الغنيّ في اللغة هو المكتفي بدلالة قوله تعالى (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). فالكفاية تدل على الاستغناء والانشغال بالنفس عن الغير. ومن ذلك قول العرب (الغانية)؛ وهي المرأة التي استغنت بمنزل أبويها او بزوجها أو بجمالها أو غير ذلك. قال الشاعر:
كلانا غنيّ عن أخيه بماله
ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
والغناء هو الكفاية، فيقال (لا يغني عنا فلان) أي (لا يكفي كفايته).
وقد استعمل القرآن الغنى في معان عدة؛ منها عدم الاحتياج الى الغير، كما في قوله تعالى (وإنّ الله لهو الغنيّ الحميد). ومنها كثرة المال كما في قوله (ومن كان غنيّا فليستعفف).
وفي الاصطلاح ان الغنيّ هو الذي استغنى بما عنده عن الغير بدلالة عدم حاجته إليه. وهو ما يذهب إليه الزجاجي عندما عرف الغنيّ بأنه الذي ليس محتاج إلى غيره. وهذه الصفة لله تعالى في الأصل. قال تعالى (ان الله لغني عن العالمين).
وقد فصل ابن الأثير القول في هذا الأمر عندما قال (ان الغني الذي ليس بمحتاج الى غيره. وهذا هو الغنى المطلق ولا يشارك الله تعالى فيه غيره).
والغنى نوعان؛ غنى الأصالة وغنى النسبة؛ فغنى الأصالة لله تعالى وحده لأن غناه ذاتي. أما غنى النسبة فهو غنى بغيره، أي انه غنى لا تكامل فيه. فيظل فيه الغني محتاجا لغيره. ولذلك يقول تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد).
وعلى هذا فغنى جميع المخلوقات نسبي. لهذا لا ينبغي لأحد ان يتعالى على أحد أو يتكبر عليه لأن النسبة زائلة كونها إضافة وينبغي لمن وصف بالغنى عرفا ان يتواضع لغيره.
وعلى هذا فيكون الفقر في اللغة هو الحاجة وهو مشتق من انفقار الظهر أي انكساره؛ وكأن الفقيرمكسور الظهر من شدة الحاجة. وقد تعارف عند العلماء ان الفقير هو الذي ليس له بلغة العيش واحتجوا بقول الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
(الحلوبة هي القوت)
أما الفرق بين المسكين والفقير؛ فان الأول هو الذي يجد كمال الكفاية لكن الثاني هو أشد حاجة منه.
ومن كان عنده ما يكفيه من مال أو مسكن أو طعام فلا يقال له فقير كون الفقير والمسكين من أصناف تجب لهما الصدقة، قال تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها).
أما الفرق بين السائل والمحروم كما في قوله (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)، فيقول الزهري ان السائل الذي يسأل والمحروم المتعفف الذي لا يسأل فيحرم العطاء.
وبهذا يتضح ان الغني هو المكتفي عن حاجة غيره على عكس الفقير.
وربما هذا الاصطلاح في الفرق بين الغني والفقير يجرنا لمسألة الفروق الاجتماعية والطبقية التي ولّدتها المجتمعات المتغيرة؛ فكلما تغوّل المجتمع بحداثته زادت هذه الفروق. وكلما زادت خلقت حالات اجتماعية تحمل في طياتها الكثير من المعاناة والمآسي.
ومن بديه القول ان المجتمع العربي منذ عصر ما قبل الاسلام عرف هذه الطبقية. فكما كان هناك فقراء كان أغنياء.إلّا ان اللافت دائما ان الفقراء كثرة والأغنياء قلة. وقد يؤشر هذا كثرة ما نقل عن الشعراء الفقراء على وجه الخصوص .والجدير بالذكر أيضا ان الشعراء الاغنياء اقترن ذكرهم بالنفوذ والقوة والسلطة وهم قلة.
من أجل ذلك لم يكن أمام الشعراء الفقراء غير بثّ الشكوى ونقد الطبقية أو محاولة الثورة عليها. وهذا ما يلاحظ على أشعارهم.
