ابتسام

يولد الطفل و تولد معه المقدرة على الابتسام، و ما اكبر فرحة الأم و دهشتها عندما يباغتها وليدها الصغير بابتسامة تبث السعادة و الدفء في قلبها لدرجة انها قد لا تأخذ بنظر الاعتبار الرأي القائل ان ابتسامة الطفل حديث الولادة ليست اكثر من حركة لا ارادية. تذكر بعض الدراسات ان الطفل يبتسم عشرات المرات في اليوم الواحد، بما يزيد عن مائتي ابتسامة، و يتناقص ذلك العدد، او ذلك الشعور بالبهجة، كلما تقدم الانسان بالعمر حيث تذكر بعض المصادر ان المرأة تبتسم بمعدل اثنين و ستين مرة في اليوم بينما يقل ذلك العدد كثيرا عند الرجل حيث يبتسم بمعدل ثمان مرات باليوم، و هذا افضل بكثير من اولئك الذين لا تعرف الابتسامة طريقها الى وجوههم.

لا تعبر الابتسامة دوما عن مشاعر البهجة والراحة او ما يماثلها من المشاعر الايجابية، فقد رصدت الدراسات تسعة عشر نوعا من الابتسام ستة منها فقط ايجابية، اما الباقيات فغالبا ما يكن تعبير عن مشاعر بعيدة عن الراحة او البهجة و السعادة، كمشاعر الالم او الغضب او الندم على سبيل المثال، يبتسم البعض في المواقف المحرجة، او عند الكذب او حتى عند الخسارة. تتولد الابتسامة الحقيقية بسبب مشاعر ايجابية مثل الارتياح و الرضا في الوقت الذي لا تكون فيه الابتسامات الاخرى، و التي تشكل الاغلبية، اكثر من اقنعة لتغطية مشاعر سلبية، فقد يحاول الشخص من خلال ابتسامة خبيثة اخفاء نيته مثلا في ايذاء المقابل، او ايهامهم بأفضليته او تفوقه عليهم. و لا ننسى طبعا ابتسامات المجاملة و التي في الغالب لا تكون اكثر من تعبير مرسوم على الوجه و الذي قد لا تكون له اي علاقة بما في داخل الانسان من مشاعر اتجاه الشخص المستهدف بالابتسامة، مثل تلك التي يستقبل بها البائع اي زبون في محل عمله و التي غالبا ما تصاحب محاولات البائع في اقناع الزبون بالشراء.

قد نشعر بالقلق و ربما الخوف ازاء كلمة او فكرة العدوى، خصوصا بعد جائحة الفايروس التي عصفت بالعالم مؤخرا، لكن للعدوى ايضا حالات ايجابية، اذ توصف الابتسامة بانها مُعدية، ينتقل تأثيرها من شخص لآخر حتى بدون كلام احيانا. يشرق الوجه بالابتسامة الصادقة و تبدو عليه بوضوح تعابير الارتياح او المحبة فيمتد تأثيرها الى المقابل و تنتقل عدواها اليه.

تشير الكثير من الدراسات الى فوائد الابتسام العديدة، فبالاضافة الى ان الابتسامة تضفي طابعا محببا على سحنة الشخص و تجعله يبدو اكثر كياسة و تهذيبا، فانها وفقا لتلك الدراسات تساعد على رفع معدل انتاجيته في العمل و تحقيق ارباح مادية اكثر!

للابتسام فوائد صحية كثيرة منها تقليل ارتفاع ضغط الدم، ذلك الداء الذي يودي بحياة الكثيرين سنويا، و تقلل من تسارع ضربات القلب. كما ان الابتسامة تخفف من حدة التوتر العصبي و تزيد من درجة تحمل الشخص للضغوط المختلفة و تعزز الجهاز المناعي لديه. لا شك ان تلك الدراسات اجريت في مجتمعات يتمتع بها الانسان بمقومات الحياة الطبيعية، اذ نلاحظ ميل الكثير من الناس في بلادنا الى تبادل الطرائف و النكات و الاحاديث المضحكة التي لا تخلو في الغالب من مرارة، نحن في الغالب نضحك من شدة البلاء عندما يعجز بكاؤنا عن التعبير.

