أمريكا وإيران.. حافات الحريق الكبير

د. ماجد السامرائي

عناونين فرعية:

الخاسرون من الصدام العسكري في المنطقة هم العرب

ترامب يقدم لخامئني وصفة السم الجديد

يبدو مشهد الأحداث السياسية وظواهرها العسكرية والاعلامية على الجناح الشرقي لبلدان العرب ما بين امريكا وايران وكأنه أحد سيناريوهات هوليوود شديدة الحبكة في جمع تناقضات الأدوار والأحداث ما بين متقني الصبرعلى حياكة السجاد ممزوجة  »بالتقيّة« وبين عنجهية  »الكابوي« الأمريكي المؤمن باستعراض فوقي للقوة والتي قد تستخدم في لحظة من الجنون  لقاء محصول قد يمكن أخذه بالطريق اليسير. لم يتفاجأ العالم بالتوتر الايراني الأمريكي لاختلاف المصالح  لكن هذا العالم السياسي تفاجأ بأن إيران وبعد خمسة عشرعاما من نفوذها في العراق الذي تحقق بقرار من واشنطن  تبدو وكأنها العدوة الأولى وقائدة معسكر  »الممانعة« لأمريكا وحلفائها في المنطقة وتريد بعد هيمنتها على أربع عواصم عربية انتزاع موقع الدولة الكبرى لتتقاسم النفوذ مع أمريكا وروسيا وغيرهما. وهو وصف يحتاج الى أدلة في الجيوسياسيا  كما إن هناك الكثير مما يحكى عن تاريخ هذه العلاقة الملتبسة وتداخلاتها التاريخية خصوصاً تجاه العراق الذي هو اليوم في أسوأ حلقات الضعف. ومن المفيد متابعة تطورأهم ما جرى وما سيجري في محيط المنطقة العربية الجنوبي والشرقي على هامش التوتر الأمريكي الايراني الأخير  وهل ستشهد هذه المنطقة سلاماً وهدوءاً يوفر قدراً مقبولا لأهلها غي الحياة الكريمة.

  كان توقيت بدء الأزمة بعد مجيء (ترامب) لرئاسة الولايات المتحدة حيث ألغى بسياساته الخارجية عهد (أوباما) خصوصاً في الملف النووي الإيراني الذي خرج منه العام الماضي     فاتحا بذلك الباب أمام تعقيدات في علاقات المصالح ما بين الأوربيتين الشرقية والغربية وطهران من جهة وواشنطن من جهة أخرى  ومنذ ذلك التاريخ انفتح الملف الإيراني بقوة في أخطر صفحة متعلقة بالنفوذ وبما سمي  »بتصدير الثورة« الايرانية منذ عام 1979 واستيقظت الأزمة العميقة بتفصيلات  »عقائدية وسياسية وعسكرية« بعد نومها نهاية الحرب العراقية الايرانية 1980-1988 لتكون دول الخليج العربية وفي مقدمتها السعودية هي الطرف المتضرر والمطالب بتعديل السياسة الايرانية فيما تجد حكومات العراق وسوريا وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن إن نظام  ولاية (خامئني) هو النطام الحليف والمساند لهم. أحداث سياسية وعسكرية مهمة حصلت خلال الشهرين الماضيين فتحت أبواب النيران التي قد تشعل المنطقة من المفيد المرور على أهم محاورها السياسية والعسكرية.

