فلسطين.. نكبة شعب وكارثة أمة

وارادة تتجدد وتواصل التحدي وترفض أن تموت

عذاب المحنة، وطول المعاناة هما الأستحقاق الضريبي لقضية التحرير

أمين الغفاري

هي القضية المركزية للأمة العربية بلا جدال، وليس ذلك تضخيما لحجم القضية، أوتكريما لجهاد شعب أو تحية لنضاله، والأمر أيضا ليس تعبيرا تسكنه العواطف أو يفرضه التعاطف قبل ان يقره العقل أو يستوفه المنطق، وانما التعبير بكل- فيضان المشاعر- بمسؤولياته والتزاماته منحوتا من ضمير الأمة، ومحفورا في ذاكرتها، والأدهى من كل ذلك أنه موصولا الى حد الألتصاق بمستقبلها القريب والبعيد معا. القضيتان متشابكتان الى حد الأندماج والتوحد، فقضية فلسطين، جزء من قضية الأمة العربية.

 فاذا كانت فلسطين الأرض هي المطلب للحركة الصهيونية، وأحلامها المستحيلة بالأستيطان والتوسع والانتشار، فان فلسطين الأرض هي كذلك المدخل والسيبل للحركة الاستعمارية العالمية لتمزيق كل الكيان العربي وايجاد الفواصل على امتداد مساحته، وقيام المنافذ على ارضه لترسيخ عوامل السيطرة والهيمنة الكاملة لأمتلاك المنطقة وما تشتمل عليها مواقعها من تفرد وايضا ما تختزنه بطونها من ثروات. فلسطين هي البوابة لكل من الحركتين الصهيونية والأستعمارية معا، وما نشاهده من الوان الصرع الأوروبي والأمريكي سواء في عدوان عام 1956

الشهيد عبدالقادر الحسيني... شهيد معركة القسطل
الشهيد عبدالقادر الحسيني… شهيد معركة القسطل

على مصر أو في كارثة عام 1967 على مصر وسوريا والأردن واستلاب اجزاء جديدة من الارض الفلسطينية، ثم في تحطيم العراق في اوائل التسعينات من القرن الماضي أو في التأييد للمطامع الأسرائيلية عبر مراحل تاريخية متعددة، ومن بعد ذلك صعوده وتتويجه الأخير في عملية نقل السفارة الأمريكية الى القدس الا وجها واحدا من أوجه التوحد بين الأهداف العقائدية للحركة الصهيونية، وبين المصالح السياسية والاقتصادية والأستراتيجية لحركة الأستعمار العالمي.

