زند الحجر، لـ ضُحى عبد الرؤوف المُل

عكّار المكان والإنسان، جزء من حياة في رواية.

نسرين الرجب ـ لبنان

بينما يدُ الإنسان تمتد لتقتل وتؤذي أخيه الإنسان، كان رؤوف يتوسّد الحجر ليغفو، الرواية الصادرة عن دار الفارابي، في طبعتها الأولى كانون الثاني 2018، تُفيد صاحبتها في البدء أنّها عملٌ خيالي وأنّ التشابه فيها مع الواقع هو محض مصادفة، وفي معرض تمهيدها للرواية تقول: »إلى كل الذين هاجروا من لبنان من الطوائف والمذاهب كافة، وإلى الذين عشقوا تراب لبنان من اليهود والمسيحيين والمسلمين…الأرض جميلة بزهورها من الأنواع والألوان كافة…« .

 جاء هذا المقال ليجمع بين أراء المؤلِّفة ورؤيتها التي صاغتها في روايتها، وما قد يتقاطع  مع هواجس القارئ اتجاه هذا العمل الروائي المؤثر .

الرواية بين الواقع والمُتخيّل

تطرح المُل في روايتها »زند لحجر« مواضيع على قدر من الأهميّة والحساسيّة: كـالخيانة، تعنيف المرأة، الفقر والتهميش الأسري، والتهميش الاقتصادي، الحرب الأهلية، اختفاء اليهود من طرابلس وغيرها، وفي الحديث عن مسؤوليّة المؤلّف أثناء تناوُله السردي لمواضيع تستوجب منه الحذر في التناوُل، تؤكّد أنّ الكاتب يضع الحقائق أمام المجتمع كما يراها، وهو مخلص في ما يكتبه عن مجتمعه أو بيئته، فالكاتب يُسلّط الضوء على أصالة الوضع الاجتماعي في بيئته في محاولة منه لتقديم تساؤلات تؤدّي الى نتائج من الممكن تسميتها استكشاف الحكم الذاتي للكاتب من خلال ما يكتبه أو ما يطرحه، كي يعالج المسائل من منطلق مهنيته أو أخلاقيته أو تمسكه بالقيَم الانسانيّة، بأسلوب محايِد وإنساني، وعندما يبتعد عن الإنسانية يبتعد بالتالي عن حقيقته كأديب وروائي أو بالأحرى تصبح هويّته خاصة لفئة معيّنة وليست عامة، فتطوُر المجتمعات يحتاج لكتاّب أصحاب رؤى مصقولة بالحكمة وبعيدة عن الانفعالات، قادرة على خلق تجانس بين مختلف المواضيع المطروحة والشخصيّات، وإخراج التناقضات بغية تسليط الضوء على الميزات التي يمكن أن تلعب دورها في إبراز أهميّة كل شخصيّة، وتُشير المُل إلى أنّها نقلت الواقع بأمانة وإن كان  ما نقلته هو الواقع المتخيّل، فهي تضع جزء من حياة في رواية،  وقفت على الحياد ولم تنجر للتعاطف مع الشخصيّات، إنمّا الحبكة هي البيئة فعلا، وهذا من شأنه أن يدعو إلى تمديد الرؤية واعطاء مساحة أكبر للاختلافات بين وجهات النظر.

وتُعطي مثال عن ذلك  روايات نجيب محفوظ، والتي على الرغم من التطوّر الزمني الحالي إلا أنها تضعنا في لب المجتمع المصري ومشاكله، فهو أبدع في تصوير حقيقة مجتمعه، لم يعالج بل وضع الإصبع على الجرح ليستخرج القارىء عدّة مفاهيم هي في صلب تقويم المجتمعات والبيئات.

وفي روايتها زند الحجر  تشير إلى أنها رصدت فترة زمنية تؤدي الى تساؤلات منها إذا كانت حارة التنك حاليا تئن كيف ستكون بعد خمسين عاما من الآن مثلا، وهل يمكن عودة عفاف الى طرابلس؟

مِحوَر الشخصيّات

احتلّ ظهور بعض الشخصيّات في الرواية أهميّة من خلال ما أنتجه حضورها وسلوكها من أسئلة، والصراع الّذي جسّدته أثناء السرد، وبما تمثّلة من مواقف، من ذلك برز في الرواية ثلاث شخصيّات، كان لها دورا أساسيّا في تعجيل حركة السرد: )عبد الغفور، رؤوف، عفاف(.

