ابن باجة : فيلسوف خارج سياق عصره

مات مسموماً في منتصف الطريق إلى  المعرفة

يقول إبن طفيل عن ابن باجة :” لم يكن فيهم  أثقبُ ذهناً ، ولا أصحً نظراً ، ولا أصدقُ رؤية من أبي بكر بن الصائغ ” بن باجة” غير أنّه شغلته الدنيا حتى وافته المنيّة قبل ظهور خزائن علمه وبث خفايا حكمته ، إذ أن معظم مؤلفاته غير مُكتملة ومجزومة في أواخرها وتحديداً كتابه في النفس وتدبير المتوحد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة”، وقد صرّح ابن باجة هو نفسه بذلك .

لقد تأثر الكثير من الفلاسفة العرب والأوروبيين بفكر ابن باجة ، ومن بينهم ابن طفيل وابن رشد وموسى بن ميمون ، الفيلسوف اليهوديّ الذي اتفق معه في مسألة الفضائل الأخلاقية ، وقد تأثر بفلسفته أيضاً  كل من إكهارت وسبينوزا الذي نجد في كتابه ” علم الأخلاق” نقاط التقاء كثيرة معه.

اهتم ابن باجة بالعلوم السياسية والفلك والموسيقى والموشحات والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية ، واشتُهر بتأسيس الفلسفة على أسس علمية ورياضية وطبيعية .

فمن هو الفيلسوف ابن باجة ، ولماذا مات  مسموماً بعد أن ذاع صيته في عصره ؟

وُلد الفيلسوف الأندلسيّ أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبيّ ، المعروف بابن باجة في مدينة سرقسطة شمال شرقي الأندلس ، وفي هذه المدينة درس علوم الإنسان النقلية والعقلية وعلوم العربية على كبار شيوخها ، وكان مُلماً باثني عشر علماً مثل الرياضيات والفلك والطب وغيرها ، ولعلّ أكثر ما اشتهر فيه هو الفلسفة ، رغم امتهانه للطب بعد ارتحاله إلى بلنسية ثم إلى شاطبة ، وذلك  بعد هزيمة المرابطون في سرقسطة حيث  كان يحظى بتقديرهم وكانوا قد عيّنوه  كاتباً ووزيراً لديهم  فيما بعد.

بعد ذلك تقرب ابن باجة من الحضرة المرابطية في بلاد المغرب بعد سنوات من التنقل والتّرحال فاستطاع تدوين فلسفته في عدد من المؤلفات المهمة على رأسها كتابه الأشهر ” تدبير المتوحد”.

فما هي فلسفته الخاصة ، وما هي تصوراته عن الإنسان وهل هو ملحد  كما شاع عنه ليموت مسوماً في منتصف الطريق إلى المعرفة؟

بُعتبر الفيلسوف ابن باجة بأنّه أبو العقلانية العربية الإسلامية ، هو الذي لم يستنسخ علومه من المشارقة ، بل اتخذ موقفاً مُغايراً من خلال العقل والحُجة والبراهين . وقد أدان الأخير سبل المتصوفة وقد انطلقت أفكاره من مهازل اللهو والهزل إلى منازل الجدّ والجِدّة لتكون الفلسفة وعلومها غايته وهُويته الأبدية.

حتى قال عنه الفتح بن خاقان :” عطّل بالبرهان التقليد ، وحقق بعد عدمه الاختراع والتّوليد” .

ولم يغفل ابن باجة ما للعلم من قيمة وفلسفة ، واللذة المرافقة  لهما وهي لذة اليقين أي عندما يصل المرء إلى إدراك المعاني الصائبة أو الحقائق ، ويصل من خلالها إلى روح الكون والخالق.

هو الذي استطاع وضع تصوّر من عدّة مستويات حول مكانة الإنسان البهيميّ الذي يقوده هواه وتُسيطر عليه انفعالاته وحوائجه ، ثم يأتي في درجة أعلى الإنسان الذي يُفكر تفكيرا نظرياً ، على أن أعلاهم شأناً ، ذلك الذي يتحقق لديه العقل في أكمل صورة فيُدرك الأشياء عن طريق الحدس أي من أعماقه وداخله ، بعد معاناة وتدرج وتدريب.

واعتبر من جهته أن اللذة العقلية تُشبه اللذة الحسّية على نحوٍ ما ، فكما أن اللذة الحسية كمال للجسم ، كذلك فإن اللذة العقلية كمال للنفس ، لكن اللذة الحسبة قد تعود على الجسم بالضرر ، في حين أن اللذة العقلية لا يمكن أن تورث ضرراً على الإنسان .

والباحث لا يبحث عن هذه اللذة بل هي تحدث عرضاً من وجهة نظره. ومن هنا تبرز عبارته الشهيرة :”اكبرُ أصناف الملذّات تُفيدُ شيئاً آخر غير اللذّة”.