سياسياً بدأ التوتر إثر قرار الرئيس الأمريكي (ترامب) الخروج من الاتفاق النووي العام الماضي ليضع الدول الأوربية الموقعة في حرج ما بين البقاء داخل هذه الخيمة ذات الثقب الكبير  وبين الخروج الذي يعني التنازل عن مصالح استراتيجية ويومية كبيرة  ولم يكن لأي متابع ومراقب إدراك إن هذا القرار الأمريكي تجاه طهران كان حلقة من سياسة أمريكية جديدة تجاه إيران والمنطقة. فقد ارتبطت هذه الخطوة في العودة الى العقوبات الأمريكية التي كانت منهج الرؤساء الأمريكيين السابقين لكنها كانت مقدمة الرئيس (أوباما) لمفاوضات معقدة رعتها (عمان) الدولة الخليجية العربية صاحبة العلامة المميزة بإدارة حوارات الخصوم داخل الغرف المظلمة  لكن عقوبات (ترامب) ذات إيقاعات حادة ومؤلمة للنظام الإيراني  صاحبتها تصريحات ودعوات رسمية متوالية للضغط على حكام طهران  بل وصل الأمر بمستشار الرئيس للأمن القومي الأمريكي (جون بولتون) لرفع شعار إسقاط النظام خلال شهور. حملة العقوبات الاقتصادية تركت آثارها السريعة على الاقتصاد الايراني خصوصاً في حملة ما سمي بتصفير صادرات النفط وتدنى سعر صرف العملة الايرانية ليصل إلى أقل مستوياته حيث خسر أكثر من 85  من قيمته أمام الدولار  وأكد مراقبون اقتصاديون بأن السبب الرئيسي فيما آل اليه الوضع الاقتصادي في ايران، هو سيطرة الحرس الثوري على نحو 55  من حجم الناتج القومي للبلاد، واستخدام هذه الأموال في دعم الميليشيات الطائفية المسلحة العاملة خارج إيران نجم عن ذلك تزايد الديون، وارتفاع الضرائب، وانخفاض إنتاجية القطاع الخاص، وتراجع معدلات الادخار والاستثمار، ما دفع الشعب الإيراني للخروج للشوارع تعبيرا عن سخطه واحتقانه الداخلي في مظاهرات غاضبة عمت قبل أشهر معظم المدن الإيرانية. كلا الطرفين الأمريكي والإيراني لديهما استعدادتهما السياسية والاعلامية والعسكرية التي لا يتوقع أحد إن شوط التصعيد السريع في العقوبات لا يقود الى عمليات جس نبض قوة المتخاصمين. وحصل اشتباك ما زالت ملامحه غامضة ما بين السياسي والعسكري على مساحة ميدان الخصومة (العراق والخليج) وفق النظرية الإيرانية بنقل المعركة خارج حدودها فيما تسعى واشنطن الى خنق الاقتصاد الإيراني وجعله يتألم داخلياً  وهنا بدأ استعراض القوة ميدانياً واعلاميا  وقد لا يستغرب المراقبون من استعراض القوة الأمريكية لكن الاستغراب هو حدوث الاستعراض من دون تحقيق حملة عسكرية كبيرة أو صغيرة  فقد سبق لأمواج الخليج العربي أن احتظنت البوارج الأمريكية العملاقة في آخر مشهد نفذ عمليات حربية كبيرة على العراق بصواريخ  وقاذفات بي 52 سيئة الصيت  لتعيد نشرها الأن وتضمنت حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” وخمس سفن حربية أخرى، ونشر قاذفات استراتيجية من طراز “بي 52” في قاعدة العِديد القطرية التي يتمركز فيها نحو عشرة آلاف جندي أمريكي، وأعادة نشر بطاريات صواريخ باتريوت، الاستعراض الكبير لقوة الولايات المتحدة لم يقف عند هذا الحد، فهناك شبكة واسعة من القواعد العسكرية متمركزة في المنطقة منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، من ضمنها قاعدة للأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، ومقر الجيش الأمريكي الثالث في الكويت الذي يوجد فيه 16 ألف جندي أمريكي، وقوات أخرى في قاعدة الظفرة في الإمارات فيها حوالي 5 آلاف جندي، إلى جانب قواتها الخاصة في اليمن، هذا بالإضافة إلى أن لديها اتفاقية لاستخدام موانئ ومرافق ومطارات عُمانية  وتكثف الولايات المتحدة حضورها العسكري في الشرق الأوسط عبر سفن قادرة على تنفيذ إنزال بري على الشواطئ الإيرانية.

