الحكومة اللبنانية في المأزق الاقتصادي.. العين بصيرة واليد قصيرة

بيروت – هيثم محمود

انتظر اللبنانيون نحو 9 أشهر قبل أن تتشكل الحكومة الجديدة، خلال هذه الفترة وما قبلها تراكمت الملفات بالجملة وتفاقمت المشاكل لتجعل أولويات الحكومة اقتصادية بامتياز لا سياسية ولا أمنية. من أزمة الكهرباء الى الدين العام المتنامي بسرعة وصولاً الى النمو المحدود في الناتج المحلي وغيرها الكثير من الأمور التي رسمت الخطوط العريضة للبيان الوزاري. تشكيل الحكومة وإن كان خطوة إيجابية في حد ذاته، بالنظر الى كون الحكومة الذراع التنفيذية التي سيكون على عاتقها مسؤولية ترجمة التزامات لبنان أمام المجتمع الدولي تمهيداً للاستفادة من تقديمات المانحين في مؤتمر  »سيدر«، إلا أن الأمور مرهونة بخواتيمها وسط علامات استفهام تحيط بقدرة مجلس الوزراء على العمل في فريق متجانس بينما هو محكوم بالخلافات بين الفرقاء السياسيين.

في ظل هذه ىالمعطيات والتحديات فإن ثمة خطوات يجب على الحكومة اللبنانية الجديدة المسارعة الى تنفيذها وأولها الاعلان عن برنامج إصلاحي واضح للمالية العامة مقنع وقابل للتنفيذ، يتضمن بالارقام والتفاصيل كيفية إدارة العجز وخفضه ونحديد آليات ذلك سواء عبر زيادة الضرائب أو خفض النفقات، إضافة إلى خطوات عملية للسيطرة على نمو الدين العام.

الأولوية الثانية التي يجب أن تضعها الحكومة على جدول أعمالها هي تفعيل النمو الاقتصادي، وذلك من خلال وضع سيناريو مقنع للرأي العام بجدّيتها في السعي الى الاصلاح وتكشف فيه خططها سواء لزيادة الضرائب او لتقليص حجم القطاع العام.

عون التقى سلامة ورسائل طمأنة من حاكم المركزي

وليس خافياً أهمية العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية التي شهدت معدلاتها تراجعاً خلال السنوات الماضية وفي هذا المجال لا بد من اتخاذ خطوات تعزز ثقة المستثمرين بأن لبنان تجاوز مرحلة التأزم السياسي والأمني، وكذلك ضرورة اتخاذ خطوات داعمة للاستثمار من قبيل خفض الرسوم والضرائب. وفي هذا الاطار يبدو من الضرورة في مكان تغيير الجوّ السياسي، بشكل يوحي للخارج انّ لبنان في صدد حلّ كافة مشاكله فتشكيل الحكومة ليس كافياً لاستعادة الثقة، بل هو مجرد خطوة على هذه الطريق، وهي خطوة لا بد من استكمالها بخطوات لمكافحة الفساد.

المؤسسات الدولية تراقب

على أي حال، فقد توقفت مؤسسات مالية دولية بنوع من الإيجابية عند مسألة تشكيل الحكومة. وفي هذا السياق، إعتبرت وكالة  »موديز« للتصنيف الائتماني أنّ تشكيل حكومة جديدة في لبنان إيجابي للتصنيف الائتماني للبلاد، وقال محللو الوكالة في تقرير حصلت  »الحصاد«على نسخة منه إنّ  »الإعلان إيجابي على الصعيد الائتماني حيث نتوقع أن تنفّذ الحكومة الجديدة الإصلاحات المالية الضرورية لإتاحة حزمة إستثمارية بقيمة 11 مليار دولار على مدى خمس سنوات تعهّد بها المانحون الدوليون«.

لكنّ التقرير حذر من أنّ المخاطر تظلّ كبيرة في ضوء ضعف النموّ الذي سيشكل تحدّياً لمساعي الحكومة لضبط الأوضاع المالية. وجاء فيه إن:  »الوضع المالي والمركز الخارجي للبنان سيظلّان ضعيفين إذا ما استمرّ غياب ثقة المستثمرين وأثره السلبي على نموّ الودائع، وبالتالي يزداد خطر أن تتضمّن استجابة الحكومة إعادة هيكلة للدين أو ممارسة أخرى لإدارة الالتزامات قد تنطوي على تخلّف عن السداد«. يُذكر أنّ  »موديز« خفضت تصنيف الديون السيادية اللبنانية من  »بي 3« إلى  »سي ايه ايه 1«، الذي يتضمن تحذيراً ضمنياً من خطر كبير في التعثر في تسديد الديون.

