عودة قاعة غولبانكيان في بغداد

الفن التشكيلي العراقي عابر للتاريخ وشاهد متنوع على حاضره

بغداد جاد الحاج

 في اواخر العام المنصرم شارك أكثر من مئة وخمسين تشكيليا عراقياً في المعرض السنوي للجمعية التي تحمل اسمهم. وقد لاحظنا بأسف انخفاض عدد الفنانات المشاركات الى خمس فقط، علماً ان الرسم في صورة خاصة يتمتع بإقبال نسائي مميز في العراق منذ خمسينات القرن العشرين.

 توقف المعرض من 2003 إلى 2008 وجاءت عودته اشارة الى نموّ مستجد أو صحوة مطلوبة بعد غفلة مطولة فرضتها احداث الحقبة المنصرمة. النحات العراقي طه وهيب، عضو مجلس إدارة الجمعية اعتبر أن معرض 2019 شهد مشاركة متميزة لأسماء معروفة تنتمي إلى أساليب واتجاهات مختلفة في الرسم أو النحت أو السيراميك أو الغرافيك. لكنّ غياب المشاركة النسوية، مصدره صرامة اللجنة في اختيار الأعمال، ولذا قررت الجمعية إقامة معرض خاص للفنانات التشكيليات في اقرب وقت ممكن.

وأشار وهيب إلى أن معرض 2019 شهد إضافات فنية على صعيد تجارب الفن العراقي المعاصر وأسماء مهمة قدمت أعمالا تميزت بالتجديد مثل فاخر محمد وعاصم عبدالأمير.الا ان الواقع المتفق على طبيعته عموماً ان المشهد الفني التشكيلي المنبعث من جديد في العراق يبحث عن آفاق أوسع للانطلاق مجددا بعد ركود استمر 15 عاما منذ الغزو الأميركي تخلله إقفال قاعات عرض وهجرة فنية إلى الخارج.

 من أبرز المشاركات في هذا المعرض يسرى العبادي التي تقدم عادة أعمالا ولوحات كبيرة الحجم تتحدث تفاصيلها عن العائلة وعلاقتها بالبيئة المحيطة بها.

وضم حفل الافتتاح عرض أعمال فنية لأكثر من 50 فناناً تنوعت أعمالهم بين الرسم والنحت، ما شكل باكورة بهجة للفن التشكيلي، وعرضت الاعمال في قاعتين اضافة إلى تقديم مجسمات من الخشب تحاكي الشناشيل البغدادية او ما يسمى في بلاد الشام بـ المشربيات الخشبية المعلقة. طالما كانت الشناشيل حاضرة في المدونة الأدبية والفنية العراقية المعاصرة، بدءا من قصيدة بدر شاكر السياب  »شناشيل ابنة الجلبي« إلى أشعار عبدالرزاق عبدالواحد، واللوحات التشكيلية والأعمال النحتية الكثيرة للفنانين العراقيين.

 وترتبط الشناشيل في الذاكرة العراقية بسحر أنغام آلة المربع والمقام البغدادي، ورائحة الشاي المحلى، وعبق الماضي البغدادي الجميل. تبنى الشناشيل المزخرفة هندسيا بالرسم على الزجاج إبرازاً لواجهة الطابق الثاني بأكمله أو غرفة من غرفه على شكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام.

ويشير مدير المعارض العراقية، حسين موحي الى أن  »قاعة غولبنكيان تتضمن رواقين. الرواق الأول احتله علي كاظم الجبوري بعشرة أعمال تمثل شناشيل بغدادية منفذة بالخشب وبأحجام كبيرة، و12 عملا نحتيا. ويقام في الرواق الثاني معرض جماعي لـ61 فنانا يقدمون اعمالا تمثل ملامح بغدادية متنوعة.

ويقيم عباس العتابي معرضاً تحت عنوان  »رسائل ممنوعة« لمجمل اعماله في الرسم ضمن القاعة المخصصة لدائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة.

 شهد غولبانكيان آلاف المعارض التشكيلية المتميزة والتي أصبحت سمة بارزة في مشهد الفن العراقي المعاصر، ومنها المعارض التكريمية للفنانين الرواد، أمثال فائق حسن وعطا صبري وغيرهم، ومهرجانات الواسطي، فضلاً عن المعارض العربية والعالمية العديدة.

 وقد عرفت بغداد اكثر من اربعين قاعة للاعمال التشكيلية من بينها  »دجلة« و »اناء« و »اكد« و »مدارات« و »حوار« و »فضاء وفن« اكتسبت قبل تسعينات القرن الماضي شهرة واسعة نظرا لجمال معروضاتها وكثرة روادها.الا انها اوصدت ابوابها بعد الحظر الدولي المفروض على العراق وتردي الاوضاع الامنية والسياسية في البلاد.