ومن أشهر الشعراء الفقراء الذين ورد ذكرهم في كتب الأدب أبو الشمقمق، الذي يقول في إحدى قصائده شاكيا بؤس حاله:
بَرَزَت مِنَ المَنازِلِ والقِباب
فَلَم يَعسِر عَلى أَحَدٍ حِجابي
فَمَنزِلي الفَضاءُ وَسَقفُ بَيتي
سَماءُ اللَهِ أَو قطعِ السَحابِ
فَأَنتَ إِذا أَرَدتَ دَخَلتَ بَيتي
عَلَيَّ مُسلِماً مِن غَيرِ بابِ
لِأَنّي لَم أَجِد مصارعَ بابٍ
يَكونُ مِنَ السَحابِ إِلى التُرابِ
وَلا خِفتُ الإِباقَ عَلى عَبيدي
وَلا خِفتُ الهَلاكَ عَلى دَوابي
وَلا حاسَبتُ يَوماً قَهرَماني
مُحاسَبَةً فَأَغلَظَ في الحِسابِ
وَفي ذا راحَةٍ وَفَراغِ بالٍ
فَدَأَب الدَهر ذا أَبَداً وَدابي
وابِطُكَ قابِضِ الأَرواحِ يَرمي
بِسَهمِ المَوتِ مِن تَحتِ الثِيابِ
شَرابُكَ في السَرابِ إِذا عَطِشنا
وَخُبزُكَ عِندَ مُنقَطِعِ التُرابِ
رأيتُ الخُبز عَزَّ لِدَيكَ حَتّى
حَسِبتَ الخُبزَ في جَوِّ السَحابِ
وكأنه يصف حالته يعيش في العراء لا سقف يظله ولا باب يمنع عنه.
بل انه يذهب مندبا حظه في الحياة فأينما يوليها يجدها صعبة عوجاء فيقول:
لَو رَكبتُ البِحارَ صارَت فِجاجا
لا تَرى في مُتونِها أَمواجا
فَلَو أَنّي وَضَعتُ يا قوتَةً حَمرا
ءَ في راحَتي لَصارَت زُجاجا
وَلو أَنّي وَرَدتُ عَذباً فُراتاً
عادَ لا شَكَّ فيهِ مِلحاً أَجاجا
ولم يقتصر الأمر في شعر الفقراء على الشكوى والتذمر. فلقد ذهب البعض منهم الى الثورة على الظلم وعلى المجتمع الذي أحدث هذه الطبقية المقيتة. فتشكلت تنظيمات عرفت بـ(الشطار والعيارين).
فأما الشطار فقد عرفوا بأنهم طائفة من أهل النهب واللصوصية امتازوا بملابس خاصة وكانوا يعدون ما يفعلونه حقا مشروعا وأن ما يستولون عليه من أموال التجار الأغنياء زكاة. وقد تاب جماعة منهم عرفوا بالتوابين أصبحوا عينا للدولة في كشف جماعاتهم.
كما ظهر العيّارون في بغداد أواخر القرن الثاني الهجري حيث استنجد بهم الأمين في قتال أخيه المأمون فكان لهم شأن كبير آنذاك فتحكموا بالأسواق وفرضوا الجبايات على أصحاب المحال التجارية وذلك أواخر القرن الخامس الهجري؛ وقد عرفوا بالمتطفلين وأطلق على أشعارهم
بشعر التطفيل. ورد أنهم كانوا لا يعبأون بذوق أو عرف وقد تجردوا من الشهامة فكان دأبهم الحصول على أقواتهم بأي طريقة كانت.