ويتأزّم الوضع الاقتصادي اللبناني بحسب  »موديز«، لانّ تغطية العجز المالي لهذا العام، ودفع استحقاق سندات دولية بالعملة الأجنبية بقيمة 2.6 مليار دولار من دون السحب من احتياط النقد الأجنبي، سيتطلبان تدفقات ودائع تتراوح قيمتها ما بين 6 و7 مليارات دولار، إرتفاعاً من 5 مليارات في 2018، ما يعني انّ على لبنان استعادة أكثر من 2 في المئة من اجمالي الودائع التي هربت الى الخارج بسبب الاوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في العامين الماضيين، والتي تشير تقديرات الى أنها تبلغ نحو 3 مليارات دولار، وذلك لاعادة تكوين احتياط كبير من العملات الاجنبية، يكفي للحفاظ على الثقة في سعر الصرف وضمان استمرار التدفقات الخارجية.

بدوره، لفت مصرف  »غولدمان ساكس« الأميركي الى انّ تشكيل الحكومة سيخفّض الاضطرابات السياسية، وسيدعم السندات الدولارية للدولة. واعتبر أنّ وجود الحكومة الجديدة يجب أن يشكّل فرصةً للبنان لإحراز تقدّم على صعيد الأجندة الاقتصادية، منها إقرار موازنة 2019 والتطبيق السريع للإصلاحات، أولها في قطاع الكهرباء. واعتبر المصرف في تقرير إنّ تشكيل الحكومة سيسرّع تنفيذ وعود الدعم المالي السعودي للبنان والذي يُتوقع أن يكون على شكل وديعة في المصرف المركزي بقيمة تتجاوز ما قدمته قطر حين اكتتبت بـ500 مليون دولار في السندات الحكومية.

وقدّر  »غولدمان ساكس« حجم العجز التمويلي الخارجي للبنان، بحوالى 11 مليار دولار في 2019، مشيراً الى انّ إعادة جدولة السندات المستحقة قد يوفر 3، 5 مليار دولار، كما انّ الدعم القطري والسعودي قد يوفّران 35 مليار دولار اضافية، ما يقلّص العجز التمويلي الى 4 مليارات دولار، يستطيع مصرف لبنان بسهولة تغطيتها من خلال احتياط العملات الاجنبية.

على المقلب الآخر، فإن  »غولدمان ساكس« رصد احتمالات سلبية في 2019 منها تراجع في تدفّقات تحويلات المغتربين، دعمٌ خارجي أقلّ من المتوقع، عدم قدرة الحكومة على إعادة جدولة آجال سندات اليوروبوند المستحقة، اضافة الى احتمال خروج اموال من البلاد.

الفراغ الحكومي راكم ملفات وفاقم الأزمات

ولم يتوقّع  »غولدمان ساكس« أن تؤدّي اموال  »سيدر« الى تغيّر في توقعات التمويل اللبنانية، باعتبار أنّ حجم تلك الاموال صغير بالنسبة الى استحقاقات لبنان التمويلية الخارجية. كما اشار الى انّ  »سيدر« سيموّل مشاريع البنية التحتية، وبالتالي قد يرتفع حجم الواردات ما يزيد عجز ميزان المدفوعات. وبحسب تقديرات المصرف فانّ لبنان يحتاج الى خفض نفقاته بنسبة 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، لتحسين أوضاع المالية العامة للحكومة.

إلى ذلك، شدد  »بنك اوف اميركا – ميريل لينش« على أنّ الاقتصاد اللبناني يحتاج الى اصلاحات عميقة وتسجيل نموٍّ قوي في الودائع لتأمين استقرار مالي واقتصادي في الأمد المتوسط. واعتبر انّ من اولويات الحكومة اقرار موازنة 2019 وبدء العمل بخطة الاصلاحات المالية وخفض العجز.