النكبــــــة على الارض.. والنكبات في الاجتهادات

ان كنا قد تعارفنا على ان اعلان قيام دولة اسرائيل في مايو عام 1948 هوعام )النكبه( الا ان بعض الكتاب يروق لهم ان يخرجوا بين حين وآخر بالقول وكان آخرهم الدكتور اسامة الغزالي حرب )ان النكبة الحقيقية كانت في نوفمبر عام 1947 حين رفضت الدول العربية ومعها الدول الأسلامية وكذلك كوبا واليونان والهند قرار تقسيم فلسطين، والذي نص على اقامة دولتين احداهما عربية والأخرى يهودية مع وضع القدس تحت الادارة الدولية(، ثم ينتهي الى التساؤل. أليس ذلك هو الوضع الذي نسعى اليه اليوم بعد سبعين عاما من الصراع؟المعنى الوحيد الذي نخرج به من تساؤل الدكتور اسامه الغزالي حرب هو أن نسارع الى القبول وفورا بأي أطروحات يقدمها الينا الصهاينة أو قوى الأستعمار العالمي وقيادته الولايات المتحدة الامريكية، لأننا باختصار لا أمل فينا، نحن جثة لاحراك فيها ، وأن مانرفضه اليوم نعود فنركض خلفه في الغد، ثم يسارع البعض فيضيف مبررات جديدة أخرى، ومنها اننا رفضنا مبادرة السادات بالسفر الى القدس، وبعدها اتفاقيات كامب ديفيد، ثم عدنا وقدمنا مبادرات جديدة للصلح، بل وسارع بعض العرب، وهم البعيدون عن خط المواجهة، باقامة مكاتب تجارية مع الكيان الصهيوني، بل وقدموا الدعوات لبعض قادته لزيارة عواصمهم، وعلى ذلك لماذا لم نؤيد الرئيس الراحل انور السادات بدلا من ان نعود ونلهث وراء مارفضناه سابقا، ويصبح الأمر ترتيبا على هذا النمط من التفكير، أن الانحدار في الموقف العربي هو القانون الحاكم للتفريط في الأرض وفي الأمن، وفي فتح الأبواب على مصراعيها. ان الجواب على هذا الطرح المهين يأتي من اسرائيل ذاتها، فلو كان قادتها يأخذون بهذا النهج المريض ماكانت اسرائيل قد قامت من الأساس، ولو كان هاجس الواقعية يقلقهم او يفتت في عزيمتهم، ما كانوا قد تواصلوا وتحركوا وخططوا وذللوا العقبات امام حلمهم لكي يتحقق، ولكن كتابنا ومفكرينا لايشحذون الفكر نحو المستقبل، بل يبكون على الاسهل والأقرب ولايقفون حراسا على الأماني الوطنية. ان النكبة قد حدثت في مايو عام 1948، ولكن النكبات تداعت بعد ذلك، من تقاعس الحكام، ونفاق الكثير من حملة الأقلام، والذين يتصورون أن نكسة )عام 1967( هي المسؤولة عن كل ما انحدرنا اليه يتعللون لمزيد من التسليم، مع انهم في الأساس يغالطون، فعام 1967 شهد صمودا واعدادا، وجرت عبر سنواته التالية حربا ضروسا، واعلنت في نفس العام )قرارات الخرطوم( وارتفعت شعارات لاصلح ولااعتراف، ولاتفاوض ولاتفريط في حقوق شعب فلسطين كما طرحت ايضا تعريفات لسياسات محددة )الجولان قبل سيناء والضفة قبل سيناء والقدس قبل سيناء( مقابل الطرح الامريكي الذي يقضي بالجلاء عن سيناء في اطار صلح منفرد مع مصر لايدخل الجانب العربي طرفا فيه، وانما يجري التفاوض مع الدول العربية الأخرى كل على حدة، وقد تم رفضه ابتداءا وتماما. ان جريمة كامب ديفيد أنها فتحت الباب وأطلقت العنان لشهوات البعض في التزاحم على الباب الاسرائيلي، في التواصل السياسي حتى غير الرسمي بالأضافة الى التواجد الاعلامي الصهيوني على الشاشات العربية. لكل ذلك انحصر الفكر العربي في البكاء على اطلالات التسليم المبكرة عام 1947. لقد ايدت قرار التقسيم الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفييتي و31 دولة أخرى من الدول الاعضاء في الامم المتحدة في ذلك الحين، ومن المفارقات التي حدثت ان نذكر ان الاحزاب الشيوعية العربية أيدت القرار، ولكن في معاهدة كامب ديفيد التي وقعها السادات عام 1979 عادت الأحزاب الشيوعية العربية فرفضت معاهدة السلام التي وقعها السادات، والسؤال لماذا هذا التعديل في الموقف، والأجابة المنطقية لأن الاتفاقية امريكية، وليس الاتحاد السوفييتي شريكا في صنع هذا الاتفاق، وقد أثار هذا الموضوع الكاتب الراحل صلاح حافظ رئيس تحرير مجلة روزا اليوسف في ذلك الوقت. وما تلا ذلك في القفز بالفكر العربي )الاستراتيجي( الذي يستهدف امن الأمة باستحقاقاته الى الأمن )المحلي(بخصوصيته بسلامة الدولة القطرية فحسب، ومن هنا تحول الصراع العربي – الأسرائيلي الى الصراع الفلسطيني – الأسرائيلي، ناهيك بما حدث من تحول بعد ذلك الى صراع فلسطيني ذ فلسطيني. ان النكبة ليست لأننا رفضنا التقسيم عام 1947، ولكن النكبة الحقيقية في أننا لم نستعد للمواجهة، وانهمكنا في صراعاتنا العربية ذ العربية، وبرز النهج القطري ليزيح جانبا دواعي الأمن القومي.

