الديموقراطية وأحكامها على الساحة التونسية

ماذا تعني النتائج النهائية للعملية الانتخابية، وماهي دلالاتها. ؟

أمين الغفاري

حملت تونس لواء ثورات مايسمى بالربيع العربي، باعتبارها أول من شهد انتفاضاته، وكانت بشائره تنعش الآمال، وتوحي بالأحلام، ولكن سرعان ما كشر (الربيع)عن أنيابه في بلاد أخرى، تحولت فيها نسمات الربيع ألى عواصف وأعاصير، زلازل وبراكين. هدمت، حطمت، كسرت وخربت، فذبلت الزهور، وجفت الأغصان، وتساقطت أوراق الخريف الصفراء، في اعلان صريح عن حالات الانكسار، وكان على الشعوب أن تقاوم من جديد لكي تصحح المسيرة، وتستنهض الهمة وتعاود بناء ما تهدم، وتقوم ما فسد، وتصنع بارادة حرة مستقبلا يليق

قيس سعيد
دخل في سباق الانتخابات بقناعات ثابتة وأساليب مختلفة

بنضالها. تعود تونس لتمارس دورها في حركة المبادأة، وتفتح الباب لتجربة جديدة وتخطو في السياسة نحو صياغة في الحكم غير مألوفة، وتقدم النموذج والمثل في النتيجة التي أسفرت عنها الأنتخابات الرئاسيةالأخيرة. أختارت تونس شخصيتين، من خارج الصندوق السياسي المعتاد أو التقليدي، وهو الأحزاب، وطبقة السياسيين من ذوي الخبرة في دواليب الحكم والممارسة لكي يحتلا مكان الصدارة في النتائج النهائية للأنتخابات.

