نهب الثروة الوطنية يطلق الثورة الشعبية – لبنان يهب دفاعا عن وجوده

بيروت غسان الحبال

الثروة تفجر ثورة.

يثور الوطن دفاعا عن ثروته الوطنية حين يستولي عليها فاسدون إئتمنهم عليها.

قد يعني الفساد، احتيالا أو سرقة، أو استغلالا لسلطة ونفوذ من غير حق، بهدف جمع ثروة بشكل غير شرعي، فيما هذه الثروة الوطنية هي من حق الوطن والمواطنين.

وما حدث في لبنان منذ السابع عشر من شهر أكتوبر الماضي كان ثورة شعب منهوب على الفساد الأكبر الذي يجمع في معانيه احتيالا وسرقة واستغلالا لسلطة أناطها الناس بمسؤول ليسهر على تحقيق مصلحة الوطن ومصالحهم، وتحويل هذه السلطة إلى أداة لجمع ثروة دون حق لتحقيق أطماعه ونزواته.

وثورة لبنان هي ثورة شعب، لم تأت من فراغ ولم تكن تسعى إلى فراغ، شعب ما زال منذ سنوات طويلة يعبر عن معاناته ووجعه في مواجهة معالجات ترقيعية لا تنقذ وطنا ولا تضعه على سكة مستقبل بديهي يطمح إليه ويؤمن أدنى حقوقه.

نعم، التجاهل واستنساخ السلطة العاجزة لرموز الفساد أديا إلى تراكم الظلم وتدهور أوضاع المؤسسات الوطنية وانعدام الخدمات التي يدفع المواطن ثمنها من تعبه وعرق الجبين، ليؤدي هذا التراكم بدوره إلى الانفجار ولجوء المواطن بصرخته المدوية »كلن يعني كلن« إلى الشارع.

ماذا يريد المواطن، وماذا تريد الثورة؟

المطالب محددة وواضحة، هي تريد وطنا حقيقيا وعيشا وطنيا كريما، وترسم له خارطة طريق نحو سلطة وطنية حقيقية وحكم عادل ينحاز إلى المصلحة الوطنية العليا ويحقق مصالح المواطنين وحقوقهم. أما المطالب التي نادت بها الثورة، والتي أصبحت على كل شفة ولسان فهي:

إسقاط الطبقة السياسية الطائفية.

استرداد المال المنهوب من خلال الحجز على أموال جميع الذين تولوا مواقع في السلطة ومنعهم من مغادرة البلاد.

انتخابات نيابية مبكرة على اساس قانون انتخاب جديد وطني غير طائفي، يفرز برلمانا ينتخب رئيسا جديدا للجمهورية، ويسهر على تحقيق أهداف الناخبين في وطن يخضع لنظام علماني عادل.

لا غالب ولا مغلوب

هل يمكن الحديث الآن عن إحباط الثورة تحت ضغط التهديد بقرب الإنهيار الاقتصادي فالإفلاس، وتحت ضغط النظام على وسائل الإعلام التي تبنت الحدث بوقف البث المباشر، فيما بدت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بداية التزام من قبل لبنان الرسمي بتحقيق مطالب الناس؟

فبعد خمسة عشر يوما على انطلاقتها، تراجعت الثورة ولم تسقط، تراجعت في العاصمة بيروت فيما كانت مدينتي طرابلس صيدا تتجهان نحو إعلان العصيان المدني. وعلى الطريقة اللبنانية في حلول الأزمات السياسية التي تستند دائما إلى معادلة »لا غالب ولا مغلوب«، حمل خطاب استقالة حكومة الرئيس الحريري اعتذارا من »الثوار« في معرض اعترافه بمطالب الناس وحقوقهم، و اعتذارا مماثلا حملته كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لمناسبة مرور ثلاث سنوات على توليه الرئاسة، وهو اعتذار ضمني جاء في معرض وعوده بإنجازات تبنت مطالب »الثوار«، فيما هدأت نبرة الأمين العام لـ»حزب الله« السيد حسن نصر الله في كلمة ألقاها لمناسبة مرور أسبوع على رحيل العلامة المحقق آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي في مجمع المجتبى، وحملت بدورها اعتذارا في معرض تأكيده على أحقية مطالب »الثوار« وأهمية مكافحة الفساد في الدولة اللبنانية، وكذلك في معرض تبريره لاتهام سفارات وجهات أجنبية بتمويل الحراك، فيما هو قصد بذلك ضرورة أن يبحث الحراك في هوية داعميه وخلفياتهم.