عبد الغفور، شخصيّة متحررة من أي التزام عائلي أو خُلقي، غير قابل للوعظ فحتى موت زوجه الأولى ما عنى له شيئا، يعيش لذاته ولا يعبأ بأي آخر سواه، عمله كبائع قهوة يعطه مجالا للتحرُش بالنسوة في السوق، وعندما يتزوج بعائشة ابنة عمته التي تماثله في الخلق وتتفوق عليه بالمكر والدهاء يرضخ لأوامرها، ويزداد ظلما اتجاه عائلته، يرتكب جرم التعنيف بحق ابنته من دون أن يُحكّم عقله ولا رأفته.

شخصية رؤوف بدت أكثر وضوحا لأنها المعنيّة هي شخصية تابعنا كفاحها سعيها خيبتها عشقها، نجاحه المهني، إنسانيته التي لم يسلبها منه ظلم الحياة والأب، زواجه بابنة عمه التي أحبها ثم علاقة العشق التي جمعته بعفاف عن طريق الصدفة، ضعفه واستكانته عندما فقدها، انتحاره الّذي حفر هوّة سردية بالغة العمق ابتدأت من حين اختفاء عفاف، فلم نفهم ما الّذي حدث، وهل تزوّجا أم لا؟! وهو القائل: » يسرق الخبث من  الإنسان عمره كله، ويمنح الخير للإنسان عمرا آخر«.

عفاف شخصيّة ملتبسة، لم تعطنا المؤلفة علامات حاسمة عنها، لقد أتقنت المؤلفة لعبتها بأن جعلتنا نعرف عنها عن طريقة الإخبار، إذ لا صوت لعفاف في الرواية، فهي شخصيّة ذات رفقة ممتعة، ولكنها غامضة والغموض صفة من صفات جمالها، أتت لا ندري من أين ، وما هي هويتها الحقيقيّة، وهل هي امرأة محبّة حقّا أم أنها تجيد الإغواء وتخطّط لكل تحركاتها، لا لبث أن تختفي .

لقد أشارت المؤلّفة الى الوجود اليهودي في طرابلس قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بما رمزت إليه شخصيّة عفاف، حمل غموضها وحذرها إشارات بيّنة الى الدهاء والمكر الّذي يتميّزون به، اختفاءها المُفاجئ كما جاء في الرواية  طرح إشكاليّة اختفاء اليهود من المدينة بعد حرب أبو عمار، وقد سعت المؤلفة  من خلال قصة الحب التي جمعت رؤوف وعفاف، إلى الإشارة أنّ التعايُش  بين أبناء المذاهب ممكن لولا الخلافات السياسيّة.

وهذا الظهور للشخصيّات الرئيسيّةلم يمنع من أن توجه المُل أنظار المتلقي إلى قوّة وحنكة المرأة، العكّاريّة تحديدا.

المرأة العكّاريَة

قدّمت المؤلفة عدّة نماذج من النساء، القنوعة حد التضحيّة )عايشة الزوجة الأولى وابنتها فاطمة( الغاوِية والحاقدة ) عفاف، عائشة الزوجة الثانية لعبد الغفور(، الأرستقراطية والمغناج )الشيخة سعاد/ خدوج(، المرأة الصلبة )الكوشارية(، الباحثة عن الحقيقة والمتمرّدة )هدى( يعج السرد بنِسوة كثيرات متناقضات في سلوكهن.

تُشيد المؤلفة بهذا التنوّع، كما أوضحت أنّ روايتها قصدت نموذج المرأة العكاريّة بعنفوانها وصلابتها وقوّتها عند اشتداد المِحن وحُسن تدبيرها، هذه المرأة التي فقدت بعضُ سماتها مع مرور الزمن.

أعطت مثالا عن الكوشاريّة والتي هي شخصيّة حقيقيّة كداية، فالمرأة العكّاريَة معروفة بقوّتها وحنكتها، فهي كانت تحصد وتزرع المزوعات المختلفة منها زراعة التبغ  وتموّن، تذهب إلى المرعى، تقوم بكل هذا لوحدها،  هذه المرأة لم يعد لها وجود في تاريخنا الحاضر كما توضح المؤلّفة.