أما إيران فرغم إن المعادلة العسكرية الايرانية الأمريكية غير متوازنة لكن ذلك لم يمنعها من  إظهار قدراتها على إرباك خصومها ومفاجأتهم بطرق وأساليب وتكتيكات لم يتحسبوا لها، منها ما نسبه كثيرون لطهران في تنفيذ هجمات على السفن التجارية في الخليج أو تحريض الحوثيين على ضرب خطوط البترول في العمق السعودي إضافة الى مباشرتها باستخدام أذرعها من خلال وكلائها في المنطقة والعراق بصورة خاصة  فقد تم توجيه ضربة بصاروخ (كاتوشيا) الى مقر السفارة الأمريكية ببغداد في رسالة واضحة عبر عنها خبر سربته إحدى الوكالات الاعلامية ببغداد بأن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني بعث عبر  »وسطاء عراقيين« رسالة تهديد إلى قيادات عسكرية امريكية انه في حال قررت امريكا مهاجمة ايران فأن القوات الامريكية في العراق ستكون هدفا للفصائل المسلحة في العراق.  قد يرى البعض في حشد الأساطيل الأمريكية تعبيرا عن إرادة سياسية بتنفيذ هجوم مبيت على الأراضي الإيرانية، يبدأ بذريعة مفبركة، وتعقبه ضربة جراحية تقتصر على تدمير بعض المفاعلات ومختبرات الأبحاث النووية الإيرانية، بما يضمن تأخير البرنامج النووي الإيراني لسنوات طويلة دون القضاء عليه نهائيا. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار سأم أمريكا وشعبها من الحروب، ووعود ترامب الانتخابية ونزعته لسحب الجيوش الأمريكية المنتشرة في بعض المناطق الساخنة، وتركيز الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي والبنتاغون على حشد الطاقات في مواجهة الصعود المتسارع للتنين الصيني وردع الدب الروسي الذي استفاق من غفوته، تتضاءل حينها فرص هذه الفرضية.

العراق في قلب العاصفة

يبدو إن قدر العراقيين والعراق أن يكون مركز الأزمات والأحداث الكبيرة في المنطقة مع إن جراحه من الحروب والأزمات الكبرى لم تندمل بعد. وبدلا من ان تكون الجيرة الجغرافية عنصر خير وتبادل المنافع وأن تغلق أبواب حرب دامية لثماني سنوات  أصبح هذا البلد مركز عقدة الخلاف الأمريكي الايراني واحتمالات الانفجار العسكري الذي يرى البعض إنه سيضع العراق في أسوأ حالاته بسبب اعتماد طهران بالدرجة الأولى على وكلائها في العراق من مليشيات مسلحة لا تخضع لتعليمات الحكومة العراقية. ولهذا يجد كثر من المراقبين السياسيين إن زيارة وزير الخارجية الأمريكي (بومبيو) لبغداد كشفت عن صلابة استراتيجية واشنطن في رسم الخطوط الحمر أمام طهران من بغداد وإنه قدم لمن التقاهم من المسؤولين (رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الحكومة عادل عبدالمهدي) عرضا وانذاراً بأن الولايات المتحدة لن تتخذ خطوة الحرب الأولى ضد إيران، لكنها لن تتردد في حماية أمن بعثتها وجنودها في العراق  وقدم لهم  تصورا معززا بالأدلة عن خطط إيرانية يمكن تطبيقها في أي لحظة لتصعيد التوتر في المنطقة، ومنها ما يشير إلى تخطيط مجموعة عراقية على صلة بإيران لتنفيذ عملية عسكرية ضد مجمع يضم قوات أميركية شمال بغداد، وآخر غربها وكذلك خططا تتعلق بمهاجمة مبنى السفارة الأميركية في بغداد عبر صواريخ قصيرة المدى”، فضلا عن “خطط إيرانية جدية لإغلاق مضيق هرمز. ولأن واشنطن تعلم بأن إيران تتحايل على العقوبات الاقتصادية عبر العراق لذلك أوفدت بنفس الفترة مساعد وزير الخزانة الامريكي (مارشال بلينغسي) الذي حذر المسؤولين العراقيين وأبلغهم بطرد المصرفين الايرانيين (بارسيان وملي إيران) من العراق وايقاف التعاملات المصرفية معهما ووجوب تصفية بنك البلاد العراقي الذي يخضع لعقوبات أمريكية  كما أبلغ وزير المالية ومحافظ البنك المركزي العراقي بقائمة بأسماء شركات ومصارف ايرانية  »تحتال على العقوبات عبر العراق ولوح بامكانية شمول العراق بعقوبات قاسية اذا استمرت بتوفير ملاذات آمنة لانشطة ايران المصرفية وغض النظر عن مصارف وشركات ايرانية بواجهات عراقية«.