ويقول في هذا السّياق: ” فمن طلب العلم للذة ، كمن يطلب من الأكل والشرب و الالتذاذ بما لا يصح به جسمه ” . لذلك فإن العلم الحقيقيّ عند ابن باجة هو الذي يُحقق السعادة الكبرى في السكينة والفرح والبهجة التي يشعر بها الإنسان الكامل حين يُدرك جوهره الحقيقيّ”.

إن غاية الإنسان بحسب فلسفته تكمن في  قدرته على الانتقال والتغيير من حال إلى آخر وأصناف الغايات عنده كثيرة ، ومنها العبادة المُتمثلة برضا الخالق ، ومنها الجاه وما يلحق به من التزيّن والتلذذ ، ومنها النظر العقليّ الذي ينتهي بالاتصال بالعقل الفعّال. والغاية التي يجب أن يسعى إليها الإنسان هي الابتعاد عن المادة والاقتراب من الكمال الإلهي ، والذي لا يُدرك الّا بمعونة إلهية ، لذا بعث الله الأنبياء والرسل تتميماً للعلم الناقص عند الإنسان .

من هنا يبدو لنا جليّاً أن فلسفة ابن باجة تقوم على العقل ، كفعل منكب على الحكمة والإنسان والكون بدل الشريعة .

قصد ابن باجة المغرب وتحديداً الحضرة المرابطية ، حيث دون معالم فلسفته وآرائه الميتافيزيقية والايكولوجية وقضايا النفس الإنسانية ومضامين فلسفته السياسية ، خاصة بعد اعتباره أن  الفلاسفة فشلوا في مسعاهم التفلسفيّ لصالح السياسيّ والإيديولوجيّ . وقد تناول الاتجاهات العلمية على أمل الاعتراف بشرعية التفلسف والتحرر الفكريّ المبدع ، وذلك بهدف انتقال الفلسفة إلى فضاء آخر بحثاً عن الاعتراف والحرية ، بعيداً عن الرقابة والمساءلة .

الحسين بن إمام وفي معرض وصفه لابن باجة يتحدث قائلا :” ويُشبه أنّه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم . فإنّك إذا قارنتَ أقاويله فيها بأقوال ابن سينا والفارابي، وهما اللذان فتح الله عليهما بعد أبي نصر في المشرق في فهم تلك العلوم ودوّنا فيها ، أن له الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو”.

هو الذي بنى فلسفة خاصة بالإنسان ميّزه فيها عن سائر الكائنات الأخرى ، مُعتبراً أن كل حيّ يُشارك الجماد في أمورٍ والحيوان في أمور أخرى ، أمّا الإنسان فيتميّز عن الحيوان غير الناطق والجماد والنبات بالقوة الفكرية ولا يكون إنساناً إلّا بها .

كانت العلوم الرياضية والطبيعية حجر الأساس في فلسفته للوصول إلى العلوم الإلهية والحكمة والإيمان بالموجودات من خلال اللذة العقلية التي لا يعرفها سوى القادر على فهم الكائنات والأشياء المحيطة به ونظام الكون .

لقد واجهت الفيلسوف ابن باجة الدسائس والمؤامرات والمكائد وتأليب الجماهير عليه ، وخاصة من قبل فقهاء المالكية . وقد مات ابن باجة على الأرجح مسموماً بعد أن خلف وراءه سبعة وعشرين مؤلفاً ، لا تزال معتمدة في دراسة العلوم الفلسفية حتى عصرنا هذا .

ابن باجة الفيلسوف الذي تفنن في صناعة الموسيقى والعزف وكتابة الشّعر ، الفيلسوف الذي نظّر للسعادة الحقيقية وإدراك الله من خلال العلم والحكمة واليقين .مات مسوماً  في منتصف الطريق بين الأرض والسماء وإدراك الماورائيات الكامنة خلف العقل ، التجربة الحقيقية التي يُعول عليها لفهم الحياة وفهم الإنسان من خلال التجارب العقلية ، هو الذي يؤكد بأن ” العلم مقرّب من الله ، والجهل مُبعدٌ عنه ” .

 ولعل رسالة ” تدبير المتوحد” والمقصود فيه الفيلسوف أو الناظر يرى أن المدينة الفاضلة تقوم على الأخلاق والفضيلة والسعادة ، وأن غاية الكمال عند الإنسان هي العلم نفسه واكتشاف أفكار غير مسبوقة للشعور باللذة القصوى المترتبة عن هذا الأمر .

ولعلّ أجمل أقوال الأندلسيّ ابن باجة :” كلّ مَن يُؤثر جسمانيّته على شيء من روحانيته فليس يمكن أن يدرك الغاية القصوى. وإذن فلا جسمانيّ واحد سعيد، وكل سعيد فهو روحانيّ صرف”.