فائزون من خارج الصندوق السياسي

حين تكون تلك السطور بين يدي القارئ، ستكون انتخابات الاعادة قد تمت، بين المرشحين، وقال الشعب التونسي كلمته الأخيرة في اختيار الرئيس، ولكن علينا الآن أن نشير الى تلك الظاهرة الجديدة التي قام بها الناخب التونسي في عملية الأختيار، من حيث المبدأ، وهي (الفوز من خارج الصندوق السياسي). كان الاول هو المرشح الرئاسي المستقل(قيس سعيد) وقد عمل أستاذا للقانون الدستوري لسنوات طويلة، كما كان عضوا في فريق الخبراء بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية المكلف بإعداد مشروع لتعديل ميثاق جامعة الدول العربية في الفترة بين عامي 1989 – 1990، بالاضافة إلى الكثير من المواقع الأخرى التي شغلها من موقعه الاكاديمي. لكن الملاحظ أن الرجل لم يستند في ترشحه الى تاريخ سياسي يسبقه، ويعزز ترشحه، ولا الى حزب سياسي يسانده، ويكتل الجماهير من خلفه، ولا لرؤية سياسية عامة تكشف عن تطلعاته ومقاصده، كما لم تتوفر له أيضا ماكينة اعلامية تؤازره وتشكل له مادة للطرح والحوار والجدل مع جمهور السياسيين والمثقفين خاصة والناخبين عامة. انما انحصر كل ما قدمه على شعار واحد يحدد دوره، ويترجم حركته مكون من كلمتين لاغير هما (الشعب يريد)، ويبدو أنه التقطهما من الشعارات التي ترددت في مواجهة الرئيس الأسبق (زين العابين بن علي) خلال الثورة الجماهيرية التي عصفت بنظام حكمه، وكان ذلك الشعار(الشعب يريد) من أبرز تلك الشعارات، وقد حصد بذلك الشعار صوت ما يقرب من 000، 700 ناخب تونسي. جدير بالذكر الأشارة الى التقاليد التي التزم بها ذلك المرشح أثناء حملته الأنتخابية أنه رفض تلقي أي مساندة من الدولة في تمويل حملته الانتخابية، بالرغم من توفر أحقيته القانونية في ذلك الأمر، واستعاض عن ذلك بالأستدانة من عائلته، لكي يقوم بالتسجيل في القائمة النهائية للمرشحين. أما المرشح الثاني فهو (نبيل القروي) رئيس حزب (قلب تونس) وهو رجل أعمال نال أصواتا، وأحرز تقدما، وهو نزيل السجون في اتهامات متناثرة، وجهت له من قبل القضاء التونسي وتتعلق تلك التهم بالفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي وغيرها من الدعاوى القضائية، ولانملك التعليق عليها، فالقضاء هو المرجع في اي اتهام، وأحكامه بالبراءة أو الأدانة محل كل احترام وتقدير. أما الطبقة السياسية التي تشكل أحزابا، وتنتمي الى فكر، وعقيدة وأيدولوجية، ورؤى سياسية مختلفة ومتباينة فقد توارت خلف الأكتساح الذي سجله هذين المرشحين. هل شكل ذلك مفاجأة ؟، أم أنه من جانب آخر يمثل تداعيات منتظرة لما يسمى بالربيع العربي باعتبار أن الثورة مازالت مستمرة ؟. وقد فسر بعض المراقبين وقوع تلك النتيجة بأنها تعكس خيبة أمل المجتمع في الطبقة السياسية التقليدية للبلد وتفضيلها لوجوه جديدة قد تحقق ما لم يستطع من سبقهم أن يحققوه. فقد كشفت بوضوح مدى التراجع الكبير لمرشحين تقليديين على غرار الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، وكذلك رئيس الحكومة والأمين العام لحزب النهضة الأسبق حمادي الجبالي، وزعيم التيار الديمقراطي محمد عبو والمرشح اليساري الناطق الرسمي لحزب العمال التونسي حمة الهمامي، والذين حصلوا على نسب متدنية. كما بينت أيضا ذلك التراجع بالنسبة لحزب النهضة الأسلامي فقد جاء ترتيب مرشحه عبدالفتاح مورو، نائب رئيس الحزب الثالث في ترتيب الأصوات، مما دعا رئيس الحزب راشد الغنوشي لللقول أن نتائج الانتخابات الرئاسية ستكون محل درس وتمحيص من جميع جوانبها والتوقف عند رسائلها الداخلية والخارجية، بما يضمن ريادة الحركة وإشعاعها وتمثيلها لأكبر فئة من التونسيين.

ثورة من خلال الدستور

 وصف الفائز الأول في هذه الدورة من الانتخابات (قيس سعيد) هذه النتيجة في تصريح له لوكالة الأنباء الفرنسية أنها (ثورة شرعية من خلال الدستور)، وهو يقصد بالطبع لكونها قد أطاحت بتلك الرموز السياسية، وأعطت ثقتها لعناصر لم تختبرها من قبل في دهاليز الحكم، وأروقة السياسة، وان تلك النتيجة تعد امتدادا لجاذبية الثورة التي مازالت تحمل بريقها، وكان من ظواهرها ذلك الزلزال السياسي، الذي كشفت عنه الانتخابات، وقد اعتبر في حديثة أن الناخب قد وجه رسالة واضحة وجديدة بالكامل مغزاها أنه يريد شيئا لم يتحقق من قبل. ذكر(قيس سعيد) أنه لم يقم بحملة انتخابية تقليدية بل حملة عمادها الوسائل القانونية الدستورية التي تتيح للشباب تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم، وأن يكونوا أفرادا يمارسون سيادتهم كل يوم، كما أدلى بتصريحات أخرى سابقة قال أنه سيعمل على تحقيق مطلب الثورة والوفاء لشهداء تونس، وأستطرد مستندا

زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي
فاجأته النتيجة فعول على الدراسة والمراجعة

الى عقليته وثقافته القانونية بقوله (أنه سيسعى الى أن تكون دولة القانون هي حجر الأساس في أدارة الشأن العام، والى الألتزام بالأرداة العامة. وقال في

في تغريدة، عبر حسابه الرسمي على تويتر:  »أعد التونسيين بالعدل والحرية وعلوية القانون على شاكلة الفاروق عمر بن الخطاب، الذي يُعتبر رجل دولة بامتياز ونموذجا يحتذى به في الحزم والعدل.