يقول طفيلي يوصي ابنه إجادة صنعة التطفل:
لا تجزعن من الغريب
ولا من الرجل البعيد
وادخل كأنك طابخ
بيديك مغرفة الحديد
متدلياً فوق الطعام
تدلّي الباز الصيود
لتلف ما فوق الموائد
كلها لفّ الفهود
واطرح حياءك إنما
وجه الطفيلي من حديد
لا تلتفت نحو البقول
ولا إلى غرف الثريد
حتى إذا جاء الطعام
ضربت فيه كالشديد
وعليك بالفالوذجات
فإنها عين القصيد
هذا إذا حررتهم
ودعوتهم هل من مزيد
ولا ننسى المكدّين الذين اعتمدوا في كسبهم على الاستجداء ولو حتى بالحيلة. ومن أهم شعرائهم ساسان الفارسي. ومن أمثلة شعر الكدية مقولة ابن عبدل الكوفي في سؤال الملوك والناس:
يا أبا طلحة الجواد أغثني
بسجال من سيبك المقسوم
أحي نفسي فدتك نفسي فإني
مفلس قد علمت ذاك عديم
أو تطوّع لنا بسلف دقيق
أجره إن فعلت ذاك عظيم
قد علمتم فلا تعامس عنّي
ما قضى اللّه في طعام اليتيم
ولابد أن نذكر أن من الشعراء الأغنيا ء من كان يشعر بآلام الفقراء وحاجاتهم ويمكن أن نجد ذلك واضحا في أشعارهم ومنهم ابن الأطنابة الذي يقول:
إني من القوم الذين إذا انتدوا
بدأوا ببر الله ثم النائل
المانعين من الخنا جيرانهم
والحاشدين على طعام النازل
والخالطين غنيهم بفقيرهم
والباذلين عطاءهم للسائل
والضاربين الكبش يبرق بيضه
ضرب المهند عن حياض الناهل
والعاطفين على المصاف خيولهم
والملحقين رماحهم بالقاتل
والمدركين عدوهم بذحولهم
والنازلين لضرب كل منازل
والقائلين معا خذوا أقرانكم
إن المنية من وراء الوائل
وقد كان للشعراء المحدثين دور في نقد ظاهرة الطبقية هذه وما خلفته من سلبيات مجتمعية.
ومنهم أحمد شوقي الذي ذم تزويج بنات الفقراء الصغار للمسنين الأغنياء حيث قال:
المال حلّل كلّ غير محلّل
حتى زواج الشيب بالأبكار
سحر القلوب فرب أم قلبها
من سحره حجر من الأحجار
دفعت بنيتها لأشأم مضجع
ورمت بها في غربة وإسار
ما زوجت تلك الفتاة وإنما
بيع الصبا والحسن بالدينار
ولم يكتف الشاعر إيليا أبو ماضي بذلك، فقد هاجم الأغنياء الذين لم يعبأوا بآلام المساكين والفقراء والضعفاء فقال:
كُلوا وَاِشرَبوا أَيُّها الأَغنِياءُ
وَإِن مَلَأَ السِكَكَ الجائِعون
وَلا تَلبِسوا الخِزَّ إِلّا جَديداً
وَإِن لَبِسَ الخِرَقَ البائِسون
وَحوطوا قُصورَكُم بِالرِجالِ
وَحوطوا رِجالَكُم بِالحصون
فَلا تُبصِرونَ ضَحايا الطَوى
وَلا يُبصِرونَ الَّذي تَصنَعون
وَإِن ساءَكُم أَنَّهُم في الوُجودِ
وَأَزعَجَكُم أَنَّهُم يُعوِلون
مُروا فَتَصولُ الجُنودُ عَلَيهِم
تُعَلِّمهُم كَيفَ فَتكُ المَنون
فَهُم مُعتَدونَ وَهُم مُجرِمونَ
وَهُم مُقلِقونَ وَهُم ثائرون
وَتِلكَ العِصِيُّ لِتِلكَ الرُؤوسِ
وَتِلكَ الحِرابُ لِتِلكَ البُطون
لقد دأب الشعراء القدامى والمحدثون في أشعارهم على محاولة إيصال أصوات الشعراء ومعاناتهم الى الأغنياء والمتنفذين على أمل ان يشعروا بهم.