وأعطت نموذج المرأة الطيّبة المتسامحة والمضحيّة كما في شخصيّة فاطمة التي حُمّلت مسؤوليّة تربية إخوتها، وتقمّصت دور الأم الحاميَة وهي طفلة اتجاه الرضيع أخيها، لم يسلبها ظلم الأب والخالة عاطفتها فكانت الأُم الحاضنة تجاه أولاد زوجها وبذلك قدّمت نموذجا مثاليا، على النقيض من عايشة  التي أحبّت ابن البيك الضعيف الخائف من مواجهة نفسه بها، فكانت ردة فعلها من حقدها على ضعفه تجاهها ردة فعل انتقاميّة وكيديّة، تزوّجت عبدالغفور المُعدَم واستطاعت بدهائها وتسلُطها أن  تنقله من بيت فقير إلى بيت متوسط، وغيرها من النماذج التي تحمل دلالة قوّة وذكاء المرأة العكاريّة في حماية نفسها ومن تُحب، توضّح المؤلفة أنّ إبراز هذه الحالات ووضعها أمام القارىء من صلب مسؤوليّات الكاتب .

فضاء المكان

يشكّل المكان سِمة فنيّة بارزة في عالم الرواية،  في »زند الحجر« تشكّلت صورة المكان من خلال الوصف الخارجي عبر المحسوسات الشكل والروائح والظلال، أما الزمن فقد تحدّد من خلال الإشارة إلى  ثورة شمعون حرب أبو عمار، الحرب بين باب التبانة وجبل محسن، الزمن الحالي ، بنية المكان توضح شيئا من رؤية الروائي إلى عالمه، وإلى رؤيته الإنسانيّة.

تخضع الأمكنة إلى مقياس الانفتاح على الواقع والاتّساع، حركة الشخصيّات في المكان هي حركة متآلفة ومتوافقة مع طبيعة الأحداث، فالإنفعال بالحياة والمعيش اليومي، يُسلّط الضوء على المكان، وما يُمثله من قيمة ايديولوجيّة متّصلة بتمثيل الأمكنة.

وكأنّ المؤلفة في حالة حنين مع الشمال اللبناني بكل مضامينه، بدا ذلك من خلال حشد أسماء المناطق والأحياء: )بشمزين، الكورة، طرابلس، السويقة، جامع البرطاسي، طلعة الحمراوي، طلعة المجذوب، مستشفى الزهراء، بيروت، التبانة،بعل الدقور، مسجد الناصري، طلعة العمري، بعل الدراويش، جبل محسن، المستشفى الاسلامي، حارة البقار، عكار، القلعة…(

تعدّد الأمكنة، شكّل فضاء الرواية وشمل أحداثها، المعني هنا عكار )جبل محسن والتبانة(،  تؤدي حركة السرد دورا  بديهيّا في إدراك فضاء الرواية، الّذي يفترض حركة واستمراريّة زمنيّة تؤكّد حضور الزمان في المكان.

   البيت الحجري القابع على كف نهر أبي علي بزواياه الضيقة، الباب الخشبي المعلق، كرسي القش بين كومة من الثياب المتكدسة عشوائيا، القلعة والأسواق  التي تعجّ بالزائرين، الزواريب، اتّسعت صورة المكان عندما كبر أبناء عبد الغفور واختار كل منهم حياته أو اختارته الحياة، رؤوف  بطل الرواية، بدا أكثر تنقلا في الأمكنة تليه ابنته هدى التي أدّت دور الصحافي الّذي يتقصى الأمكنة والأخبار بغية ربط الأحداث، اتّساع الأمكنة يدل على انفتاح الشخصيّة  وانفلاتها من قبضة الزمن، باتجاه حياة أكثر شمولية.

وفي الحديث عن وظيفة المكان في الرواية، وإذا ما كان محاولة للإيهام بواقعيّة الأحداث، أفادت أنه لا يُمكن وضع  روائي على جهاز كشف الكذب ولكن بالإمكان البحث عن الأمكنة التي تنقّل فيها، وحقيقة وجودها واقعيّا وبهذا يكون قد قدّم الواقع وإن تغذّى من الخيال في الحبكة والسرد.

    فالمؤلفة كما أشارت هي ابنة حارة البقّار، عاشت طفولتها في حارة التنك حتّى فرن أبو عشير  -الذي عمل لديه محمود ابن عبد الغفور- كان موجودا، ثكنة بهجة غانم الخ..

