ماذا بعد صدمة إيران بمقتل قاسم سليماني ؟

د.ماجد السامرائي

كان متوقعا حصول أكثر مما حصل في العراق من تصعيد الحرب الإعلامية بين الصديقين المتحالفين الخصمين الإيراني والأمريكي من نزاع بالقنابل والصواريخ والمفخخات الى حرب شاملة قد تتوسع الى محيط المنطقة. لكن ما حصل أقل بكثير مما كان متوقعاً، فقد لجات طهران الى تعطيل حرب الوكالة مؤقتاً وأن تدخل في المواجهة المباشرة مع واشنطن على الأرض العراقية حصل ذلك خلال ساعات قليلة بعد قتل الجنرال الإيراني (قاسم سليماني) ورفيقه أبو مهدي المهندس في الثالث من يناير الماضي قرب مطار بغداد بضربة دقيقة بواسطة طائرة مسيّرة انطلقت من قاعدة »العديد« في قطر. فسليماني دوخ العراقيين والسوريين واللبنانيين وكذلك جميع متابعي نشاطاته ومخططاته ولم يكن قائداً عسكرياً بسيطاً بل هو المسؤول الأول عن كل ما ظهر على امتداد أرض العراق والشام من كوارث إنسانية وقتل وتغييب للمعارضين للنفوذ الإيراني في المنطقة. ولم تستهدفه واشنطن بالقتل إلا بعد أن شكل خطراً على جنودها ومصالحها العسكرية بالمنطقة، وفق تصريحات المسؤولين الأمريكان أنفسهم الذين حاولوا إيصال تلك الرسالة الى المسؤولين العراقيين مباشرة وضح ذلك في زيارة وزير الخارجية الأمريكي (مايك بومبيو) للعاصمة العراقية شهر أغسطس العام الماضي والذي أبلغ رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بمخاطر إيران على المصالح الأمريكية في العراق. إلا أن رئيس الوزراء العراقي وبسبب إرتباطاته العقائدية بطهران لم يكن مستقلا في قراراته، ومهادنته ومسؤوليته المباشرة عن قتل أكثر من 600 شهيد وأكثر من 22 ألف جريح من شباب الانتفاضة التي انطلقت ضد النظام السياسي القائم في الأول من أكتوبر الماضي، ولم يتجرأ على كشف واعتقال المجرمين ومحاسبتهم. لقد أهمل التحذير الأمريكي مما ساعد على تعقيد الأمور على الساحة العراقية والتي كان بالإمكان تجنب الكثير مما حصل لو توفرت الحدود الدنيا من وسائل التعبير عن مصالح العراق العليا.وحين قامت المليشيات الموالية لإيران باقتحام السفارة الأمريكية سهلت القوات الحكومية دخولها المنطقة الخضراء المحصنة أمنياً، وظهر في مسيرة اقتحام السفارة قادة من الأحزاب السياسية مثل رئيس كتلة »فتح« في البرلمان العراقي (هادي العامري) وفالح الفياض المسؤول الأمني الأول والقائد الرسمي للحشد الشعبي ونائبه أبو مهدي المهندس الذي قتل مع سليماني وقيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق الذي عاقبته وآخرين وزارة الخزانة الأمريكية حيث هدف ذلك الحضور الاستعراضي الى التعبير عن موالاة لطهران ومعاداة لواشنطن.
كان من الطبيعي لأي مسؤول وطني يضع مصالح بلده فوق مصالح الاخرين ألا يسمح بجعل العراق ساحة النزاع الإيراني الأمريكي خصوصاً في ظل إدارة الرئيس (ترامب) الذي بدا مختلفاً عن سلفه (أوباما) في سياساته الخارجية وفي الملف الإيراني بصورة خاصة فقرر الخروج من الاتفاق النووي مع إيران والبدء بسلسلة العقوبات الافتصادية التي أنهكت الاقتصاد الإيراني خلال شهور قليلة. وحين حصلت الضربة الأمريكية بقتل سليماني سارع رئيس الوزراء المستقيل (عادل عبد المهدي) للحضور الى مجلس النواب العراقي حاملاً معه خطاباً معداً أعلن فيه دعوته للبرلمان بإنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق تجاوباً مع الرغبة الإيرانية، مع علمه بأن مثل هذا القرار لا يستطيع البرلمان القيام به لأن الاتفاقية الاستراتيجية العراقية الأمريكية هي اتفاقية بين دولتين ولها شروطها القانونية المعروفة والتي تنص على إبلاغ أي طرف من الطرفين الخروج من الاتفاقية تكون سارية بعد مرور سنة واحدة، وإن البرلمان واجبه تشريع القوانين وليس إصدار