آراء واجتهادات وتصنيفها في القاموس السياسي

لماذا التفت الجماهير حول هذا المرشح (الزاهد) الذي لم تواكبه زفة من الشعارات والتصريحات تؤجج له المشاعر، ولا سيل من الاموال يعبد له الطريق في عملية التصويت، وانما تقشف زائد في الصرف والاعلان، وزهد بلغ حد الرفض لأي مساعدة من الدولة رغم قانونية الأمر وسلامته، وطلاق بائن من الأندماج أو التحالف مع أحزاب. يذكر أنه قال (أنا مرشّح مستقلّ ولا أمثّل أيّ حزب وأقوم بحملتي بوسائلي الخاصّة وأرفض كلّ دعم). نلاحظ أن الأمر قد اقتصر فقط على اطلاق الشعار(الشعب يريد) بمعنى (أن يحقق الشعب ما يريد) وتفاصيل أخرى تتعلق بدور القانون بقوله (علينا ان ننتقل من دولة القانون الى مجتمع القانون) وأردف في تصريحاته (أنه ليس في حملة انتخابية لبيع الأوهام أو الأعلان عن التزامات لن نحققها ثم استطرد ان الوضع اليوم يقتضي إعادة بناء سياسيّ وإداري جديد، حتّى تصل إرادة المواطن، ونحقق له مطالبه، فهو يقوم بالثورة للاستفادة منها. من الآراء الجريئة التي تنسب اليه أنه يرفض مبدأ المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، ومن المعروف أن قانونا قد صدر في تونس غير ملزم ولكنه يقضي – لمن يريد – ان يساوي الحق في الميراث بين الرجل والمرأة، وقد أثار جدلا كبيرا، وقد عقب قائلا أن القرآن واضح في هذا السياق، من جانب آخر فانه يتحفظ على رفع عقوبة الاعدام أو الغاء عقوبة المثليين، وفي هذا الأطار يمكن أن يصنف كما ذكرت احدى المنظمات الغير حكومية أنه (محافظ جدا).

من الآراء أيضا التي تنسب اليه أنه بعد أن ظهر في لقاء مع أحد القياديين في حزب (التحرير) المحظور رضا بلحاج، أنه عقب على ذلك بالقول  »أنه حر في مقابلة أي شخص«، ثم أردف ذلك بسؤال (هل من المفروض أن أطلب ترخيصا قبل مقابلة أيّ شخص؟ وفي النهاية، أنا لم ألتق شخصا خارجا على القانون.

في اطار ذلك التقدير أو الفهم أيضا يمكن أن يصنف في احكام التصنيف السياسي أنه رجل ليبرالي يؤمن بالحرية ومداها الواسع في الأدراك والتكوين. أم أن علينا بالأحرى ان نطرح تلك القواميس جانبا، وأن ننظر الى الرجل من زاوية مختلفة. أنه في المقام الأول رجل قانون، وأن المجتمعات تبنى من خلال قواعد أساسية وهي الولاء للنظام العام وعماده القانون، وفي المقدمة منه قواعد الدستور الذي حظي باستفتاء عام من الشعب وتم اقراره بناء على ذلك، ولاخيار للحاكم سوى العودة دائما في الأزمات الى الشعب واختياراته. أن قيس سعيد اعتمد في حملته وسجل ذلك النجاح باللقاءات مع الناس وفي الأسواق، والأحياء الشعبية، للتعرف على أوجاعهم، ومشاكلهم وكل مطالبهم بشكل مباشر ووجها لوجه، ومن تلك الحصيلة يجمع اصواتهم، ويشكل برنامجه، وكان فرسان حملته وجنوده هم مجموعات من طلابه، ومن المتطوعين من الشباب الذين تحمسوا لأسلوب حملته، واقترابه الشديد من قوى الشعب بمستوياتها المتواضعة، وابتعاده عن الشعارات – الزاعقة والتقليدية في الغالب – التي لاتعدو ان تكون طلقات فارغة عمادها قوة الصوت لا عمق المنهج.