وفي حين يتوقع معظم خبراء الاقتصاد أن يحقق لبنان نمواً يزيد في المتوسط عن 2 في المئة بحلول 2021، فانّ وكالة  »ستاندرد آند بورز« للتصنيف الائتماني تتوقع أن يواصل الدين، ارتفاعه في السنوات الثلاث المقبلة إلى 156 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

رسائل تطمينات

وغداة تشكيل الحكومة صدرت جملة مواقف من مراجع رسمية في لبنان صبّت كلها في خانة توجيه رسائل التطمين محلياً وخارجياً وفي هذا المجال، طمأن الرئيس اللبناني ميشال عون اللبنانيين بأن كل المعطيات تبشر بمرحلة صعود في البلاد. وقال خلال استقباله وفداً من رجال وسيدات الاعمال في القصر الجمهوري  »إن الازمات باتت وراءنا، والوضع المالي يتحسن ومن المتوقع ان تبدأ الفوائد بالانخفاض قريبا«. ولفت إلى  »أن الصعوبات التي واجهتنا كانت كبيرة ضمن وطن مشاكله من داخله«. واضاف :  »لم تكن مشاكلنا من الخارج، لا بل ان مواقف لبنان السياسية والمنفتحة في الخارج، جلبت لنا كل التقدير والمساعدات التي نحتاج اليها، ولكننا اضعنا وقتاً طويلاً لتشكيل الحكومة، وخسرنا سنة في تحضير قانون الانتخابات«.

وفي إطار أدائه لدور صمام الأمان خلال الفترة الماضية، واصل حاكم  »مصرف لبنان« رياض سلامة إصدار مؤشرات إيجابية مؤكداً بعد لقاء جمعه برئيس الجمهورية ميشال عون الى انّه بعد تشكيل الحكومة الجديدة، اصبح الدولار معروضاً في السوق المحلية لشراء الليرة اللبنانية، وهذا يعيد تعزيز دور العملة الوطنية في الادخار. واضاف:  »دوليا، شهدت اسعار سندات اليوروبوند ارتفاعاً، ما اعاد الى هذه الاسعار زيادة نسبتها عشرة في المئة قياساً الى المستويات التي كانت بلغتها«.

وىفاعلت الأسواق المالية بشكل إيجابي جداً مع إعلان تشكيل الحكومة اللبنانية، فصعدت سندات لبنان السيادية الدولارية بنسب ملحوظة فور إعلان تشكيل الحكومة، ووضع حد للأزمة السياسية المستمرة منذ 9 أشهر، وما تلاها من أزمات اقتصادية ومالية.

وأظهرت بيانات  »تريد ويب« أن السندات اللبنانية استحقاق 2037 قفزت 4.3 سنت إلى أعلى مستوى منذ مطلع آب 2018، في حين ارتفعت السندات استحقاق 2025 أكثر من ثلاثة سنتات، إلى أعلى مستوى منذ تموز 2018. واستمرت السندات بالتحسن بعيد الإعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة.

وكان مصرف لبنان أشار الشهر الماضي إلى أن الحكومة ستبدأ في طرح سندات بالعملة المحلية، بأسعار فائدة السوق، لتشجيع المصارف على شراء أدوات الدين، بدلاً من وضع أموالها في  »المركزي« سعياً للحصول على أسعار فائدة أكثر جاذبية.

وفي إطار نشر التطمينات للمؤسسات الدولية، أكّد وزير المال علي حسن خليل خلال استقباله المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار، استعداد الوزارة لنقاش موازنة 2019 والتي يتم مراجعة أرقامها وبعض التفاصيل وفق تطورات المرحلة الماضية.

سعد الحريري في مواجهة التحديات الاقتصادية

وأعرب خليل عن ارتياحه إلى النقاش الجاري حول الجوانب الاقتصادية والمالية واعتبر أن المهم التزام الأطراف عند الدخول في أرقام وإجراءات الموازنة ليتسنى السير في مسار إصلاحي حقيقي. وعرض خليل مع المدير الإقليمي للبنك الدولي للمشاريع المشتركة بين لبنان والبنك الدولي لاسيما ما يتعلق بالحوكمة وإدارة العقارات ومشروع استحداث وظائف ومشروع الخدمات الصحية. وتطرق الجانبان إلى الإصلاحات المطلوبة والتي يتضمنها البيان الوزاري والتي تتماشى مع مقررات مؤتمر سيدر وإعطاء الأولوية لإصلاح قطاع الكهرباء وخفض العجز في الموازنة ورفع نسبة الإيرادات.

 

 

العدد 90 – اذار 2019