إنطلاق شرارة التحرك

بدأت الثورة نهار الخميس في 17تشرين الأول/أكتوبر 2019 بنحو 50 شخصاً، أقفلوا جسر »الرينغ« وساروا على الأقدام في اتجاه مصرف لبنان في منطقة الحمراء، ثم عادوا إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت ومعهم الآلاف، فنزل تأييداً لتحركهم مئات الآلاف من مختلف المناطق.

المفاجأة لم تكن في بيروت، بل أتت من مختلف المناطق اللبنانية التي استنهضت هممها وانتفضت بوجه من عرفوا بزعمائها، فشكّلت طرابلس المشهد الأجمل. بينما جسدت صور والنبطية مشهد التحدي والمقاومة، ولم يخف المحتجون في المنطقتين الترهيب والضرب والرصاص واستمروا في تحركاتهم.

أما في جل الديب وزوق مصبح فقد تم أإفشال قرار محاولة فضّ تظاهرتيهما. وفي وقت اختفت فيه الاحتجاجات في الضاحية الجنوبية لبيروت، استمرّ إقفال الطرقات وإن بشكل متقطع وسط العاصمة.

وبقي الهدوء سيد الموقف فيما كانت ساحتي رياض الصلح والشهداء تغصّان بالمتظاهرين وإن تفاوت الزخم من وقت إلى آخر.

أما قوى الأمن فقد تراجعت إلى خلف الشريط الشائك والسياج الحديدي اللذين وضعا أمام السراي الحكومي، بعد اشتباك عناصرها مع المتظاهرين في بدايات التحرك. ولم يعد عناصر قوى الأمن على تماس مع المتظاهرين، ما أزال التوتر بين الطرفين، فيما كفّ المتظاهرون عن محاولة إقتحام السراي الحكومي وتخطي السياج، بل اكتفوا بالتوجه إلى ساحة رياض الصلح لإلقاء الهتافات. من يرغب منهم بالرقص والغناء وبأجواء أكثر احتفالية يتوجه إلى ساحة الشهداء. وكأنهما ساحتان مختلفتان، ساحة للسياسة وساحة للترفيه.

وبالتوازي مع استمرار التحركات وسط العاصمة، تقوم مجموعات متفرقة من الشابات والشبان بالتنسّق في ما بينها لإقفال الطرقات، من أجل فرض المزيد من الضغط على السلطة والحفاظ على زخم التحركات.

كسر الحواجز الطائفية

وفي الشارع اليوم مواطنون من توجهات مختلفة، كسروا خطوط التماس التي وضعها زعماؤهم، واكتشفوا أن بامكانهم التواجد مع الآخر من دون الاشتباك معه. واكتشفوا معنى الحرية التي تجسّدت بالفعل في وسط بيروت، فهناك تطلق كل مجموعة شعاراً قد توافقه أو تعارضه مجموعة أخرى، لكنها تكتفي بإطلاق موقف آخر لا بقمع غيرها.

ويقول عدد من الناشطين أن الثورة لا بدّ أن تفرز ناطقين باسمها، لكن الأمور تحتاج إلى الوقت لتتبلور. كذلك يترك هؤلاء للشارع وظيفة تحديد المرحلة المقبلة. وفي الانتظار يحاولون تأمين مقوّمات البقاء للاستمرار أطول وقت ممكن في الشارع. ويعلنون رفضهم تدخل أشخاص من خارج ثورتهم لقيادتهم أو التحدث باسمهم.

واليوم بعد مرور أكثر من أسبوعين على قيام الثورة، وعلى الرغم من كل محاولات السلطة القائمة بكل رموزها، لاستيعاب الثورة عبر أوراق عمل إصلاحية، بدءا بتغيير او تعديل حكومي، ومرورا بتنفيذ معظم المطالب الخدماتية عبر جدول زمني محدد، وليس انتهاء بالتلويح بعصا القمع بواسطة بعض القوى الأمنية غير الرسمية، فإن فقدان الثقة بين الحاكم والقوى السياسية والطائفية المتمسكة بمواقعها، والمواطن المتمرد على واقعه، فإن الغضب الذي يعتمل في نفوس جيل الشباب والعائلات الفقيرة، ما زال قادرا على حماية شعلة الثورة من ان تخمد، ما يشير إلى أن النظام الحالي لم يعد قابلا للاستمرار وسط تجاهل شعب يسعى إلى إرساء حق الانسان في ان يعيش كريما ومحترما في وطنه.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019