شعب فلسطين.. وارادة الحياة

رفض الشعب الفلسطيني أن يأخذ بنهج الهنود الحمر في صراعهم مع الرجل الأبيض الذي قام بغزو الأرض الجديدة التي تم اكتشافها، ورغم مقاومتهم الا أنهم آثروا أن يتواروا ومن ثم تندثر سيرتهم، بل قاوم تحت أشد الظروف والتحديات ضراوة. نتذكر أنه فور انتقال ملكية أراضي الأمبراطورية العثمانية الى حكومة الأنتداب البريطانية عام 1925 بموجب معاهدة الصلح البريطانية التركية، ان قامت الحكومة البريطانية بتعيين المندوب السامي البريطاني )هربرت صمويل( وهو يهودي صهيوني، وقد سارع من جانبه في تنفيذ المخطط البريطاني في اطار )وعد بلفور( بتمكين اليهود من الأستيلاء على فلسطين، فقام بتقديم 175 ألف دونم )الدونم 1000 متر( لليهود على الساحل في المنطقة الواقعة بين حيفا ويافا، ثم أضاف 75 ألف دونم أخرى على البحر الميت، ومساحات أخرى شاسعة لم يتم الأعلان عنها في منطقة النقب، وقد تكشفت بعد ذلك، في الحساب الأخير اذ تبين أن مجمل المساحات التي يسر فيها المندوب السامي نقل ملكيتها للمستوطنين اليهود نحو مليون وربع المليون دونم أي ما يساوي 59 من مجموع مساحة فلسطين. في نفس الوقت مضت سلطة الأنتداب في سن مجموعة من القوانين التي تكفل بمقتضاها الأستحواذ على المزيد من الأراضي للغزاة الجدد منها المصادرة لأهداف عسكرية أو نظرا لسداد الضرائب المتأخرة، أو خلو الأرض لهجرة أصحابها هربا من أعمال الأغارة التي تشنها العصابات الصهيونية على السكان العزل وتتوالى السلسلة النشطة من اعمال النهب المنظم التي

المناضلة الشابة عهد التميمي... رمز لشعب يعرف معنى الكبرياء الوطني
المناضلة الشابة عهد التميمي… رمز لشعب يعرف معنى الكبرياء الوطني

سبقتها تشكيلات )الوكالة اليهوديه( التي تولت عملية الرعاية والتوجيه للمستعمرين الجدد، واتحاد العمال )الهستدروت( وقد تأسس في 9ديسمبر عام 1920 لكي ينظم حركة الوافدين الجدد، في اطارات العمل المختلفة، ومنها محاولة أو صناعة اليهودي الفلاح، بعد ان كان دائما رجل التجارة والمال. هذا على الجانب الأستعماي والصهيوني، ولكن على جانب آخر تتبدى المأساة القومية، وهو قيام بعض العائلات العربية غير الفلسطينية بطبيعة الحال يالتخلي عن واجبها في حماية الأراضي التي يمتلكونها من الأراضي الفلسطينية بدلا من ان يندفعوا ببيعها الى المستوطنين الوافدين حفاظا على ثرواتهم الخاصة، وهي مساحات شاسعة تبلغ نحو 625 دونم في منطقة سهل الحولة ووادي الحارث، ثم مساحة اخرى تبلغ نحو 28 الف دونم في منطقة الناصرة وجنين وعكا وطول كرم. ترك الشعب الاعزل ليواجه مصيره وحده، في اعتى وأمر تجربة يخوضها شعب يواجه الطرد من ارضه، لاحلالات بديلة من شراذم متنوعة من جنسيات مختلفة، لايجمع بينها سوى نزعة عنصرية، ليست الديانة طرفا فيها، فلقد عاش اليهود والمسلمون والمسيحيون جنبا الى جنب قرونا عديدة من الزمن على نفس الارض، تجمع بينهم اواصر من التفاهم والتعايش المشترك، حتى أطلت الفتنة بينهم لكي تضرب بلا هوادة علاقات لها تاريخ وجذور، وكان عمادها اغتصاب الأرض والوطن. لقد تصدى الفلسطينيون ضد الأستعمار المزدوج البريطاني الصهيوني بثوراتهم المتعددة، وأبرزها )ثورة القسام( عام 1936 التي تم ضربها بضراوة، وكانت رأس عز الدين القسام قائد الثورة عنوانا لجسامة الثمن.

