حساب الارباح والخسائر في الانتخابات التركية

نجح المرشح.. ولكن حوصرت الطموحات

متى العودة إلى قضايانا الرئيسية التضامن والتنمية وفلسطين ؟

أمين الغفاري

حين يقدم رجب طيب اردوغان على اجراء الانتخابات المبكرة، وهو الذي خاضها قبل ذلك أكثر من مرة وعلى مستويات مختلفة وكانت نتيجة الفوز بها سواء على مواقعه السياسية أوفي تعديلاته الدستورية لاتتجاوز درجة المقبول.)درجة من النجاح على مشارف السقوط(، فهو أمر يتسم بالمغامرة ان لم يكن بالمخاطرة، وحين يشارك في عملية التصويت نحو 86 من جمهور الناخبين، فهو أمريستحق الأشادة والتسجيل، ولكن ان يعاود الحصول على نفس النسبة من النجاح التي سبق وان حققها عبر اكثر من معركة انتخابية وبعد أكثر من عقد من الزمان وهي توازي 6، 52، مع قليل من التفاوت صعودا وهبوطا فهو أمر يستحق التأمل والتفكير.

أردوغان..طبيعة الرجل من خلال مسيرته

 ان عرجنا لقصة رجب طيب اردوغان على المستوى الشخصي للرجل فهي قصة تستحق الرواية والكثير من التنويه، فقد انتصر على حرمانه، وهو الذي ينحدر من اسرة فقيرة، تقطن حيا بسيطا وهو )حي قاسم باشا( في المدينة التاريخية الكبيرة )اسطنبول(، وبسبب فقر الأسرة، إلى حد عدم قدرتها على توفير مصروفاته الدراسية في مراحلها المتعددة الابتدائية والاعدادية يلجأ الصبي الصغير إلى بيع بعض الفواكه أو المعجنات التركية الشهيرة مثل )السميط(، وان كان نزوله إلى ساعة العمل لم يثنه عن طلب العلم فيقوم بالألتحاق بمدارس عرفت باسم )امام وخطيب( ووضعت بصمتها واتجاهاتها على طريقته في التفكير عقائديا أو ايدولوجيا، ليقتحم من خلالها عوالم اخرى سواء كانت رياضية مثل كرة القدم الذي حقق نجاحا بها، أو دراسية مثل ما تحقق له من دراسة علوم الاقتصاد والعلوم الادارية في جامعة )مرمرة(، .تلك صورة للرجل ترسم الملامح العصامية في تكوينه، والنجاحات التي حققها كان من شأنها أن تتصاعد بموجات الطموح لديه، لكي يواصل من خلالها مزيدا من الحركة التي لاتعرف حتى التمهل أو الأنتظار فضلا عن التوقف أو التراجع. ملامح ذلك الرجل على تلك الصورة ذ رجل تقوده تطلعاته وطموحه ذ تفسر تماما، اقدامه وعدم تردده في تخليه بشكل قاطع عن التنظيمات التي شهدت بدايات نشاطه الحزبي، وأصبحت تشكل عائقا أمام طموحاته حين قام أولا بالألتحاق بحزب )الخلاص الوطني( تحت قيادة )نجم الدين اربكان( أستاذه في النهج، وليس في التعامل مع الظرف أو الواقع، ولكن الحزب لم يستمر طويلا فقد تم الغاؤه مع بقية الأحزاب الأخرى مع الانقلاب العسكري عام 1980 ولكن مع عودة الأحزاب مرة ثانية إلى التواجد عام 1983 عاد نشاط أردوغان من جديد من خلال حزب يحمل نفس الاتجاهات ولكن جرى تشكيله باسم جديد هو حزب )الرفاه( وعن طريق هذا الحزب وخوضه الأنتخابات المحلية نجح في الوصول إلى موقع )عمدة أسطنبول(، ومن هنا بدأ طموحه يتوهج، وانخراطه في العمل العام يثمر في اتساع حركته الجماهيرية، ولكن هناك حادثه اعترضت طريق هذا الجواد الجامح، وهي ايداعه