ولعمري قد أجاد أبو المخفف عاذر بن شاكر رسم صورة هذه المعاناة عندما وصف الرغيف في شعره قائلا:
دَع عَنكَ رَسمَ الدِيارِ
وَدَع صِفاتِ القِفارِ
وَعَدِّ عَن ذِكرِ قَومٍ
قَد أَكثَروا في العُقارِ
وَدَع صِفاتِ الزَناني
رِ في خُصورِ العَذاري
وَصِف رَغيفاً سَرِيّا
حَكَتهُ شَمسُ النَهارِ
أَو صورَةُ البَدرِ لَمّا
استَتَمَّ في الاِستِدارِ
غير ان الشاعر أحمد الوائلي الذي يرسم صورة الغنى والفقر في قصيدته التي فازت بمهرجان المربد بسبعينات القرن الماضي يؤكد أن هذه الطبقية التي ولّدتها الظروف الاقتصادية والسياسية لا يمكن لها أن تستمر، فقد أوجدت هوة مجتمعية لا يمكن لها أن تسد، فيصف الاغنياء المترعين من الشبع والامتلاء الى جانب الفقراء المعوزين، حيث يقول:
بغداد يومك لا يزال كأمسه
صور على طرفي نقيض تجمع
يطغى النعيم بجانب وبجانبٍ
يطغى الشقيّ مرفّه ومضيّع
في القصر أغنية على شفة الهوى
والكوخ دمع في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع
وبجنب زق أبي نؤاس صرّع
ويد تكبل وهي مما يفتدى
ويد تقبل وهي مما يقطع
وبراءة بيد الطغاة مهانة
ودناءة بيد المبرر تصنع
ومن أجمل ما أختم به قصيدة الياس أبو شبكة التي يمكن أن تختصر الموضوع برمته حيث يصف الفقر بالظلم وهو جلّ ما أردت أن أقوله خلال السطور السابقة والتي يجب أن نثور عليه لأن الفقر في حقيقته يعني الظلم وتجب الثورة عليه حيث يقول:
شَبحَ الدموع تَمضّك الأَتراحُ
هَوِّن عَلَيكَ فَكُلُّنا أَشباحُ
ماذا تؤملُ من رَحيقٍ فاسِدٍ
قَد زَخرَفت أَلوانَهُ الأَقداحُ
هذا الوجودُ جنينةٌ مرغوبَةٌ
قَد غَرَّ فيها آدمَ التُفّاحُ
هذا الوُجودُ مشانِقٌ نُصِبَت لَنا
وَالظُلمُ في ساحاتِها السَفّاحُ
أَوَ ما تَرى الفَلّاحَ بَعدَ جهادِهِ
يَلقى الشقاءَ لِأَنَّهُ فَلّاحُ
فَكَأَنَّ إِكرامَ الفَقيرِ مُحَرَّمٌ
وَكَأَنَّ إِكرامَ الغَنِيِّ مُباحُ
تِلكَ الجُفونُ وَقد ذَرَفَت دُموعَها
أَيَرودُ خلف سجوفِها الإِصلاحُ
إِن كانَ ذرفُ الدَمع يُصلِحُ أُمَّةً
فَمَدامِعٌ في أُمَّتي وَنُواحُ
في دَمعَةِ التُعَساءِ سِرٌّ كامِنٌ
هُوَ خَلفَ لَيلِ الظالِمينَ صباحُ
تِلكَ المَباني سَوفَ تَهدِمُ ركنها
من عاصِفاتِ حَياتِنا الأَرواحُ
أَذرِ الدُموعَ فَما الدُموعُ سِوى نَدى
هذي الحَياة وَعرفُه فَيّاحُ
ما الدَمعُ إِلا الراح في كَاسِ الوَرى
وَسَتُسكِر الأَكوانَ هذي الراحُ
يا مَن طَلى بِدَمِ الفَقيرِ عُروشَه
وَنَراهُ يَجلِسُ فَوقَها يَرتاحُ
هذي العُروضُ جَماجِمٌ مَرصوفَةٌ
في جَوفِها تَتَمَرَّدُ الأَرواحُ.