مواجهة البطالة تستدعي تحفيز الاستثمار-القطاع العام في الدول العربية ملاذ الشباب العاطل

بيروت هيثم محمود

تمثل مكافحة البطالة وإيجاد الاليات الكفيلة بخلق فرص العمل إحدى ابرز التحديات في الدول العربية بما يعنيه ذلك من انعكاسات اقتصادية واجتماعية. ولم بعد الاهتمام بهذا الملف ترفاً يمكن للحكومات ان تدعية بل أخذ طريقه الى رأس سلم الأولويات مع الارتفاع لكبير في نسب البطالة بين مواطني هذه الدول وخصوصاً منهم الشباب. ولعل فقدان فرص العمل وما يترافق معه من مصاعب في الظروف الاجتماعية كان من ابرز المحفزات على التحركات الشعبية التي غزت بعض الدول العربية والتي وإن اختلفت في الشعارات السياسية إلا أنها تلاقت وتقاطعت في العناوين الاقتصادية والمعيشية.

ويشكّل الشباب العاطلون من العمل مشكلة كبيرة وقنبلة موقوتة بالنسبة للحكومات. وإذا ما بقيت الاقتصادات بطيئة، تكره الحكومات تخفيض رواتبهم. ومقابل كل شاب عربي متحمس لإقامة شركة تكنولوجيا أو مشروع صغير، هناك آخر سعيد بقبول وظيفةٍ عامة. وخلُص استطلاع رأي أجرته شركة العلاقات العامة  »أصداء بورسون – مارستيلر« عام 2016 إلى أنَّ نصف الشباب العربي يريدون وظائف حكومية. ويرتفع الرقم في الخليج إلى 70 في المئة. ويُنظَر إلى الوظائف الحكومية باعتبارها أكثر أماناً وربحية وأقل تطلُّباً من الوظائف الخاصة. ويدفع القطاع العام رواتب أعلى بـ39 في المئة في السعودية، وأعلى بنحو 60 في المئة في مصر.

ولأن خلق فرص العمل لا يمكن أن يكون منفصلاً عن سياق الإصلاحات الاقتصادية، فإن معظم دول المنطقة العربية باتت اليوم أحوج ما تكون الى أخذ خطوات جدية في هذا المجال، وهو ما شدد عليه تقرير جديد أصدره  »البنك الدولي« بعنوان:  »الإصلاحات والاختلالات الخارجية: الصلة بين العمالة والإنتاجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا«، وهو يبيّن الحاجة الملحة إلى مزيد من الإصلاحات الهيكلية التي يمكن أن ترفع إجمالي إنتاجية العمالة من أجل زيادة النمو وتقليل الاختلالات الخارجية في المنطقة في آن واحد.

البطالة قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الاجتماعي

يقول فريد بلحاج نائب رئيس  »البنك الدولي« لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا:  »إننا نحث المنطقة على تبني إصلاحات طموحة«.  »هناك حاجة ملحة اليوم للنهوض بإصلاحات لتحسين الإنتاجية وتشجيع الابتكار والمنافسة. سيكون هناك 300 مليون شاب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتطلعون لدخول سوق العمل بحلول عام 2050. ولا يمكن للمنطقة أن تنجح إلا إذا عالجت العوائق الهيكلية أمام النمو. ونلاحظ اليوم أن البلدان التي تبنت إجراءات صعبة لتنفيذ إصلاحات تتعلق بالسياسات هي المحرك للنمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.  »

ووفق التقرير يُتوقع أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفاضا طفيفا إلى 1. 5 في المئة عام 2019 من 1. 6 في المئة عام 2018. وعلى رغم ذلك، يُتوقع أن يشهد معدل النمو الإقليمي زيادة معتدلة إلى 3. 4 في المئة في 2020 و2. 7 في المئة في 2021.

