الإنسياح العربي نحو طهران وتل أبيب

منذ منتصف سبتمبر 2020م تغير المشهد القائم في مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي المغتصب للأراضي الفلسطينية والعربية بعد أن وقعت كلٌ من دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وإسرائيل وبحضور الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إتفاقين لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن في حدثٍ أُعتبِر أول متغير كبير في القضية الفلسطينية بين دول عربية وإسرائيل منذ ربع قرن؛ حيث طبّعت كل من مصر والأردن علاقاتهما الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني.

وبعد مرور شهران تقريباً (10 ديسمبر/كانون الأول 2020م)، إلتحقت المملكة المغربية بركب الدول العربية الخمسة حيث وقعت الحكومتان المغربية والإسرائيلية إتفاق سلام فتح الباب أمام إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما إضافةً إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين بشكلٍ كامل. والتحقت جمهورية السودان بمسلسل التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ حيث وقع الطرفان في السادس من يناير/كانون الثاني 2021م إتفاقاً للتطبيع ليخرج بذلك البلد العربي الذي شهِد خلال تاريخه الحديث صلابةً متميزة في المواقف الداعمة والمؤيدة لتحرير كل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، البلد الذي إحتضنَ أشهر قمة عربية في 29 أغسطس/آب 1967م، المعقودة بعد نكسة حزيران مباشرةً والتي خرجت بـ “اللاءات الثلاثة” : “لا” صلح  و”لا” اعتراف و”لا” تفاوض، مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه.

من المفيد أن نعرف مالذي تحقق للدول المُطبعة مع الكيان الصهيوني وفق ما تم الإعلان عنه بشكل مباشر عقب التطبيع، فالإمارات العربية المتحدة ومن خلال وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد، أن “المعاهدات العربية التي وقعت مع إسرائيل لبنة للمستقبل وللعمل نحو الاستقرار والتنمية” ، وأضاف ” إن هذه المعاهدة ستمكننا من الوقوف أكثر إلى جانب الشعب الفلسطيني وتحقيق أمله في تحقيق دولة مستقلة ضمن منطقة مستقرة ومزدهرة”. أما وزير خارجية مملكة البحرين عبد اللطيف الزياني، فقد وصف التوقيع على الاتفاق بإنه “حدث تاريخي وفرصة لتحقيق السلام والازدهار والاستقرار للمنطقة. في مقابل ذلك أوجز السفير الأمريكي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، إنه من الأفضل للحكومة الإسرائيلية جذب استثمارات البنية التحتية من الإمارات العربية المتحدة بدلًا من جذب الاستثمارات من الصين، وأضاف “أعتقد أنها فرصة عظيمة بالنسبة لإسرائيل لكي تضمن مصادر لرؤوس الأموال، التي تحتاج إليها بدون أن تضع نفسها وأمنها وبصراحة أمننا أيضًا في خطر”، في حين قال وزير المالية الإسرائيلي، إسرائيل كاتز، إن “شركة موانئ إماراتية مهتمة بشراء أحد الموانئ في شمال إسرائيل”.

إما المغرب فكان ثمن التطبيع موافقة الولايات المتحدة على المقترح المغربي بمنح الصحراء الغربية صفة الحكم الذاتي كأساس وحيد عادل ودائم لحل النزاع. وأن واشنطن ستفتح قنصلية لها في الصحراء الغربية تأكيداً لهذا الموقف. كما وقّع المغرب وإسرائيل اتفاق إطار للتعاون الأمني وصف بإنه “غير مسبوق”، سيتيح للمغرب اقتناء معدات أمنية إسرائيلية عالية التكنولوجيا بسهولة، إضافة إلى التعاون في التخطيط العملياتي والبحث والتطوير.

وفي التطبيع السوداني فإن الحصاد الذي راهنت عليه الحكومة السودانية الانتقالية جراء التطبيع مع إسرائيل، هو الحصول على مساعدة مالية من الولايات المتحدة ورفع الخرطوم من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب وقد وقع وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين اتفاقية في الخرطوم تتيح للسودان الحصول على تسهيلات تمويلية تزيد عن مليار دولار سنويًا لمساعدته على سداد ديونه المستحقة للبنك الدولي، مقابل ذلك اعتبر وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكينازي التوقيع السوداني على التطبيع أنه “خطوة مهمة في اتفاقات التطبيع الإقليمي في الشرق الأوسط” خصوصاً أنه يأتي من ذات العاصمة التي إنطلقت منها اللاءات الثلاث عام 1967م.