إن البلاغات الأمريكية للمسؤولين في حكومة بغداد وضعهم في حيرة ما بين ولاءهم لطهران وصداقتهم لواشنطن ولهذا ابتدعوا قصة  »الوساطة بين طهران وواشنطن« لتبرير انحيازهم الفعلي وخشيتهم من غضب واشنطن. مع إن فرضية الوساطة تحتاج الى توفر عناصرها الفعلية بأن يكون الوسيط بعيدا عن أي من الطرفين وذي مقدرة ومكانة سياسية دولية كبيرة تفرض الاحترام مثلما فعله رئيس الوزراء الياباني مثلا.

هناك تراجع في لهجة التهديد العسكري الامريكي مع تذبذب في الايقاع السياسي وإقرار بعدم الدعوة أو العمل على تغيير النظام السياسي  لكن ذلك لا يعني زوال خطر إنفجار البارود بالعمد أو الصدفة القاتلة  كلا الطرفين الأمريكي والإيراني يتحدثان عن دعوات للحوار لكنه وفق النظرية الخامئنية (لا حرب ولا مفاوضات) ووفق النظرية الترامبية (مفاوضات الاذعان) خامئني سيذهب الى الحوار مع واشنطن لكنه ليس حوارا وجها لوجه بعدما خرج (ترامب) من نووي 2015 ورغبته في عقد نووي جديد مرتبط بترشيد سياسة إيران  والنظام لن يغيّر من سياساته في المنطقة  لأن معنى ذلك تخليه عن المبدأ المقنن في دستور جمهوية ايران الاسلامية مبدأ  »تصدير الثورة« وعند ذاك سيكون نظاما آخر. نظام طهران يسعى للحفاظ على حكمه  وإذا ما وجد نفسه غير قادر على المواجهة العسكرية المباشرة فسيستخدم حرب الوكالة وإذا تأكد بأن العقوبات ستزداد لدرجة تهديد هذا النظام فسينصاع أخيراً ويتجرع  »السم« أما ترامب فهو في مأزق عدم التراجع عن استراتيجية (الاثنتي عشرة نقطة) الساعية الى إعادة إيران لحدودها الداخلية وعدم توسعها في المنطقة  ودعم الارهاب في العالم  لكن مخاطر إيران المستقبلية في القدرة النووية والصواريخ البلاستية ستبقى شبحاً يهدد أمريكا في عهد ترامب أو من سيخلفه. نظام طهران يحاول تصوير المشهد الحالي بأنه فشل لسياسة ترامب لأنه لم ينفذ تهديداته الحربية  مع ذلك فالمنطقة في حالة من الغليان  ومن يعتقدون بأن خلف استعراض القوة وسياسة حافة الهاوية هو  »صفقة القرن« لكن السؤال : ماذا بقى من هذه الصفقة غير إعلانات بسيطة مرتبطة بحراك من نوع جديد؟

الدرس المهم مما يحصل الآن هو إن مكانة الاقتدار والقوة لم تعد تعتمد على عسكرة الصواريخ وصناعتها في بلد يحتاج شعبه الى الخبز والى شعارات أصبح زمنها محنطاً في كتب للتاريخ لا أحد يقرأها  كما إن مكانة القوة لم تعد في فرض سياسة البلطجة  إنما في حوار المدنية وتفاعل الحضارات.