الظاهرة.. وأبعادها

ظاهرة التصويت من خارج الصندوق السياسي، ان كانت حديثة في العالم العربي، الا أنها ملحوظة في الخارج كذلك، وأبرزها انتخاب الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب)، وقد كان انتخابه مفاجأة شديدة الوقع للرأي العام العالمي، فقد حفل خطابه الأنتخابي أمام السيدة كلينتون، بالكثير من ألوان الأثارة التي لم تعتادها اذن الناخبين أو المتابعين أو حتى العاملين بالسياسة، وقد اتهم السيدة هيلاري كلينتون أن ماضيها يشهد عليها باستغلال المواقع العامة في تحقيق مصالح شخصية، سواء لها أو لزوجها بيل كلينتون الرئيس السابق، وما زالت تصريحاته حتى الآن موضع نقد أكثر منه تحليل، وهنا يكمن السؤال لماذا تبرز في بعض الاحيان هذه الظاهرة، التي نلمح فيها وجوها جديدة على قمة الساحة السياسية وتأخذ تلك الجماهيرية دون ان يكون لها عمق سابق في العمل العام ؟ هل هو البحث عن فكر جديد وغير تقليدي تبدو ملامحه على لسان

نبيل القروي
كلمة القضاء.. ينتظرها المرشح والناخب

المرشحين، هل هو الفكرالمعلب داخل الأحزاب، والأيدولوجيات المحفوظة، وقد آن الآوان لأعلان أفلاسها، وأنها أفرغت من محتواها، وأن الناخبين قد سئموا تكرارها، أو أجترارها، دون أي ملمح من التطبيق الجاد ؟. هل ترى جماهير الناخبين أن الخبرة السياسية أصبحت مجرد حرفة أو مهنة خسرت جماهيرها، بعد فشلها المزمن في علاج القضايا الملحة التي تسكن غالبية الناس، أو أن أصحاب الخبرة قد تمتعوا بمزايا أصبحت الآن سوطا عليهم. أم أنه التقدم التكنولوجي الذي أصبح يقدم العديد من الخدمات، لاسيما، في التواصل الأجتماعي بين فئات الشعب المختلفة مما يغني عن خدمات الأحزاب، في تقديم المرشح والتعريف به، وعلى ذلك أصبح المرشح المستقل، له استقلالية الرأي، وحرية الحركة وطرح الفكر باجتهاد متطور وجديد، ويتمتع بالمرونة المطلقة في ادارة أي حوار. ان تجربة (قيس سعيد) جديرة بالاعتبار والمتابعة، فالرجل تقدم الصفوف اعتمادا على عصاميته في الحركة، وعلى زهده في اي تعاون أو تحالف يربطه ببرامج، ليست من صنعه، أو مساندة تأتي من خارج دائرته، وهي، أسرته وطلابه ومريديه، بالأضافةالى علمه، وولائه لأحكام القانون وقواعده الدستورية، ثم شعاره السياسي الذي يشكل قاعدة حركته (الشعب يريد)، كل ذلك قد صاغ ارادة الشعب في اختياره رئيسا للبلاد، تحوطه الآمال، والكثير من التطلعات لشعب كانت له المبادرة في الثورة على الطغاة. العالم يتغير بفكره، ويتطور بآلياته، وينطلق بسرعة الزمن الى آفاق أرحب مما ألفناها، وعلينا ان نتفاعل مع هذا السباق، قبل ان تداهمنا مطرقة الأحداث.

 

 

 

العدد 98 – تشرين الثاني 2019