الانتخابات المبكرة في العراق والاستحضارات المتقاطعة

د. ماجد السامرائي

لم يكن قرار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي تحديد السادس من شهر يونيو من العام المقبل كموعد للانتخابات قبل موعدها الدوري عام 2022 ناتجاً عن هوى أو مزاج شخصي، وإنما كاستحقاق فرضته ثورة الشباب العراقي منذ انطلاقتها الجديدة في أكتوبر من العام الماضي الى جانب المطالب الأخرى كتحديد المجرمين ومن وراءهم في قتل أكثر من ثمانمائة متظاهر وقرابة الخمس وعشرين ألف جريح، كان مجيء الكاظمي للسلطة أحد نتائج تلك الثورة بعد إقصاء رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي بسبب رعايته وتغطيته على قتلة أبناء الشعب العراقي.

ملف الانتخابات المبكرة طرحته ثورة الشباب وتبنته المرجعية الشيعية التي طالما ما تدعي الأحزاب الحاكمة الخضوع لإرشاداتها، ووفق وصية السيستاني يجب أن يسبق الانتخابات تشريع قانون انتخابي منصف ومفوضية مستقلة وفق آلية تسمح بإعادة الثقة في العملية الانتخابية، إلا أن هناك من يرون بأن هذا التوجيه لم يوضح إذا كانت الأحزاب الحالية مؤهلة أم لا لمثل هذه المهمة الوطنية وتلبي رغبات المعتصمين. خصوصاً أن المرجعية دائماً ما تدعو للحفاظ على النظام السياسي القائم من مخاطر الانهيار.

ثورة الشباب جاءت من أجل إنهاء دور الأحزاب دستورياً وسلمياً وعقلانياً لأنها المسؤولة عن كل ما حصل في البلد من خراب ودمار وتفشي السرقة والنهب الملياري للثروة، وبعد أن تحولت نزعات الكراهية والحقد والثأر الى برامج قتل واعتقالات لعشرات الألوف من الأبرياء تحت عناونين متعددة مثل  »محاربة الإرهاب والبعثيين« كشفت ثورة أكتوبر2019 زيفها بعد استهداف شبابها وهم لا علاقة لهم لا بالإرهاب ولا بالبعثيين، لكنهم أتهموا  »بالجوكرية« وهو اصطلاح قصد به التشكيك بوطنية هؤلاء الشباب الثائر. وأكد شرط الثورة الشبابية على قيام حكومة مؤقتة برئيس وزراء مستقل لإدارة الفعالية الانتخابية المقبلة، وهذا ما يمكن توقعه من مصطفى الكاظمي الذي جاء من خارج منظومة أحزاب الإسلام السياسي  »الشيعي«.

تباينت المواقف والآراء السياسية إزاء اعلان الكاظمي لموعد الانتخابات داخل الأحزاب الإسلامية الشيعية ما بين مرّحب ومتحفظ لاعتبارات وصفت بالشكلية، بل أصبحت الانتخابات المبكرة مطلب تلك الأحزاب وفق خدعة جديدة تحاول من خلالها سرقة هذا المطلب الشعبي لقيام انتخابات نزيهة وعادلة. معظم هذه الأحزاب ركب موجة التبكير بالانتخابات لكي لا يجعلوا لجام خيلها يذهب الى الأيادي النظيفة والنزيهة، لكن الظرف الاستثنائي الذي يمر به العراق يرتقي بهذا الملف الى مراتب القضايا المصيرية بين طريقي الحفاظ على استمرار تلك الأحزاب أو إزاحتها عن المشهد السياسي، أهم المخاطر تداعيات وباء كورونا والضائقة المالية الشديدة وهشاشة الوضع الأمني وسوء الأحوال الاجتماعية وتردي الخدمات العامّة الذي أعاد المحتجّين إلى الشارع رغم مخاطر الاختلاط العام حيث فتحت مجدداً أبواب المواجهة الدامية بين المتظاهرين العزّل وقوات الأمن والميليشيات المسلّحة.

الأمم المتحدة رحبت بتحديد موعد الانتخابات المبكرة في العراق مبديةً استعدادها لتقديم الدعم والمشورة حيث أبدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة عن استعداد الأمم المتحدة لتقديم الدعم والمشورة الفنية على النحو الذي يطلبه العراق لضمان انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية تكسب ثقة الجمهور، رغم عدم مصداقية ممثلية الأمم المتدة في العراق وفق الجمهور المنتفض.

