بَعد بريكسيت ليس ما قبله

عصام الجردي

تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باتفاق أو من دونه (Deal or no deal) هو التحدي الآن في لندن وبروكسيل معا. فبالإضافة الى أبعاده الاقتصادية ونتائجه على بريطانيا خصوصا، وعلى دول الاتحاد عموما، يكتسب الخروج على مشارف العقد الثالث من الألفية الثالثة أبعادا أخرى، تشي بتغيرات عميقة في الفكر الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي أرسته العولمة في العالم المعاصر.

في نهاية الألفية الثانية حلّق شعار  »القرية الواحدة« في العالم وسيادة العولمة على ما عداه. ورغم ما احتوى في مكوناته من اختلالات مجحفة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي على الدول الفقيرة والنامية، كان عليها في النهاية أن تلتحق بالركب مطواعة لقانون الجاذبية. كل الشعارات التي أطلقتها العولمة، والمبادئ المغرية من فتح الحدود، وحرية تنقل الأفراد، والرساميل والتجارة، وتبادل الثقافات والمعرفة بلا قيود، والتصدي لتغيرات المناخ وسواها، تخلي المكان رويدا رويدا لنزعات أخرى مغايرة تماما. لو محّصنا قليلا في ما تبقّى من العولمة، لا نجد سوى الجانب الاقتصادي والمالي في بعض أوجهه. وها هي الولايات المتحدة التي قادت قطار العولمة، وأرست منظومتها منذ عصر رونالد ريغان ونظيرته مرغريت تاتشر في بداية ثمانينات القرن الماضي، ترتد على العولمة ومبادئها في عصر الرئيس دونالد ترمب. وقد وصل به الأمر الى حدّ العودة لإحياء الحرب التجارية من جديد وتعويق حرية التجارة. ونعلم أن اقتصاد الولايات المتحدة ينتج للعالم وليس للولايات المتحدة فحسب. ها هي الحدود توصد الآن في وجه أقرب جيرانها المكسيك بجدار على نفقتها أيضا!

الفكر الشعبوي القومي المتعصّب الذي تمكن من اختراق القارة الأوروبية منذ نحو عقد، وجد مساحة واسعة في بريطانيا. وهي إحدى أعرق الديموقراطيات في العالم وأقدمها. أظهر حزب المحافظين انتهازية منقطعة النظير للدفع بـ »نعم« في استفتاء 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي. رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون الذي رعى الاستفتاء مدفوعا بعتاة من داخل حزبه، وفي مقدمهم رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون وسلفه تيريزا ماي، لم يكن مؤيدا للخروج أصلا. اضطّر الى الوفاء بوعد الاستفتاء الذي منح حزب المحافظين أكثرية نيابية ورئاسة الحكومة. سرعان ما تهيّب كاميرون الموقف وتبعات  »بريكسيت« الاقتصادية والمالية. غادر السفينة مبكرا. لحقت به ماي. ويواجه جونسون مأزق الخروج الآن بأقل الارتدادات ثمنا. وبلا اتفاق، سيكون الثمن باهظا وفقا لكل مراكز البحوث والخبراء الاقتصاديين في بريطانيا وخارجها.

لم تستوعب بريطانيا من زمان النزعة الاتحادية الأوروبية وتشريعات بروكسل فوق النزعة الوطنية والقومية. منذ اكتسابها عضوية المجموعة الإقتصادية الأوروبية في 1973، لم تتخلّ يوما عن نزوعها الوطني على حساب الإتحادية الأوروبية. الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول كان أول من أدرك هذا الأمر. فقد حال بين بريطانيا وبين عضوية المجموعة وقتذاك. واستخدم في مطلع ستينات القرن الماضي حق النقض (فيتو) في وجه رئيس الحكومة البريطانية هارولد ماكميلان مرتين لهذه الغاية قبل دخول بريطانيا المجموعة وبعدها الاتحاد الأوروبي. مع ذلك بقيت بريطانيا خارج اتفاق الاتحاد النقدي ومنطقة اليورو. تدرك بريطانيا المهجوسة بالخروج من الاتحاد بلا اتفاق جسامة النتائج. فهي أصلا دولة اتحادية. لا سكوتلندا تؤيد الخروج، ولا إيرلندا الشمالية واقليم ويلز. إسكوتلندا رضيت بمظلة الدولة القوية لتدعيم مصالحها في الاتحاد الأوروبي. لن ترضى الآن بـ »استفرادها إنكليزيا«. ومأخذها كان دائما أن حصتها من اقتصاد المملكة ضرائب ورسوما وناتجا محليا، أكبر من ثمار تجنيها من الاقتصاد البريطاني. ستغادر إيرلندا الشمالية ومكونات المملكة المتحدة الاتحاد الجمركي الأوروبي مع  »بريكسيت«. ويفترض في 2021 فترة سماح. لكن المشكلة العويصة هي احتمال انتصاب الحدود من جديد بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي. وهذه المشكلة هي التي أسهمت الى حد كبير في عرقلة اتفاق الخروج واستئخاره.