لعل من اشهر الابتسامات في زماننا الحاضر هي تلك الايقونة التي تمثل وجها باسما بلون اصفر زاه، و التي يتبادلها الناس في رسائلهم و محادثاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي و بمختلف اللغات. اكتشفتُ حديثا ان تلك الدائرة الصفراء الباسمة ليست حديثة العهد كما هو حال الفيسبوك مثلا حيث يتم فيه تداولها بكثرة، بل ان عمرها اكثر من نصف قرن من الزمان!

تم دمج شركتين من شركات التأمين الاميركية عام ١٩٦٣، فأدى ذلك التغيير في محيط و ظروف العمل الى خفض الروح المعنوية للعاملين فيها، مما دفع بعض مسؤولي الشركة الجديدة الى التفكير بما يحسن الحالة المعنوية للعاملين و يؤجج الحماس الى العمل و الذي بدأ يذوي لدى الكثيرين من موظفي الشركة. كانت النتيجة استحداث (حملة صداقة) و ظهرت الحاجة الى رمز يمثل تلك الحملة. طلبت الشركة من هارفي بول، الذي كان رساما و صاحب شركة اعلانات آنذاك، ان يبتكر رمزا جذابا يليق بتلك الحملة. لم يستغرق الامر كثيرا من الوقت حيث قام هارفي برسم دائرة على خلفية صفراء زاهية اللون و رسم فيها قوساً مقعراً للتعبير عن الابتسامة، و لكنه فطن الى ان تلك الابتسامة قد تبدو عبوساً لو تم النظر الى الدائرة من الطرف الاخر، لذلك اضاف اليها دائرتين صغيرتين سوداوين كتعبير مختصر عن العينين و هكذا ظهر الوجه الباسم الى الوجود اول مرة و خلال اقل من عشر دقائق.

لم يسجل هارفي بول ملكية الوجه الباسم باسمه، بل تركه متاحاً للجميع املاً في نشر الابتسامة على اوسع نطاق، و لكن العالم لا يخلو ابدا من الطامعين و الانتهازيين، فتحول ذلك الوجه الجميل الى سلعة كان الهدف الاوحد من وراء المتاجرة بها كسب الارباح الطائلة. لم يندم هارفي على عدم تسجيل الملكية ذاك و لكنه حاول ان يحيي الهدف النبيل الذي ابتكر تلك الابتسامة من اجله، فشرع في عام ١٩٩٩ بتأسيس جمعية خيرية ترعى مختلف شؤون الاطفال، يحمل شعارها ذلك الوجه الباسم، كما عين يوم الجمعة الاولى من الشهر العاشر من كل سنة يوما عالميا للابتسامة. كان يقول اننا نستطيع تغيير العالم نحو الافضل بابتسامة تلو الاخرى.

اثبت الباحثون ان للابتسامة المفتعلة تأثير ايجابي يماثل ذلك الذي تخلقه الابتسامة الحقيقية، فكما ان الابتسامة تنتقل من شخص لآخر بما يشبه العدوى، فان تحريك عضلات الوجه لاتخاذ شكل الابتسامة يؤدي بالنتيجة الى ان تصبح تلك الابتسامة حقيقية، او هكذا يقول العلماء و الباحثون! في حال تعذر وجود مسببات الابتسام، ربما علينا ان نبتسم لانفسنا و نحن ننظر الى المرآة لتحقيق عدوى ابتسامة ذاتية، و ذلك اضعف الايمان. تذكر الدراسات ايضا ان تخيل مواقف سعيدة يجعل الدماغ سعيدا و يحفزه على ارسال اشارات الى العضلات التي تتشارك فيما بينها لرسم تعبير الابتسامة على الوجه.

ان تعذرت مسببات الابتسام فعلينا مصاحبة اصحاب الوجوه الباسمة، و قد سبق و ان قالها الشاعر ايليا ابو ماضي في احدى قصائده:

قال الليالي جَرَّعتني علقما

قُلتُ ابتسم و لئن جَرَعتَ العلقما

فلعل غيرك إن رآكَ مُرَنَّما

طرح الكآبةَ جانباً و تَرَنّما…