المنطق الثوري يقول باستهداف جميع الأسلحة والاعتبارات الدستورية والقانونية وإزاحتها عن الطريق لأن بقاءها يجعلها أداة لإعادة إنتاج الفساد والفشل وتجديد زعاماته عبر الانتخابات غير النزيهة. لهذا السبب يتصاعد مناخ الجدل بين الأوساط السياسية في محوري قانون الانتخابات المعطل منذ عدة شهور داخل البرلمان وحل البرلمان الذي يشكل السلاح الأول والأخير لبقاء تلك الأحزاب على قيد الحياة ولأنه تحوّل الى أداة للفساد وتمرير الصفقات المشبوهة والتي تقف خلفها أجندات خارجية بسبب الهيمنة العددية لتلك الأحزاب على هذه المؤسسة التشريعية حيث تعاد الذاكرة الى عام 2018 تاريخ انتاج هذا البرلمان بعد احجام ما يقارب 80 من المواطنين العراقيين عن المشاركة بتلك الانتخابات.

هناك ملفات مهمة يتعلق إنجازها بصورة عاجلة بقيام انتخابات على أرضية تبدو أقرب الى النزاهة منها الى ما أصاب الشعب العراقي من نتائج الانتخابات السابقة منذ عام 2005. ورغم صعوبة هذه المرحلة واحتمالات عدم توفرها لأن الأحزاب مصرّة على عدم التنحي والاستسلام رغم فضائحها، لكن من الضروري التذكير بها:

الأول  الجانب الدستوري والقانوني الذي وفرّ الحماية للزعامات السياسية المتهمة من قبل الشعب لكي تمرر عناصرها من خلال التزوير المقنن عبر قانوني الانتخاب والأحزاب والهيئة المشرفة على الانتخابات والقائمة على المحاصصة الطائفية. وفي محاولة لتطويق هذه الهواجس تم تغيير الهيئة العليا للانتخابات والتي يقول المراقبون إنها لا تختلف من حيث المحاصصة الطائفية عن سابقاتها، وقانون الانتخابات داخل البرلمان الذي ما زال تحت أدراجه، وعدم تشريع قانون للأحزاب يمنع تشكيل أحزاب طائفية وفق الدستور. مع ذلك تبقى المشكلة قائمة متمثّلة بالقوى والأحزاب التي ستشرف على تلك التغييرات القانونية هي ذات القوى السياسية التي تطالب الجماهير بتغييرها، والتي ستراعي مصالحها عند إجراء أي تعديلات على قوانين الانتخابات وعلى تركيبة المفوضية العليا للانتخابات الجديدة التي عقبت على تحديد موعد الانتخابات المبكرة بقولها: إن هناك شرطان لقيام الانتخابات المبكرة هما تشريع البرلمان لقانون الانتخابات بأسرع وقت ممكن كونه يمثل الإطار القانوني لعملية الانتخابات، وأن يقوم البرلمان بتشريع نص بديل للمادة 3 من الأمر رقم 30 لسنة 2005 لإكمال نصاب المحكمة الاتحادية العليا التي هي الجهة الوحيدة المخولة قانونا بالمصادقة على نتائج الانتخابات«. ومن المعلوم بأن المحكمة الاتحادية ما زالات تعاني من نقص في عدد أعضائها يمنعها من إتخاذ قرارات دستورية للمصادقة على الانتخابات المقبلة.

ثانياً  حل البرلمان يشكل الأرضية الأولى لمدخل الانتخابات المبكرة دستورياً، وهو أمر يخضع حالياً لجدل الأحزاب التي تكافح من اجل إدارة ملف الانتخابات المبكرة عبر اداتها التشريعية، خصوصاً بوجود رئيس وزراء (الكاظمي) لا يلبي طموحاتها. هناك قوى وشخصيات سياسية متوجسة من التأثيرات المحتملة للانتخابات المبكرة على مكانتها ومكاسبها إلى إثارة عوائق قانونية أمام إجراء تلك الانتخابات، وتسعى الى إبقاء البرلمان الحالي قائماً حتى قبل شهرين من موعد الانتخابات المبكرة في السادس من يونيو عام 2021.

عقب رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على موضوع حل مجلس النواب من قبل رئيسي الجمهورية ورئيس الوزراء بقوله  »إنّ مجلس النواب هو الوحيد الذي يمتلك صلاحية حلّ نفسه تمهيدا لإجراء انتخابات مبكّرة وإنّ رئيسي الجمهورية والوزراء لهما فقط الحق في طلب الحل من المجلس الذي قد يوافق وقد يرفض« وهو تعقيب يشير الى قلق المالكي من انتهاء دوره السياسي المتشبث به عبر ما يمتلكه حالياً من كتلة برلمانية  »دولة القانون« لها 26 نائباً والتي قد تصبح صفراً في انتخابات نزيهة مقبلة.