قرارات. كما إن حكومة عادل عبد المهدي لا تمتلك الحق الدستوري والقانوني بإبطال أو تشريع اتفاقيات دولية. كانت ردّة فعل الرئيس الأمريكي على خطوة رئيس الوزراء قوية وخطيرة على المصالح العراقية العليا، فقد لوح (ترامب) الى أنه »سيفرض عقوبات اقتصادية صارمة على العراق« إذا ما تأكد بانحياز حكومته لإيران ومن أمثلة تلك العقوبات قطع تدفق السيولة النقدية من الدولار وخصوصا أن الدخل القومي العراقي من مبيعات النفط بأكمله هو تحت سيطرة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إضافة الى قطع العلاقات المصرفية الامريكية مع المصارف العراقية والبنك المركزي، وحضر التعامل مع الدولار ورفع الحصانة عن الأموال والأصول العراقية في الولايات المتحدة، بالإضافة الى قطع التعاون العسكري والاستخباراتي ورفع الغطاء الجوي عن العراق.
كان المحور الحقيقي للنزاع الإيراني الأمريكي داخل العراق هو النشاط الكبير والمتعدد الأغراض للمليشيات المسلحة الموالية لطهران التي تجاوزت على الدستور والقوانين العراقية بإنفلات السلاح خارج إطار الدولة، وهيمنتها على الشارع العراقي وقتلها للشباب المنتفض. ورغم الضجيج الإعلامي لما سمي بالثأر الإيراني لمقتل (سليماني) لكن الوقائع كشفت عن أن الصواريخ التي أطلقت على قاعدة (عين الأسد) لم تصب أي من الجنود الأمريكان، في إعلانات صريحة من مسؤولي الحرس الثوري الإيراني بانهم لم يريدوا استهداف الجنود الأمريكان وإنما المنشآت العسكرية، حيث كانت تلك الصواريخ عبارة عن فقاعات وهياكل لا أثر حربي لها. كما كشفت تصريحات المسؤولين الإيرانيين بأن »المهمة انتهت« في تعبير عما سمي بمهمة الحفاظ على ماء الوجه.
رغم تراجع ضجيج الحرب الأمريكية الإيرانية على الأرض العراقية لكن المخاطر لم تتراجع. فإيران لم تراجع سياساتها التوسعية وإثارة الفوضى في المنطقة وهو ما حذر منه الشعب العراقي عبر انتفاضته وكذلك جميع الدول المنشغلة بالأمن والسلام في هذه المنطقة الحساسة. كما إن طهران ما زالت متمسكة باستراتيجيتها الجاعلة من العراق مصدها الأول ورئتها التي تتنفس منها في مواجهة العقوبات الأمريكية. المخاطر مازالت قائمة ورغم الضربة القوية بقتل الجنرال قاسم سليماني لكن وريثه الجديد (إسماعيل قانآني) حاول في تصريحاته الأولى التعبير عن المبالغة في إهانة العراقيين حين وصف شعب العراق بالذليل التابع، حيث قال »أن يبقى عشرين مليون عراقي فقط بكرامة خير من اربعين مليون بلا كرامة«.
الملفات السياسية في سوريا والعراق واليمن ولبنان ما زالت بحاجة الى حلول وفق مصالح الدولتين الكبريتين (روسيا وأمريكا) ودول المنطقة (تركيا وإيران) وسيكون للنكسة الإيرانية الأخيرة في العراق انعكاسه لمحاولات فرض القوة في المنطقة لتقاسم النفوذ. إيران كشفت عن أنها دولة مارقة تستخدم وكلائها كأذرع لتنفيذ مخططات التخريب وما زالت مصرّة على هذه الاستراتيجية. قد تساعد صدمة مقتل سليماني على تسهيل دخول طهران المفاوضات مع واشنطن بشأن إتفاق نووي جديد وسط تأكيد امريكي على عدم السماح لطهران بامتلاك القنبلة النووية.
الملف العراقي هو الأهم والأكثر حساسية. فالحراك الشعبي الذي عبرت عنه انتفاضة أكتوبر قد وصل الى مرحلة الضغط العالي والمؤثر على الطبقة السياسية بعد أن أجبرت رئيس الوزراء على التنحي وتحول حكومته الى تصريف أعمال. الانتفاضة لها برنامجها الوطني الذي حاولت المليشيات قمعه بالقتل والاختطاف وفي صرف الأنظار الى فقرات التصعيد السياسي والعسكري الإيراني الأمريكي على الأرض العراقية، لكن الانتفاضة مستمرة بمطالبها تعيين رئيس وزراء جديد مستقل عن الأحزاب الفاسدة والدخول في آليات قيام حكومة مؤقتة تهيئ لانتخابات مبكرة وتعديل الدستور.

العدد 101 –شباط 2020