الأنتخابات أداة لمصالح الوطن أم لترسيخ القيادة ؟

السجن نتيجة اقتباسه بعض ابيات من الشعر التركي ألقاها في احدى خطبه الجماهيرية صنفت على انها تحريض على الكراهية الدينية، وهو ما أعده تهديدا يقوض أحلامه، لذلك اغتنم فرصة حظر حزب )الفضيلة(الذي تأسس على انقاض حزب )الرفاه( بعد أن تم حظره كذلك، امتناعه عن الألتحاق بالحزب الجديد )حزب السعادة(، وسارع إلى تأسيس حزب )العدالة والتنمية( عام 2001 على اسس توفر له ضمانات الاستمرار بعيدا عن الحظر أو الألغاء، نتيجة التصادم مع المناخ السياسي السائد في تركيا. لقد التقط سريعا مغزى تجارب الأحزاب التي انتمى اليها قبل ذلك وصادفت المنع أو الحجب.كان على الجواد الجامح الطموح أن يدرك أسرار اللعبة السياسية، وعوامل التورط، وكيفية القفز من القوارب المهددة بالغرق، وان يجنب تطلعاته وأهدافه شبهة العلاقة الحزبية أو حتى الفكرية مع مرشده السابق )نجم الدين أربكان( وتياره الأسلامي بعد ان تبين له مدى التعارض بين اتجاهاته واتجاهات المؤسسات العلمانية التي أرسى قواعدها كمال اتاتورك، ولذلك أعلن صراحة بلسان )الثعلب الماكر( )أن حزبه الجديد )العدالة والتنميه( سوف يضع نصب عينيه المحافظة على النظام الجمهوري، وأنه لن يدخل في صدامات مع القوات المسلحة التركية، بل سيتبع سياسات واضحة ونشطه من اجل الوصول إلى الاهداف التي رسمها كمال اتاتورك لأقامة المجتمع المتحضر والمعاصر، وفي اطار القيم الاسلامية التي يؤمن بها 99 من مواطني الشعب التركي(. هكذا حدد أردوغان أسس المسيرة التي سيجعلها منهاجا لحركته، أما فلسفته السياسية فتلك هي قضيته وهي داخل صومعة يختزنها، ويجترمنها وقت أن يرى أو يراهن ثم يعتزم.

تركيا والعرب.. ودرس التاريخ

التاريخ كتاب مفتوح لمن يريد ان يستوعب الدرس ويأخذ العظة، ولقد كانت تركيا عبر قرون طويلة وحقب متلاحقة من الزمن دولة أو امبراطورية استعمارية، ترتدي مسوح الدين، وتتدثر بثوب الأسلام، تحت ستار مفهوم الخلافة الأسلامية )العثمانية( في حين أن العلاقة بين الباب العالي في )استانبول( والولايات العربية التابعة لحكمه، لم تكن سوى علاقة ضرائب ومكوس وعوائد وهي في مجموعها تمثل نزيفا لعرق ودم عامة الشعب من الفلاحين الفقراء من سكان الولايات العربية التابعة للأمبراطورية، لقد ترك العثمانيون الناس على ماهم عليه دون رعاية أوحماية، وأكتفوا اساسا بفرض الولاء لهم من خلال تعيين ولاة عثمانيون يعينون لمدة ثلاث سنوات فقط حتى لايراودهم اي تطلع للأستقلال عن الأمبراطورية الممتدة وتلقب فترة الحكم العثماني للأمة العربية بالعصر الظلامي.. ذلك هو المخزون التاريخي والوجداني للعهد العثماني في الضمير العربي.

في العصر الحديث، كانت تركيا جزءا من المنظومة الغربية بكل قواعدها الحاكمة، فهي من اوائل الدول التي اعترفت باسرائيل عام 1949 فضلا عن تواصل العلاقات بينهما سواء على المستوى الاقتصادي أو التعاون العسكري.وطوال حقبة الخمسينات والستينات كانت طرفا في اتخاذ المواقف العدائية لكل التطلعات العربية في الحرية والاستقلال ومقاومة الاحلاف العسكرية، فأضافة إلى عضويتها في )الناتو(، كانت عنصرا اساسيا في محاولة ربط منطقة الشرق الاوسط بالعجلة الغربية ومن ثم كانت نشطة في التبشير وعضوية )حلف بغداد( عام 1955، وقامت بحشد قواتها على حدود سوريا عام 1957، واطلقت تصريحات معادية للوحدة المصرية السورية، وكانت احدى الدول الخمس التي سارعت بالأنفصال السوري عام 1961. ثم اقدمت على توقيع اتفاق مع تل أبيب يوثق للشراكة الاستراتيجية، وشمل هذا الأتفاق عام 1996 بنود عدة تتراوح بين تبادل المعلومات الاستخبارية والتعاون العسكري والتدريب. وبعد تولي حكومة العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا عام 2002، استمر الحزب بالاتفاقات السابقة مع إسرائيل، على الرغم من بعض الانتقادات الإعلامية التي أثيرت خاصة مع اندلاع الانتفاضة