درس المحنة

ان الأمة العربية ليست في احسن احوالها، وقد أضاف مايعرف باسم )الربيع العربي( الى مشاكلها العديد من الكوارث، وأصبح كل قطر يخوض حربه الخاصة، فقد تعدد الخصوم، وتحركت الذئاب المجاورة، وكل له أحلامه من استعادة امبراطورية غربت أو خلافة تحللت ثم تبعثرت، وبقي الوطن السليب يجابه المستوطن الصهيوني والكاوبوي الأمريكي، ودرس المحنة هو الأعتماد على الذات في خلق اوضاع جديدة، مع الوضع في الاعتبار فداحة الثمن وعمق التضحية وحجم الضحايا. التاريخ يقول ان الشعب الفلسطيني لم يستسلم، ويكشف شبابه كل يوم عن صلابة معدنه، فالأرض الفلسطينية ليست فقط مسرحا لصور النضال وأشكاله وأساليبه، وليست كذلك مجرد مدرسة تتخرج منها أجيالا لاتعرف معنى النعومة أو المساومة على الحقوق المشروعة، ولكنها يقينا مصنعا لصلابة الأنسان رجلا كان أو أمرأة أو حتى أطفال وفتيان في سنوات الصبا أو الشباب. أنها مصنع حقيقي يقدم لنا نماذج مبهرة لنوعية البشر. ان فلسطين هي التي انجبت شهيد معركة )القسطل( عبدالقادر الحسيني في ابريل عام 1948، والبطل التاريخي في حركة النضال الفلسطيني ياسر عرفات ثم بطل حركة المقاومة )قيد الأسر والأحتجاز( مروان البرغوتي، وأيقونةحركة الشباب للمقاومة المناضلة الصاعدة على مسرح المقاومة تثير الانتباه وتشد الابصار عهد التميمي، وان كانت تلك رموزا فان مقاومة الشعب الفلسطيني تمتد على اتساع المقاومة عبر فصائلها المقاتلة وفي اطار ايدولوجياتها المختلفة في منظمات فتح وحماس والجبهة الشعبية وحركة الجهاد وغيرها من المنظمات الأخرى التي قدمت عبر عقود من الزمن تضحيات جسام وسقط على الأرض شهداء ابرار. تصبح غزة الآن محط الأنظار في وقوفها الصامد، وعطائها الفريد، ولم يبق الا ان نرى عودة الوفاق الفلسطيني لكي يتصدربوحدته مشهد المقاومة الكبير. ان درس التجربة، هو ان يكون الشعب بوحدته أساس حركة المقاومة وهو زخمها، واتذكر كلمات الراحل الفلسطيني الكبير )الدكتورعصام السرطاوي( مستشار أبو عمار الذي اغتيل عام 1983 في البرتغال وقد قالها في ندوة لمركز الدراسات العربية في لندن حين لاحظ التأثر البلغ للحاضرين أثر حصار المنظمة في بيروت عام 83 )كفكفوا دموعكم ايها السادة وجففوا مآقيكم فلسنا في حاجة لعواطفكم وأقول لكم بصدق ان فلسطين لن تتحرر الا بالدم الفلسطيني(. ان قدر فلسطين انها مطمع لقوى عظمى شاءت ان تصنع منها ممرا وحاجزا لضرب الامتداد العربي، ثم وجود الكيان الصهيوني بأحلامه الخاصة ليكون الحارس المؤتمن على الاهداف المحددة. ثم قدرها الآخر أن الأمة العربية قد شغلتها خلافاتها الداخلية عن مواجهة تحدياتها الخارجية، واختل التوازن بين الخطط المرحلية والأهداف الأستراتيجية، وقصرت الهمة القومية فنشغلت ولهثت وراؤ الأهتمامات المحلية، ولم يعد هناك من خيارات امام الفلسطينيين سوى سواعدهم النضالية، وهو قدر الأمم العظيمة حين تكتشف قواها الحقيقية فتستنهضها لكي تصحح بها نزوات التاريخ، وتكتب من جديد صفحاته المضيئة بعد طول عبوس.