 في المقابل وجد عدد من الفنانين التشكيليين العراقيين في شبكة الانترنت الملاذ الامن للتغلب على ازمة تسويق اعمالهم. ويقول الفنان والناقد التشكيلي صلاح عباس ان الفنان العراقي يواجه ازمة خطيرة قد تعصف بمستقبله المهني وتردم موهبته في الى الابد بسبب غياب قاعات العرض وقلة التسويق. ويضيف عباس:  »من الطبيعي ان يشكل غياب قاعات العرض وانحسارها احباطا لدى الفنان ما يحتم عليه التفكير جديا في قنوات اخرى لتسويق اعماله«.

اما التشكيلية تارة الصالحي فتقول إن قلة قاعات العرض في العراق وتدني الدعم المالي والمعنوي من المؤسسات الثقافية ذات العلاقة بالفن التشكيلي ساهما بشكل كبير في لجوء الفنان إلى فضاء الإنترنت لعرض أعماله. وتضيف انها تمكنت من بيع لوحة واحدة خارج العراق عن طريق الانترنت بـ300 دولار.

 في السابق ابحر الكثير من الفنانين العراقيين في جمالية الألوان ولعبة الأضواء والظلال، بداية من الفنان الراحل والمؤسس فائق حسن وحافظ الدروبي ونوري الراوي إلى أجيال مبدعة ومدارس فنية متعاقبة. وبرزت مدرسة النحت العراقية الشهيرة برموزها الكبار مثل جواد سليم ومحمد غني حكمت. وظهرت في بلاد الرافدين أبرز التجارب التشكيلية العربية، الا انها بفعل دخول البلاد في نفق الارهاب والطائفية المظلمة فقدت الكثير من بريقها ورجالاتها وأجيالها تدريجيا.

وقال الفنان التشكيلي ماجد البيضاني ‹إن الفن التشكيلي العراقي يعتبر رائدا في المنطقة، بسبب بداياته المبكرة في مطلع القرن العشرين من خلال الرواد الذين نهلوا من المدارس التشكيلية والأكاديمية في فرنسا وإيطاليا›.واعتبر البيضاني انه لا يمكن عزل الحركة التشكيلية والفنان عن الظروف الخارجية والداخلية التي أحاطت بالبلد، لأن الفنان عبارة عن نبض الوطن، يتأثر ويؤثر في البيئة، ولا يمكنه الانطواء على نفسه بالبقاء في بيته أو مشغله.

ووصف البيضاني التشكيل العراقي في الوقت الحالي بالرجل المريض، لعدم وجود قاعات عرض وجمعيات تشكيلية ترعى المواهب الفنية الشابة بالشكل الكافي وتحتضن نجوم هذا المجال.

واعتبرت الفنانة العراقية ميس الخالدي ان الفن التشكيلي تراجع في بلدها بسبب الاهمال المادي والمعنوي للفنان وغياب حرية التعبير التي تؤثر سلباً على قدراته الانتاجية، اضافة الى تدهور الوضع الأمني ما ادى الى هجرة اغلب الفنانين الى الخارج طلباً لبيئة تلائم الابداع والانتاج.

ولعل القسوة والحزن والمعاناة الضاغطة التي يعيشها العراقيون اليوم تلقي بظلالها على لوحات وتماثيل فنانيهم من اي مدرسة اتوا وأي اسلوب اتبعوا. فما تعرضه جداريات  »الغرافيتي« من شارع السعدون الى ميدان التحرير تفيض الى حد الغزارة والمبالغة بمشاهد التظاهرات والمواجهات وهبّات السخط الشعبي. وفي الشارع نفسه عمارة مهجورة من 15 طابقاً معروفة باسم ’عمارة المطعم التركي‘ تحولت في السنوات القليلة الفائتة الى  »متحف« لفناني الجداريات. وتلفعت جوانب طابقهاالاول بشراشف بيضاء تملأها الريح فترفرف بشعاراتها  »الثورية« ورسائلها الموجهة الى السلطة وقواتتها والى العالم باسره. والحق يقال ان العارف بالدور التشكيلي المعقود على تاريخ العراق من عهود الاشوريين حتى عصرنا الحاضر سوف يدرك بسهولة ان العراقيين ما زالوا يعبرون عن حاضرهم بالرسم والنحت، فتلك ابجدية التعبير الاثيرة الى نفوسهم منذ دهور.

 

العدد 103 – نيسان 2020