وفي الجانب الإيراني يمكننا القول أن المتغير الأساس لعلاقات طهران مع المنظومة العربية بشكل خاص والمنظومتان الإقليمية والدولية بشكل عام قد تغيّر بشكل تام عقِب سقوط نظام الشاه إثر ثورة عام 1979م وتحول النظام فيها بشكل دراماتيكي إلى نظام “إسلامي متطرف” رافض لكل ما يتقاطع وأفكار المرشد الأعلى للثورة الخميني ، ورغم ترحيب كل الدول العربية تقريباً بالثورة الإيرانية إلا أن الخميني وقياداته كانوا يتعاملون مع معظم الدول العربية بمقاييس وخرائط طريق مختلفة شكلها ظاهراً ما كان يسمى حينها بـ “تصدير الثورة” وأساسها السعي لإسقاط الأنظمة العربية وخاصةً المجاورة لإيران وعلى دوافع طائفية لم تكن خافيةً عن الجميع ، وبالطبع فإن من أهم الدول التي تعرض لها النظام الإيراني -الخميني الجديد كان العراق ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة الأردنية واليمن ولبنان ، لم يكن هناك بد من إيقاف إستغلال الفوضى الإستراتيجية التي خلفها السقوط الدراماتيكي لنظام الشاه وإرتباك الشارع المحلي لكل بلد كان فيه تنوعاً طائفياً مستقراً من خلال دعوات واضحة ومباشرة صدرت من المرشد الأعلى (الخميني) بـ”الثورة” بما خلق أجواءً بالغة الحساسية ، حتى بلغت ذروتها في العراق والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية نتج عنها الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) التي أوقفت وربما الأصح “عطلّت” مشروع الخميني في تصدير الثورة حتى عام 2003م وإنهيار العراق وسقوط نظام الحكم فيها جراء العدوان الأمريكي-البريطاني المباشر عليه بمساعدة ودعم من إيران وتنظيمات القوى والأحزاب المؤيدة لها داخل العراق والتي مكنتهم الإدارة الأمريكية من حكم العراق منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

الدولة الأخرى الأكثر أهمية بالنسبة للمشروع الإيراني كانت ، وما زالت ، وستبقى ، هي المملكة العربية السعودية وانقطعت العلاقات عندما هاجم محتجّون إيرانيّون البعثات الدبلوماسيّة السعوديّة في إيران، بعدما أعدمت المملكة في عام 2016م رجل “الدين” الشيعي نمر باقر النمر المحرض الرئيس على الإحتجاجات التي شهدتها مدينة القطيف في المنطقة الشرقية عام 2011م ، وقد إستغلت إيران هذه الحادثة لتهيج أتباعها وتدفعهم للخروج بتظاهرات منددة بالإجراء ومطالبة بـ”سقوط” آل سعود ، كما وُظِّفت ردود الأفعال داخل إيران ليهاجم غاضبون إيرانيون سفارة المملكة العربية السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد ويعبثون بها وأيضاً يهددون أمن وسلامة العاملون الدبلوماسيون فيهما.

وقبل إحتلال العراق للكويت عام 1990م توترت العلاقات بين السعودية وإيران بشدة في يوليو/ تموز عام 1987م عندما لقي 402 من الحجاج، منهم 275 إيرانيا، حتفهم خلال اشتباكات في مكة. واحتل على إثرها محتجون في طهران السفارة السعودية وأضرموا النار في السفارة الكويتية، ولقي دبلوماسي سعودي في طهران حتفه متأثرا بجروح أصيب بها عندما سقط من نافذة السفارة، واتهمت الرياض طهران بتأخير نقله إلى مستشفى في السعودية. على إثرِ ذلك قطع العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز علاقات المملكة مع إيران عام 1988م. ولم يتم استئناف العلاقات بين البلدين إلا في عام 1991م حيث وجد البلدان أن من مصلحتهما توحيد الجهود ضد العراق مع بقية قوات التحالف الدولي ذو الـ 33 دولة.

