أيام في سراييفو  2من 2

أعود إلى سراييفو فأراها قد تغيرت. غيرها رحيل تيتو وتفكك الإتحاد السوفياتي القديم، وغيرتها الحرب. هذا ما يقوله ساكنوها، لكنها تبدو رغم كل ما شهدته من مآس، واحدة من أجمل مدن أوروبا والعالم. تكفيها الحدائق والأنهار والجسور والمتاحف والكنائس البديعة، والحي القديم بمدارسه ومساجده العثمانية القديمة، والأبنية التاريخية التي تعود إلى عهود حكم إمبراطورية النمسا – المجر، المشغولة بهندسة دقيقة رائعة. كانت حقبة حكم أسرة “هابسبورغ ” في نظر الكثيرين وبالا على بلاد الصرب والبوسنة والهرسك، لكنها تركت من فن العمارة، أجمل ما يمكن أن تتفتق عنه حضارة العمران الأوروبية.                                                                                –

أتساءل، وأحسبك تتساءل معي أيها القارئ الكريم، ما إذا كانت البوسنة والهرسك قد شفت مما أصابها من جنون طغاة الأمس، أو ما إذا كان الجمر لا يزال تحت الرماد؟ حين يتجول المرء في سراييفو، يرى جيلاُ جديداُ غيرته العولمة، وجبلته بثقافة متجانسة يصعب معها أن يعرف المرء من هو الصربي أو الكرواتي أو البوشناقي. سنحت لي فرصة أن أجالس في أحد المقاهي، مجموعة شبان وصبايا، من أصول عرقية مختلفة، فرايت وجوها ملؤها الأمل والرجاء، وأجد أن إحدى الفتيات، وكانت بوشناقيه “مسلمة” خطيبها صربي، وأن شاباً “بشناقي” صديقته “كرواتية”، ثم عرفت أن هذه الحالة تتوسع في هذه المدينة التي عانت الكثير من الظلم والقهر والموت العبثي وجنون العصبيات العرقية. يبقى أن ما صح في سراييفو بحكم اتفاق “دايتون” الذي رعته الولايات المتحدة، وأنهى الحرب الدموية فيها، لم يصح بعد في الأقاليم والقرى والدساكر، وهذه لا تزال، رغم مرور سنوات طويلة على ذلك الاتفاق، منفصلة عن بعضها عرقيا ونفسياً، خصوصا بين كبار السن، الذين يجدون صعوبة في التحرر من أثقال الماضي وتبعاته وآلامه. 

وكما طبيعة لبنان الجميلة، تخفف ما يعانيه اللبنانيون من غلواء العصبيات الدينية والسياسية في بلدهم، كذلك الأمر في هذه البلاد الساحرة التي تفترش الغابات الجزء الأكبر من اراضيها. كان الطقس ربيعا والشمس قد جففت ميازيب السماء، فانعكس ضوؤها على النهر والشجر والجسور، فبدا كل شيء مثل لوحة رومانسية تقليدية عتيقة من أعمال فنان كبير. إنها جسور سراييفو التي طالما سمع بها الناس وشاهدوها في الصور، وكانت على مر الزمن، مبعث القصص والقصائد، وملاحم البطولة، وألحان الحزن التي رددت صداها عبر مئات السنين، جبال واودية البوسنة والهرسك، وسهول البلقان وسهوبه.                                                             

“أنت الجحيم والنعيم والعشق والموت يا سراييفو، الطليقة المأسورة والمنذورة لمداد لا ينضب ودم لا يلين”. هكذا يناديها أحد الشعراء. أما البوسنيون الذين لم يعرفوا الفرح في ديارهم، كما عرفوه زمن المارشال تيتو فيقولون في أمثالهم: ” الفرح العالي الصوت ينتهي غالبا بالدموع”! ربما أن سحر البوسنة والهرسك، وهي من أجمل الدول الست التي كانت تؤلف يوغوسلافيا القديمة قد أسال لعاب الغزاة والأباطرة والسلاطين، فكبدوها من الدم ضرائب لم يدفعها أي بلد آخر في الإتحاد الذي صنعه تيتو من العدم، وسماه “يوغوسلافيا”، أي شعوب الجنوب السلافية، كما تعني “يوغوسلافيا” في اللغة الصربية.                                                                     –

لا بد أن المخاوف من التجزئة، وتعدد الولاءات العرقية والقومية، كانت تساور تيتو أثناء حكمه تلك البلاد العصية، لذلك كان يقول مداعباً، بأنه أول يوغوسلافي في حياته، وسيكون آخر يوغوسلافي بعد رحيله! ويبدو أن دعابة المارشال العتيق، المولود في كرواتيا، قد تحولت على يد الجنرالات الصرب في بلغراد إلى فعل جدي، قوًض دعائم الإتحاد اليوغوسلافي، فتهاوت أجزاؤه، كما تتهاوى أوراق الخريف أمام الريح العاتية.

لقد تغيرت سراييفو. غيرها غياب تيتو ورحيل الإتحاد السوفياتي القديم، وغيرتها الحرب. هذا ما يقوله ساكنوها، لكنها ما زالت تحتفظ برونقها القديم. بقي من الحق أن أسأل نفسي السؤال الذي لا بد انه يتبادر إلى ذهنك أيها القارئ الكريم: هل انتهت الحرب في البوسنة والهرسك؟ كان الرد على هذا السؤال سهلاً قبل أن يضع الدب الروسي أقدامه في أوكرانيا، ويتحداه النسر الأميركي ومعه حلفاؤه الأوروبيون. مهما يكن، تبقى الحرب العالمية الثالثة احتمال وارد، لأن العالم سيبقى دائما عالم قتلة وأفاكين وأشرار، كما قال فاغنر.                    –

على إحدى ضفاف النهر في سراييفو، يرتفع بيت اسمه “بيت العناد”، حوله تدور قصة طريفة يتداولها البوسنيون، وفحواها أن مكان البيت الأصلي، ليس الموقع الذي هو عليه الآن، بل خلف المكتبة الوطنية على الضفة الأخرى من النهر. في أحد الأيام، يقرر المجلس البلدي أن يشق طريقا، وما كان ذلك ممكناً إلا بهدم البيت، لكن صاحبهامتنع وعاند، فبينه وبين بيته وشائج عاطفية لم يرد أن تنقطع، وأصر على موقفه، فما كان من المجلس البلدي إلا أن أذعن، وقبل الطرفان آخر الأمر بتسوية قضت بأن ينقل البيت من مكانه القديم، إلى مكانه الحالي، بعد أن فكت أجزاؤه، واعيد جمعها من دون أي تبديل في الشكل أو في الأثاث.                                                               –

ربما تكون قصة “بيت العناد” هذه، أمثولة يمكن المرء أن يستلهمها للرد على ذلك السؤال الخطير حول مستقبل البلاد، ومصير كل مجموعة عرقية فيها. هي قصة شعب “عنيد” أو شعوب “‘عنيدة” شغلت الدول والإمبراطوريات والممالك بمشاكلها، وأدى تدخل الدول في شؤونها إلى حرب عالمية، أودت بحياة الملايين من البشر. شعوب عانت المحن والخطوب والحروب، وما زالت إلى اليوم تعيش حياتها في حذر، وتخشى مستقبل مجهول، كمن يمضي العمر وفي عينه غشاوة. كل منها يعاند الانكسار، ويريد الحفاظ على الأرض والهوية، مهما كانت التضحيات وكانت الأثمان.