د.مهندس نجم الدين اربكان
دعى إلى قطع العلاقات مع اسرائيل

الثانية، حتى وان اكتسب أردوغان قدرا من الشعبية أثر موقفه في مؤتمر )دافوس( الرافض لأدعاءات شيمون بيريز، وانتهى بانسحاب أردوغان كنوع من ألأحتجاج عام 2009، ولكن علينا أن نلاحظ أنه رغم ذلك التوتر الذي قام في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب والذي صعد إلى الذروة عام 2010 مع الهجوم الإسرائيلي على سفينة »ما في مرمرة«، فان ذلك التوتر لم يمتد من جانب اّخر إلى اتفاقات بيع الأسلحة والتبادل التجاري الذي يبلغ في قيمته حوالي 3 مليارات دولار سنويا، بل انه ازداد في السنوات الخمسة الأخيرة.، يضاف إلى ذلك السياسة التي انتهجتها تركيا بتهديداتها العسكرية وعدوانها المتكررعلى الأراضي في كل من سوريا والعراق، وأخيرا في عهد اردوغان تطورت واصبحت لها قواعد عسكرية على الارض العربية،

تركيـــــــا.. والربيع العربي

راودت تركيا الكثير من الأحلام اثر اندلاع الثورات العربية، وصعود حركات ما يعرف ويصنف بتنظيمات الأسلام السياسي إلى سدة الحكم، باعتبارها التنظيمات الأكثر اعدادا وألتزاما في الهيمنة على نظم الحكم، وظهرت بوضوح تطلعات ما يطلق عليهم )العثمانيون الجدد( في تحقيق مكاسب اقليمية من خلال قيادة تركيا لتيار عودة نظام )الخلافه( تحت وهم انه النظام الأسلامي. وتحمست تركيا بقيادة اردوغان للدعم والتأييد من اجل قيادة هذه الحركات، واكتسابها نفوذا وهيمنه يوسع من قيادتها للمنطقة، بما يكسبها موقعا متقدما على الساحة الدولية، وأقرب ثماره لتركيا تحقيق حلمها بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن طال وقوفها على بابه انتظارا يحدوه الرجاء والأمل.لكن الصدمة كانت مروعة في الهبة التاريخية للجماهير المصرية في 30 يونيه عام 2014 التي أطاحت بنظام الاسلام السياسي في مصر، وبالتالي قوضت أحلام العثمانيون الجدد في انقرة، وكان لذلك تأثيره ووقعه وامتداده في أكثر من بلد عربي

ماذا حقق أردوغان في الأنتخابات الأخيرة ؟

تعد هذه الانتخابات أهم انتخابات جرت في تركيا منذ ان تم الغاء نظام الخلافة هناك واقامة الجمهورية التركية منذ اكثر من تسعين عاما فهي تعلن نهاية النظام البرلماني في البلاد وبداية للنظام الرئاسي مع الوضع في الاعتبار ان جميع المرشحين للرئاسة مع اردوغان قد اعلنوا انهم ضد النظام الجديد وسيعملون على الغائه في اقرب فرصة لهم.ان اردوغان يحكم تركيا منذ ما يقرب من ستة عشر عاما