وبحسب التقرير فإن النمو المتوقع في المنطقة تتصدره البلدان النامية المستوردة للنفط مثل مصر، التي تشكل نحو 8 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة، والتي من المتوقع أن تحقق نموا بنسبة 5. 5 في المئة في عام 2019، وبمعدلات أعلى في 2020-2021. ومن المتوقع أن يصل النمو في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 2. 1 في المئة في 2019. إن انتعاش النمو في مصر ودول مجلس التعاون هو نتيجة جزئية وغير مباشرة لسياسات الإصلاح المحلية. وفي الوقت نفسه، فإن تراجع النمو المتوقع في أكبر أسواق صادرات المنطقة وهي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، سيكون له تأثير سلبي عليها.

ويشدد رباح أرزقي، رئيس الخبراء الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي والمؤلف الرئيسي للتقرير:  »ينبغي أن تحقق بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضعف معدلاتها الحالية من النمو على الأقل. ولإفساح الطريق للاستفادة من إمكاناتها غير المستغلة، يتعين على المنطقة تحويل اقتصادها، وتعزيز روح التنافس في السوق، واعتماد نهج لانطلاقة كبرى في الاقتصاد الرقمي«.

ويؤكد تقرير  »البنك الدولي« أن التغيرات السكانية وإجمالي إنتاجية العمالة هي المحركات الأساسية لرصيد المعاملات الجارية في أي اقتصاد. وهناك حاجة ماسة لتنفيذ إصلاحات هيكلية من أجل تحقيق زيادة في إجمالي إنتاجية العمالة.

وتشمل هذه الإصلاحات: إصلاح مصروفات الموازنة التي يمكن أن تساعد من خلال زيادة وفورات المالية العامة، وتعزيز إنتاجية العمالة عندما يعرقل الدعم المنافسة في السوق، والإصلاحات التجارية التي تهدف إلى خفض تكاليف التجارة بما يتجاوز التعريفات الجمركية للمساعدة في دمج المنطقة في سلاسل القيمة العالمية، وإصلاحات سوق العمل لتعزيز إنتاجية العمالة مع توفير شبكة ضمان للعمال الذين فقدوا وظائفهم، والإصلاحات الذكية في الشركات المملوكة للدولة في صناعات الشبكات، مثل الطاقة والاتصالات، وذلك للمساعدة في تحسين كفاءة الشركات وكذلك زيادة إجمالي إنتاجية العمالة.

النموذج الاردني

يواجه الأردن شأنه شأن العديد من الدول العربية تحدي مكافحة البطالة وخلق فرص عمل، وتجهد الحكومة على إيجاد السبل الكفيلة بمواجهة هذه المشكلة التي زادت حدتها مع استضافة أعداد كبير من النازحين السوريين. وتظهر البيانات الحديثة أن البطالة ارتفعت من 13 في المئة الى 18. 7 في المئة، ما يستدعي رسم خطة اقتصادية تهدف الى خفض البطالة باعتبار ذلك أولوية قصوى، تفادياً لأي آثار اجتماعية سلبية.

ويحذر مروان المعشّر، نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة  »كارنيغي«، من أن يكون العمل على خفض البطالة عن طريق إطلاق الوعود للناس بتوظيفهم في القطاع العام. لأن ذلك يندرج ضمن اسلوب معالجة الأزمات بالطرق التقليدية التي لم تنجح في السابق. ويؤكد على أن خلق فرص عمل جديد ليس مسؤولية وزارة العمل منفردة، بل هو عمل يحتاج إلى خطة متكاملة متوسطة المدى لمعالجة جوانب الموضوع كافة.

ويشدد على أن الوقت جان لاعتماد خطة متكاملة تأخذ في الاعتبار أن القطاع العام غير قادر على تأمين وظائف إضافية، وأن الدولة لا تستطيع تجاهل الأعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل. وبالتالي يرى المعشر أن على القطاع الخاص ان يحل مكان القطاع العام في توفير الوظائف للناس. وهذا يستدعي من الدولة العمل على خلق الظروف الملائمة ليأخذ القطاع الخاص دوره في قيادة عملية الإنتاج.

الوظيفة السهلة

سادت خلال العقود الماضية الفكرة التي تقول إن الحصول على وظيفة سهلة في القطاع الحكومي هي أفضل السبل وانتشر ذلك النموذج في العديد من الدول العربية ونتج عن ذلك تضخم كبير في حجم القطاع العام، ومع ذلك فإن السياسيين استعملوا هذا النموذج لشراء الولاءات

الإصلاحات خطوة لتأمين استثمارات تتيح توظيف الطاقات الشبابية

ولتحقيق مكاسب انتخابية. وليس أدل على ذلك ما كُشف في لبنان مؤخراً عن توظيف 5500 شخص في دوائر مختلفة في الدولة خلال فترة الانتخابات التشريعية الأخيرة.