الاقتصاد البريطاني الخامس عالميا. بناتج من تريليونين و825 مليارا و208 ملايين دولار أميركي. (تقرير المصرف الدولي عن الاقتصاد العالمي 2018 صدر في أيلول 2019) ويتردد الآن أن بريطانيا باتت في المركز السادس اقتصاديا بعد فرنسا. ووفق المصدر نفسه كان الناتج المحلي الفرنسي في 2018 بواقع تريليونين و777 مليارا و535 مليون مليون دولار أميركي. وقع  »بريكسيت« من دون اتفاق، سيأتي مصحوبا بارتدادات على الاقتصاد البريطاني لا محالة. خصوصا في السنوات الأولى بعد الخروج.  »حي السيتي« في لندن أيقونة بريطانيا واقتصادها. يدير محافظ مالية وثروات بنحو 5 تريليونات دولار أميركي. وزهاء ثلاثة تريليونات العقود اليومية القابلة للتصرف. أي أكثر من الناتج المحلي البريطاني. وقد استجاب حي السيتي سلبا نتائج استفتاء حزيران/ يونيو 2016. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2017، أظهر تقرير أعدته شركة أوليفر وايمان للاستشارات خسارة حي المال مركزه في صدارة المراكز المالية العالمية لمصلحة وول ستريت. لندن كانت في صدارة التصنيف العالمي نصف السنوي للمراكز المالية الأكبر منذ عام 2007 حتى عام 2016. خلا 2014 و2015 بعد أن أزاحتها نيويورك عن المقدمة. ولحظ التقرير، احتمال خسارة القطاع المالي البريطاني 38 مليار جنيه استرليني من إيراداته لو قيّد  »بريكسيت« حرية دخول أسواق الاتحاد الأوروبي المالية. وتوقع في مثل هذه الحال، تبخرّ  قرابة 75 ألف فرصة عمل. كما ستخسر الحكومة ما يصل إلى 10 مليارات استرليني  إيرادات ضريبية.

وبينما تستعد باريس وفرنكفورت لترث حي المال، تشكك تقارير أخرى في النظرة المتشائمة حيال الاقتصاد البريطاني بعد  »بريكسيت«.  »بركسيت سينجح«، عنوان كتاب أعده مارك روش مراسل  »لوموند« الفرنسية في لندن خمسة وعشرين عاما. بنى الكاتب استنتاجاته  على نظام ضريبي جديد لسوق المال. سخيٌ بالحوافز للأجانب الموسرين. ويخص بالذكر الروس والصينيين وآخرين من الشرق الأدنى،  »الذين استثمروا في سوق عقارات« على ما يقول الكاتب. ويلمّح الى تسهيلات في التصريح عن الثروة ومصادر الأموال. بيد أن الكاتب قد يكون أسرف في توقعاته. إذ بات الإفصاح عن مصادر الأموال، والتحويلات، وعن صاحب الحقّ الاقتصادي، في مدونة حسن السلوك المالية، لاجتناب الوقوع في مصيدة غسيل الأموال وشؤون أخرى. في كل الأحوال، التجارة والمال في حي السيتي، عصب اقتصاد بريطانيا. فائدة ليبور (LIBOR) قاعدة الفوائد التجارية الأوروبية. وتعتمدها مؤسسات مالية ومصرفية خارج دول الاتحاد الأوروبي وفي عواصم مالية كثيرة في العالم. لن تعود كذلك على الأرجح بعد  »بركسيت«. قد يستغرق الأمر وقتا لفكاك اشتباك الذمم الإئتمانية بين المتعاقدين الدائنين والمدينين في دول الاتحاد الأوروبي، وخارج القارة المثقلة أعباء وتحولات.

ليس محمودا بناء توقعات  »بريكسيت« خصوصا من دون اتفاق مع بروكسل، بحجارة المال، والمعادن النفيسة، والمشتقات والسلع فحسب. إذ تقتضي الفطنة حدا أدنى، احتساب النتائج على مستوى العلاقات الانسانية والاجتماعية والثقافية بين بريطانيا ودول الاتحاد بلا استثناء. وعلى مستوى سوق العمل أيضا التي فُتحت في الحقبة الاتحادية. ولن تكون ميسورة كما في السابق  بعدها. ولا ننسى، أن بريطانيا كانت خارج اتفاق شنغن الأوروبي ونظام انتقال الآفراد بلا تأشيرة دخول. هناك أيضا أنظمة الرعاية الاجتماعية. وتعويضات نهاية الخدمة وغيرها من الشؤون. لو أضيفت الى العلاقات الاجتماعية والأسرية التي نشأت في ظل الاتحاد بين بريطانيا وبين نظرائها في المنظومة، لاحتاج الخروج من دون اتفاق الى علاجات موضعية وطويلة الأجل بعد  »بركسيت«.

ما بعد  »بريكسيت« ليس ما قبله باتفاق ومن دونه. كان العالم يعتقد أن أوروبا التي تملك خزينا من التراث الانساني والثقافي وسلم القِيم، ومن التقدم الاقتصادي ومجتمع الرفاه الاجتماعي، ستمضي قُدما لاستكمال بناء ذاتها فدرالية. يحصل العكس الآن تحت وطأة النزعات الشعبوية والانعزال. وتبدو لها أنصار وأسناد في أكثر من دولة أوروبية وعبر العالم. اتفاق لشبونة لا يقفل الباب في وجه عودة  »الأبناء الضالّين« الى كنف الاتحاد الأوروبي. لكن أبشع الخروج من بوابة الكراهية يكون، وعلى غير هدى!

 

العدد 98 – تشرين الثاني 2019