في 21 سبتمبر/أيلول 2014م، نفذ الحوثيون إنقلاباً في اليمن كان واضحاً جداً أنه بتدبير ومساندة فعّالة من إيران؛ إذ استولى جماعة “أنصار الله” على مقر الحكومة في صنعاء بعد مصادمات مع القوات الحكومية استمرت لأيام وأسفرت حينها عن سقوط نحو 270 شخصا. تحالف الحوثيون مع الوحدات العسكرية الموالية للرئيس السابق، علي عبد الله صالح، على حساب الرئيس الشرعي، عبد ربه منصور هادي واستولوا في أكتوبر/تشرين الأول 2014م، على ميناء الحديدة على البحر الأحمر، والذي يمثِّل نقطة دخول حيوية للواردات والمساعدات الإنسانية إلى المدن الشمالية من البلاد. وتصاعد الصراع في اليمن عام 2015م عندما بدأت السعودية وعدد من حلفائها شنَّ ضربات جوية لمنع الحوثيين (إيران) من السيطرة على المزيد من المدن اليمنية، واستعادة سلطة الحكومة المعترف بها دوليا، لكن الحوثيين وتحديداً في يناير/كانون الثاني 2015م استولوا على القصر الرئاسي في صنعاء، وحاصروا مقر إقامة الرئيس عبد ربه منصور الذي نج في الهروب منهم واللجوء إلى عدن جنوبي البلاد ليعلن من هناك شرعيته وأحقيته في الحكم. وكما فعلت إيران مع العراق فقد أدخلت المملكة العربية السعودية في حرب صعبة معها بالإنابة استمرت ثماني سنوات تخللتها هجمات بالصواريخ والمسيرات (الإيرانية) استهدفت منشآت المملكة النفطية الإستراتيجية وعطلت نصف إمدادات المملكة كما استهدفت بعض المطارات المدنية، (حالياً في هدنة غير مضمونة الاستمرار لإيقاف العمليات العسكرية والجوية). واستضاف العراق منذ أبريل/ نيسان من عام 2021م ، خمس جولات من المحادثات بين السعودية وإيران، تمت كلها بشكل فردي وبمستوى تمثيل دبلوماسي وسياسي منخفض وبمشاركة مسؤولي الأمن والاستخبارات من البلدين ، لكن زيارة للرئيس الصيني ،شي جين بينغ ، إلى الرياض في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2022م حسمت ملف فتح صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية -السعودية ؛ إذ أعقب هذه الزيارة وتحديداً  في 11 مارس/آذار 2023م، اتفقت المملكة العربية السعودية وإيران وبوساطة صينية على أعلى مستوى في بيجين على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما.

ما زالت إيران تسعى لإختراق جديد في البنية العقائدية والوطنية في جمهورية مصر العربية وليس غريباً أن يرحب المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي ، بعودة علاقات بلاده مع مصر، فقد وظفت إيران كل جهودها وأدواتها في سبيل إستثمار أية فرصة للولوج داخل هذا البلد العربي المهم جداً في ميزان الأمن القومي العربي والذي يحتضن مرجعية علمية محترمة هي الأزهر الشريف ، لذلك كلفت العراق بعمل كل ما يلزم من خلال التحالف العراقي – المصري – الأردني ، وكذلك سلطنة عُمان ، للتحرك تجاه مصر بغرض تطبيع العلاقات مع طهران وهو ما بدأ يُعطي ثماره من خلال الحديث عن فتح قنصلية لكلا البلدين.

إن على أمتنا العربية ودولها بكافة مستوياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية أن تحسب حسابات العلاقات الدبلوماسية مع إيران، ذاك أن طهران قادرة على أن تحقق بالدبلوماسية المرنة وغير المستفزة ما لم تحققه منذ عام 1979م وحتى الآن، وعليهم أن يعلموا أن وجه المشروع الإيراني الحقيقي يختبأ خلق هذه الدبلوماسية التي بدأوا فعلاً في إستخدامها بعد مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني وخروج الشعب الإيراني في أغلب محافظات البلاد مطالباً بسقوط النظام وحقوقه الوطنية الإنسانية والحقوقية ، مع تزامن ذلك بتشديدات أكبر وأكثر في ملف العقوبات ضد نظام طهران وإنتشار الكراهية الشعبية والرسمية الدولية ضد هذا النظام.

لا نستطيع القول بشكل قطعي أن تقطع الدول العربية علاقاتها مع إيران لإنها بحكم الجغرافيا والتاريخ ، جزء من هذا الإقليم الذي نعيش فيه ، لكن ما نوصي به ، أن تبقى أعيننا مفتوحة دائماً تجاه الشرق لإن الشر لم ولن يإتنا إلا من إتجاه الشرق.