخم هو صراع الحضارات وحواراتها وقد تضيع أدواتها الفضلى حيث البنى السياسية والتربوية المستغرقة في الصراعات الدينية والمذهبية والإثنية الطويلة، وخصوصاً في أحرام الجامعات حيث أجيال الشابات والشباب هم الرصيد الأغنى المُستهدف لتغيير البنى الثقافية والاجتماعية عبر النقد العلمي والتفكيك المنهجي للمفاهيم والأعراف والقيم السائدة.

من الضروري التأكيد على الإختلاط السائد استراتيجيّاً بين الاستشراق والتعريب والتغريب والتدين والبترول والغاز في مساحات هشّة للاستسلام والفوضى المنظّمة التي قد يصعب رصد استراتيجياتها و”ثمارها”. هناك بلدان عربيّة شكلت نماذج حادّة فكرياً في اعتمادها المناهج الهادفة بغية تحديد الإستفلالية والوظائف التعليمية المحدّدة للأجيال، لكنها للأسف بلاد تمّت تصفية معظم طاقاتها الرمادية بمعنى الأدمغة والمخترعين والمفكّرين أو رحّلت معظمها كما حصل في العراق أو في سوريا ولبنان ومصر ومعظم دول الربيع المتأرجحة أبداً بين الخرائب وكيفية إعادة البناء وقد غمر تعثره الفصول كلّها .

قد يتراءى لنا الشرق غرباً من حيث الشكل وقد نجده منكفئاً في جمود وخيرةٍ مخيفين. معظم أبناء العرب كانوا يحلمون بالتعليم العالي في جامعات الغرب حتّى الذين تربّوا في مناخات عربيّة معادية لهذا الغرب الممسك بحاضرهم ومستقبلهم بالحروب التدميرية وها الغرب بمتناولهم بوسائله وجامعاته ومناهجه. لست أجلد مقتضيات المعاصرة، لكنني أُقارب مفاهيم التغيير وطرائقها واستراتيجياتها الجديدة المستوردة محاولاً تفكيك العلاقات الأكاديمية في التغيير وبذهني الدماء والساحات الثائرة رفضاً إعتباطياً للغرب الذي يدمّر الأوطان وفلسطين باسم الإرهاب لُقيته وصنيعته. نحن أمام أجيال تدمج الغرب بالشرق بانقراض مصطلح العالم العربي والثالث نهائياً، ولكأنها تشارك في العالم الجديد ومفاهيمه واستراتيجياته الغامضة بعد.