إن حل البرلمان شرط مهم وفق مختصين بالدستور يتطلب ذلك بأن يتم ذلك وفق المادة 64 من الدستور بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه أو طلب رئيس مجلس الوزراء وموافقة رئيس الجمهورية الانتخابات المبكرة خلال ستين يوما من تاريخ الحل وهذا يعني أن من يدير هذه العملية حكومة مؤقتة ورئيس جمهورية مسؤول.

ثالثاً  توفير بيئة آمنة للانتخابات، فالأمن الاجتماعي والفردي عنصران مهمان لتحقيق انتخابات حرة نزيهة. فتغوّل المليشيات هو السلاح الأخطر الذي تزايدت حدود مخاطره في الشهور الأخيرة والتي تشكل أداة لطهران في النهب وتنفيذ أجنداتها في صراعها الشكلي مع واشنطن وجعل أرض العراق ساحة لذلك الصراع على حساب أمن الشعب العراقي وثرواته.وستكون المليشيات المسلحة مسلّطة على رقاب الناخبين لتمرير من يريدونه بقوة السلاح. وإذا ما استمرت تلك المليشيات بذلك الإيقاع الخطير فلن تتوفر الأجواء السليمة لأية انتخابات مقبلة.

رابعاً ـ إبقاء ملف النازحين دون حلول عاجلة يعرقل قيام انتخابات نزيهة في المحافظات  »السنية« نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك. إنّ وجود عشرات الآلاف من العراقيين في المناطق التي نزحوا إليها خلال حرب داعش بين سنتي 2014 و2017 كان وسيلة إضافية لتزوير الانتخابات النيابية الماضية إذ أن هشاشة أوضاع هؤلاء النازحين عرّضتهم للابتزاز والمساومة من قبل القوى السياسية وادواتها المسلحة الراغبة المستوطنة في تلك المحافظات في الحصول على أصواتهم فضلا عن التداخل في سجلاّت القيد الذي سمح للبعض باستخدام أسماء أعداد كبيرة من النازحين دون أن يكونوا قد أدلوا فعلا بأصواتهم.وملف كركوك بصورة خاصة ما زال أحد معوقات قيام انتخابات نزيهة وعادلة.

خامساً ـ توفير أجواء النزاهة المالية. فالمال السياسي كان من أهم أسباب التزوير في الانتخابات السابقة. حيث كثرت اللجان الاقتصادية داخل الأحزاب القائمة والتي كانت مصادر أموالها من النهب والسرقات في جميع مفاصل الحياة الاقتصادية العراقية كسرقة النفط الخام وتهريبه الى ايران خصوصاً من محافظة البصرة وبيعه لصالح المليشيات والحرس الثوري الإيراني، وكذلك الهيمنة على مرافق المنافذ الحدودية والتي تدر ملايين الدولارات التي تذهب لجيوب الأحزاب، ومنها يمكن أن تموّل الحملات الانتخابية المقبلة في حين يصعب على النزهاء من الناشطين تغطية الحملات الانتخابية مما يجعل الأمر يسيراً على إعادة الأحزاب لإنتاج نفسها.

سادساً ـ طالب ثوار أكتوبر بعدم السماح لقادة القتل والفساد معاودتهم ترشيح أنفسهم للانتخابات المقبلة والسيطرة على الحياة السياسية في البلاد مجدداً بسبب مسؤولياتهم عما حصل في العراق.

سابعاً ـ توفير الحد الأدنى من المعايير الدولية المتعارف عليها للانتخابات المقبلة، ولا تكفي بيانات ممثلية الأمم المتحدة في العراق لذلك حيث كانت غطاء سيئاً لاستمرار الأحزاب في السنوات السابقة من خلال تمجيدها بنزاهة الانتخابات وهذا حصل من قبل نفس الممثلة للأمين العام (جينين هينيس) التي مجدت بانتخابات عام 2018 والتي كانت نسبة مشاركة المواطنين بها لم تتجاوز 20.

عشرة أشهر تبدو غير كافية مع توّفر عناصر الثقة برئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، الذي يحتاج الى برامج فعلية لإزاحة عناصر القوة المالية والمليشياوية لتلك الأحزاب، ذلك إن قوى الحراك والثورة الشعبية العراقية لا يمتلكون من أدوات العمل السياسي المهني مثلما لدى الأحزاب المدعية للإسلام حيث لديها المؤسسات والمليشيات ومال النهب والسرقة. فقوة الاحتجاج والتظاهر لا تمنع مجيئ ذات الأحزاب مرة أخرى الى موقع البرلمان المقبل عام 2021.

العدد108/ايلول 2020