الإنحطاطيين والمسبّحين الجدد

برفسور نسيم الخوري

أو كتابة الأطروحات بأقلام لا تحوقها أصابع ما نسمّيه »أساتذة الجامعات«. ضع العديد منهم يا قلمي بين قوسين ولا تستهاب أو تتردّد.

يبدو عنوان المقال للوهلة الأولى قريباً وملموساً ودسماً وفضفاضاً وشديد الخطورة على مستقبل الأوطان والأمم، لكنّ المقاربات والعناوين الفرعية التي يفترضها تبدو أشدّ بؤساً وأكثر خطورة تراها مبعثرة أو غير متناسقة على الإطلاق في المناهج والوسائل والأهداف. يقع العنوان والعناوين المماثلة حاملة الأسئلة والأفكار فريسة الشعارات وردود الفعل السريعة التي تحتلّ عقول العديد من الجامعيين التي لا مجال لها كبيراُ لا في عقل الغرب ولا في عقل كبار العرب في الشرق والغرب.

لماذا أكتب العرب والمسلمين بصيغة الجمع والغرب بصيغة المفرد ؟

لأنّ الواقع يرشدنا إلى تشتّت العرب والمسلمين التاريخي. لم يتخلّصوا حتّى في الكتابة من التفريق الملح بين العرب والمسلمين مقابل خروج الغرب المعاصر من تشتته وتنافسه وإنقضاضه على العرب بعقل ومزاج واحد هو الخوف يجمعهم من العرب والإسلام والمسلمين. ألم تشارف وحدة أوروبا والمسيحية معها والعرب بأبحاثهم وأطروحاتهم ومستقبلهم من الغرق في مياه المتوسط مع المتدفقين المسلمين بقوراب المطّاط نحو الغرب؟

عنوان أطروحة موضوعية للعقد المقبل لربّما تصحو الجامعات بشاغليها فنرتقي.

لا يخطب الجامعيون إلاّ فوق منابر أحرامهم الجامعية، وبالكاد مرّة في العام عندما يدفعون إلى مجتمعاتهم بمتخرجين من العقول المتوثّبة الشابة بهدف التطوير والتحضر الوطني ليلحق السياسيون وأصحاب القرار بنصوصهم يفككونها ويحاولوا فهم معانيها وفلسفتها ليطبقونها في تصويب إستراتيجيات البناء الوطني.

أين نحن من هذا لو بدأنا بلبنان وأتبعناه بالعديد من سبحة البلاد العربية التي تخرّج حاملي المسابح وأصحاب الذقون الواقفين على أبواب…..ما لست متورطاُ في أوصافهم الجميلة التي يتناقلها الناس في السر والعلن.

قبّعة العصر، إذن، هذا الخوف من صحوة الأديان التي يساهم الغرب والعرب في صنعها وتعميمها والإقتداء والإحتماء بها. يقودني الأمر إلى الخروج المقصود فوراً من الخرائب للكشف عن وجوه الجامعات اللبنانية العربية والإسلامية وظاهرة تنقيب الباحثين العرب عن الشقوق العتيقة بين المسلمين وتنظيفها وإنارتها وإظهارها مساحات وطريقاً نتخيّله يخرجنا من الغرب ويحمينا بالعودة إلى القديم الديني. تتجدّد الكتابات الجامعية البائدة التي كنّا خلناها قد زالت، لكنها تبعث أمامنا متكررة ومستهلكة تحرّر بالمعاول لا بالأقلام أطروحات ماستر)إنظر التسمية( ودكتوراه يشرف عليها مجموعات من الأساتذة حملة شهادات الcopy/paste حيث لا منشورات أو أبحاث ولا مستويات فكرية أو تجارب إبتكار وكشف يخربّون حاضر التعليم العالي ومستقبله الذي يستحيل ضبطه في عصر يغرق فيه الكثيرون في لجج الطائفية والحقد والكيدية السياسية والطائفية البغيضة.

نعم، عادت الدراسات الإسلامية في عصر التكنولوجيا التي يسبح فيها الجميع تجتاح ميادين العلوم الإنسانية وحتّى العلوم المحضة. غابت الفلسفة وفقدت هويتها العقلية في تراث الخصومة التاريخية مع المعارف الإسلامية ونشهد مناقشات الأحرام الجامعية تستعجل دفنها إلاّ لندرةٍ من الباحثين الصغار عن شهادات مذهّبة الأطر فوق الجدران أو لتعبئة مقاعد أكاديمية تتجاوز بأهميتها أكبر السلطات. خطيرة ظاهرة تك الكتاباتٍ المنهجية الإسلامية التي تهندس النصوص والأبحاث المشدودة الميول والأهداف بين المذاهب والطوائف في إستتباع للسياسة فتفرز أجيالاً ستزرع ما لا يمكن ضبطه أو التكهّن به في رسم المستقبل. إنّه يتجاوز الحروب بعد نهايتها ويوفّر المناخات الدافئة لسيطرة الغرب المتجددة وإيقاعنا في الإنحطاط الجديد.