هذا التجاذُب مع الواقع مثّل اخلاص المؤلفة للمنطقة التي وُلدت فيها وأصبحت حاليّا من العشوائيات بعد أن كانت من أجمل الحارات في طرابلس وتضُم الدرزي والشيعي والمسيحي والعلوي واليهودي، ودفاتر مختار حارة البقار  تشهد على ذلك، كما أضافت  المؤلفة متسائلة: »إذا كانت الحارة تضُم كل المذاهب والأديان، وعاشت فترة ماسيَة مزدهرة، ما الذي جعلها خراب وما الّذي جعلها من العشوائيات بعد  أن كنت أنا نفسي هربت من ملجأ الحارة مع كارما بنت أم الياس ومع خضر ورياض وعلي من العلويين ومع أم ممدوح الدرزية الخ.. فمن الذي كان يتقاتل؟!

وصف الإطار المكاني كان بغية تشكيل الصورة الذهنية، والتي ترتبط ارتباطا ضروريّا بالحالة السرديّة والانطباع الّذي يؤلّف الحكاية، فهي تعبّر عن الرؤية الخاصة بالكاتبة إلى عالم الفقراء،  ارتباطهم بالقضايا السياسيّة، كحدث لا علاقة لهم به، ولكنه مفروض على يوميّاتهم، أوضحت المؤلفة ذلك من خلال انخراط ابراهيم ابن الكوشارية في المظاهرات وما يحمله ذلك من دلالة على أنّ كل ما يحدث في المدن يتأثّر به عاطفيا أبناء القرى من أحداث ثورة شمعون إلى حين  استشهاد الرئيس رفيق الحريري.

وأكّدت على أن ما تحتاجه عكار هو الوعي والانفتاح لأنّ فيها أرضا خصبة معطاءة وطيّبة وإن كانت انفعاليّة أحيانا.

الأدب هو الأدب

تؤمن المُل أنّ الأدب هو الأدب، فليس هناك أدب نسوي مقابل أدب ذكوري، فالمرأة قادرة إن أرادت، لكن بعضهن يأخذهن الوقت ويفضلن الابتعاد عن الرواية لأنهّا تحتاج لوقت طويل إضافة إلى عزلة فكريّة  قد تطول وتحتاج لتضحيات حقيقيّة وقد يصعب على المرأة القيام بها بحكم أمومتها أو اهتمامها بعائلتها، أو حتى بمظهرها الخارجي كل هذا لا يُبرر أنّ هناك فاصل بين الأدب  الذي يكتبه الذكور والأدب الذي تكتبه النساء، بل هناك إنسان قادر على امتلاك الوقت للكتابة وإنسان آخر لا يملك الوقت كما ينبغي.

وفي الحديث عن التقنيّات التي تلجأ إليها لكتابة الرواية تُوضّح المُل أنها تلتقط الفكرة وتتركها تختمرُ في رأسها حتّى تنمو الى ما شاء الله، وحين تنضج تضعها على الورق، فتأخذها الدهشة وهي تُعاين قدرة الشخصيّات على صنع قدرها الروائي، تلاحقها لترى ماذا سيحدث: »نمو الشخصيات يبهرني« تتابع المُل: »في زند الحجر ثلاث مراحل  مختلفة والشخوص في تبدل ونمو، هذا جعلني أترك لها حريّة التفاعل معي«.

تسعى المؤلفة للتأريخ لمدينتها، تتحدث عن عالم الفقراء والمظلومين، عن العنف ضد المرأة، الأجيال التي شقّت طريق الفقر والعوز  ولم تستسلم لكل العفن الّذي زكّم الأنوف بل قاومت، فمنها من عاكسه القدر وأرداه ومنهم من شقّ طريقه حتى وصل. شكّل المكان حالة خاصة أدّت فيه الشخصيّات دورها بعفويّة، تتسع الأمكنة كلما اتسع دور الشخصيّة ورؤية المؤلفة لها،  هدى هي لسان الروائية الناطق، تنطق بكلامها وتتحرك للتقصي والبحث عن  الالتباسات الواقعة، تعطينا الخيوط وتقطعها في آخر المطاف فلا نقع على شيء وكأنهّا بذلك تقول: اتركوا هذه الحكاوي وتعالوا إلى ما خلف كواليس السرد، فهناك حرب غيّرت من معالم المدينة، وأقلة يهوديّة وجودها أصبح معدوما، ومن تبقى منهم يجهد للمحافظة على كيانه في  الخفاء، وبذلك جسّد الحب بين رؤوف وعفاف محاولة لكسر النمطيّة، وإعلان عن روح الإنسان التي لا تعرف مذهبا أو طائفة.