وقام بتشكيل حزب، وخاض اكثر من انتخاب، واجرى اكثر من استفتاء، ولكن نتائج التصويت كانت دائما لا تتخطى درجة المقبول، وهي الدرجة التي تسمح )علميا( بالنقل المرحلي، ولكنها ببساطة لاتعبر ولاتكشف عن أي عمق أونبوغ، و)سياسيا( تسمح بالمرورفي الانتخابات، ولكنها تفتقد تماما لأي معلم للجماهيرية أو تؤكد عوامل الثقة بما تتحلى به مكانة وقيمة الزعيم وقامته.أردوغان خطيب ومتحدث وطموح، ولكن أحلامه محلية وطموحاته ذاتية، ولاينظر إلى دول الجوار باعتبارها شريكة في صنع مستقبل واعد، أو دعامة لبناء نهضة اسلامية عريضة، ولكنه يعتبرها مجال حيوي لأتساع حكمه، ولدائرة نفوذه، وبناء زعامته، كما يمكنها ذ من جانب اّخر- ان تساهم في دعم مكانة تركيا كدولة، فضلا عن كونها رمزلعقيدة. من هنا نراه بشكل ملحوظ يسارع بالتدخل في شؤون جيرانه، ليس كسبا لود، وانما تحقيقا لمكسب، ودعم حركات مناهضة لنظم الحكم فيها، بغية الوصول إلى تأجيج فتنة ومن ثم الوثوب إلى مصلحة، وهو مايمكن ان يدخل بلاده ذاتها في نفس المعترك، ويسحب عليها نفس القلاقل، فالعدوى سلاح بتار خصوصا وان كانت النار تحت الرماد، وتركيا دولة متعددة القوميات، ولاتحتمل شرارة تندلع، يمكن ان تشتعل على اثرها الكثير من الحرائق، وما يترتب عليها من دمار.

تحالف اردوغان مع حزب الحركة القومية لأنه لايطمئن للنتائج ان دخل منفردا، وهو مايشير إلى أن )شهر العسل( بينهما مرتهن بمدى التوافق بين الحزبين، وهو مايعني أيضا أن طموحات أردوغان ليست مطلقة، ومع ان الرجل له سابقة في التخلي عن حزبه القديم من اجل مشروعه، فانه مقيد في هذه المرة بضوايط شريك مرحلي في الاهداف، وبرلمان لايأمن جانبه، لأنه لايملك الأغلبية المطلقة بين أعضائه التي تساند خطواته في تحقيق طموحاته.

وبـعـد

ان العالم العربي الآن يتجه إلى عملية اعادة الشمل وترتيب الأوراق بعد ان تمكن إلى حد كبير من جمع شتاته، فقد صمدت مصر أمام التحديات التي واجهتها، وليبيا الآن تستجمع قواها وتحرر اراضيها من التنظيمات العابثة وسوريا تتقدم على طريق وحدتها وتحرير اراضيها من القوى المرتزقة والعراق يحرز خطوات في ضرب سياسة فرق تسد بين طوائف الشعب، وهي الدول المتاخمة للحدود التركية، وهو أمر لا ييسر لدول الجوار من ايران إلى تركيا محاولات جديدة للتدخل وللسيطرة او الهيمنة.لقد طالت فترة حكم اردوغان، وانتصر في مواجهة محاولة

اردوغان مع شيمون بيريز
الأبتسامات ترتسم على الوجوه، لكن المصالح لها
الغلبة على الشعارات

الانقلاب العسكري، وأحدث قدرا من التطور الأقتصادي في بلاده، حتى وان كانت الليرة التركية قد تراجعت قليلا، وربما يكون الأجدى لأردوغان ولتركيا ولكل المنطقة أن يحل التعاون والوفاق بين كل الاطراف، بدلا من محاولات استعادة الماضي لامبراطوريات لم يعد لها متسع سوى صفحات التاريخ، نأخذ منها العظة والعبرة، ونتطلع منها إلى المستقبل يكل رحابته، لكي نصنع نهضة، تسعد الشعوب وتحقق لها الرفاهية متضامنين. لابد أن نحترم ارادة الشعوب في اختيار نظمها وحكامها وأن نبحث معا عن المصالح المشتركة حتى نبني غدا جديد يتسع للجميع دون تسلط أو استغلال أو بناء زعامات على حساب حريات الشعوب، ولنعد جميعا إلى قضايانا الرئيسية التضامن والتنمية، واسترداد الأرض المغتصبة في فلسطين.