قد يصدّق بعض الأساتذة المتخرجين الذين يطفون فوق مياه الأبحاث مع طلاّبهم العرب المتشددين بخطبهم وأطاريحهم وألقابهم العلمية بأنّ مشاعية الإعلام مثلاً قد حسمت مستقبل الغرب العرب لمصلحة إشاعة الخوف من الدين في العالم، لكنهم يتغافلون من أنّ ميدان الإعلام على قوّته، هو الحلقة المتاحة الضعيفة في الأبحاث الإجتماعية والسياسية، خصوصاً في زمن »الربيع العربي« الذي تجاوزت فيه وسائل الإعلام حدودها ومفاعيلها إلى مستوى التصديق بأنّها هي التي أيقظت »الثورات« العربية عبر الكتابة بسبابات أولادنا وأحفادنا وأجيالنا الضائعة بهدف التجمع والتغيير. هي فكرة لا تفكّك إشكاليات الإعلام والسلطة وتفاعلهما المستجدّ. لا قيمة بحثية لها وهي كما الشعار المرفوع على قماشة ليحرق أو يداس في المظاهرات الطلابية.

كان العرب يركنون لأولادهم يلعبون إلكترونياً في الغرف الداخلية. عندما سألت بعضهم بالصدفة: أين الصغار؟ تدفقت الإجابات بالجمع: إنهم يلعبون. إستوقفتني فكرة اللعب مثل تفاحة نيوتن للبحث عمّ يكتسبون أثناء اللعب؟ أخذني السؤآل إلى وقف أطروحة الدكتوراه الأولى خاصتي لأمكث عامين مع الأطفال من مختلف الأعمار بحثاً عن أنساق القيم التي يكتسبها أولادنا وأحفادنا أثناء اللعب قبل وسائل التواصل الإجتماعي. بإختصار: يلعبون إختصارات الحروب وكوارثها وثقافات العنف.

بعد ثلاثين عاماً أطرح سؤآلين: أين صغارنا وكبارنا وجامعاتنا وأبحاثنا اليوم؟

1- لن يثمر التفاعل الشائع بين الشعوب أو بين العرب والغرب إلاّ بسلوك أحد طريقين متناقضين في سلّم التغيير والترقي: الأوّل الإنتقال من التجربة إلى المفهوم ثمّ إلى الشعار وهو عنوان للغرب الذي نكبته المآسي وتجارب الحروب إلى المفهوم وصولاً إلى الشعار. بالمقابل يتسلّق العقل العربي السلّم مفتوناً بالشعار على يباسه الذي يقوده نحو المفهوم الموحى متخيّلاً بأنه بلغ التجربة القدرية التي تبقيه في العلقم يتجرّعه في كل الميادين، ومنها الميدان الأهم الذي يؤلمني أعني الجامعات والأبحاث الجامعية المستغرقة في شقوق وزلازل المسلمين القديمة. تكمن هذه الإشكالية في الإنتقال العربي من البداوة إلى الحياة المدنية فالتكنولوجية الأكثر تعقيداً وهو إنتقال مستمر لم يحقق لذّة حريّة العقل والإبتكار عند البحث وتفكيك المآزم.

2- لم يتمكن العرب وخصوصاً اللبنانيون بعد من »الإبستمولوجيا« الغربية ولم يفهموها وإحتقروا المعرّبة منها تسهيلاً لجهلهم وهي تعني فرز العلم والحقائق عن الخرافات الدينية والبشرية التي عادت تحقق مضامينها البدائية في الأوطان والأبحاث والدراسات العليا وخصوصاً في زمن عودة الأصوليات وزهوها ونشرالكتابة بردود الأفعال لا الأفعال. أن تكتب العرب بقلم الغرب أو تبحث عن قضاياهم بالعربية على إحتقارٍ للغرب مسألة معقّدة تجعل تساوق الأفكار والتبويب والتدعيم وكأنّنا نأخذ بأسباب الحضارة المعرفية والتكنولوجية ونمتلكها لكنّ الهدف الأسمى يبدو مستورداً أو متخلّفاً وبعيداً من حيث القيمة في تحقيق الإبداع والتطوير والكشف عن عالم بحاجة دائمة إلى الكشف.