مصر تتجدد.. بالتقاعد

وقد استعرضت مجلة The Economist وضع القطاع العام في عدد من الدول العربية من بينها مصر والسعودية مشيرة إلى أن عدداً كبيراً من عصب هذا القطاع سيتقاعد قريباً، إما بسبب كبر السن أو إحلال الأجهزة الإلكترونية بدلاً منه. ففي القاهرة تتراصّ ماكينات حديثة في مرآبٍ تابع لإحدى البلديات بانتظار توزيع التذاكر على السائقين. لكنَّ الماكينات مُطفأة، ويقف بجوارها عمال يُسلِّمون التذاكر يدوياً. تُعَد هذه واحدة من الوظائف الحكومية عديمة الفائدة في العاصمة المصرية، بحسب المجلة البريطانية.

وبحسب التقرير يعمل أكثر من 5 ملايين مصري في القطاع العام، يخدم كلٌ منهم ما يقل عن 20 مواطناً، في حين تكتفي بلدانٌ نامية أخرى بقطاعٍ عام أقل أرشق بكثير. وفي مؤتمرٍ عُقِد أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنَّ مليون موظف بإمكانهم إنجاز العمل الذي يقوم به الآن 5 ملايين موظف. لكنَّه قلق من أنَّ فصلهم قد يتسبَّب في اضطرابات.

إلا أن الحكومة المصرية لديها حل طبيعي للأمور يتمثل في ترك أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام تخرج الى التقاعد، إذ يوجد حوالي 2. 2 مليون موظف حكومي مصري ضمن أعلى شريحتي رواتب، وهناكّ 35 في المئة على الأقل من قوة العمل ستتقاعد في غضون عقدٍ من الزمن.

ومن شأن هذا تقليص فاتورة الأجور التي تلتهم 27 في المئة من المداخيل الحكومية، ما يترك المليارات من الأموال متاحة لاستخدامها في الاستثمارات. فمصر تنقل نفسها إلى العصر الرقمي وهناك مجال واسع للاستغناء عن العديد من المراكز والوظائف الموجودة حالياً.

وقد تخلق موجة التقاعدات مشكلةً مختلفة أيضاً. إذ ينص قانون التقاعد العام في مصر على دفع معاش يبلغ في حده الأقصى نسبة 30 في المئة من الراتب النهائي للموظف. وبما أنَّ متوسط الرواتب يبلغ 5 آلاف جنيه مصري (289 دولاراً) شهرياً، فإنَّ المعاش التقاعدي القياسي قد يبدو مبلغاً تافهاً يصل إلى 1500 جنيه (86. 5 دولار تقريباً) شهرياً. لكن حتى هذا الرقم مضلل، لأنَّ الراتب الأساسي يمثل جزءاً بسيطاً من رواتب القطاع العام، في حين يأتي الجزء الأكبر من العلاوات والمكافآت المنتظمة.

قد يصل ملايين العمال قريباً إلى سنوات شيخوختهم بالحد الأدنى فقط من المعاش التقاعدي البالغ 750 جنيهاً، وهو أقل بنسبة 38 في المئة من الحد الأدنى للرواتب في القطاع العام. ولا ترتبط المعاشات بالتضخم. فمع أنَّ البرلمان رفع المعاشات بنسبة 15 في المئة الصيف الماضي، أدَّى خفض الدعم وارتفاع التضخم إلى التهام هذه الزيادة على الفور. لقد ظلَّ الموظفون الحكوميون يُمثِّلون لفترة طويلة قاعدة انتخابية موالية. لكنَّ هذا الوضع قد يتغيَّر قريباً. وسيكون على السيسي أن يأمل منهم التعامل مع الاحتجاجات بنفس قدر الحماس الذي كانوا يتعاملون به مع وظائفهم.

العدد 92 – ايار 2019