السعودي جاسم عساكر: “أشعلت فانوس القصيدة وانتظرت”

شهد الشعر عموماً والقصيدة خصوصاً في المملكة العربية السعودية في الآونة الأخيرة طابعاً ذو نسيج متشعّب قائم على الشكل، الأساس والمعنى.

في الشكل تعدّدت الوجهات بين التوالف المقصود والمشاعر الكامنة، في بنية ذاتية خاصة لا تعدو ان تكون توليفة لتجربة سابقة وتضمن هذه التجربة المعنى المنشود بين التأييد والطرح والاعتراض والوضوح.

أغنية لهذا المأتم… ديوانه الأكثر نضوجاً.

الوضوح، هو إحدى صفات قصائد الشاعر السعودي جاسم عساكر الذي يأتمن القصيدة في مكنونات أبياته الشعرية على ظلال الأمل ونسائم الكلمة العذبة.

“الحصاد” التقت الشاعر جاسم عساكر تعرّفت خلاله على أبرز مزايا قصيدته، وطرحت إشكالية الشعر الحديث وجو الوسط الشعري في المملكة. ننقل

إليكم تفاصيل اللقاء فيما يلي.

يعرّف عن نفسه على أنه ذاك الإنسان الذي ولد من رحم الإنسانية ليعيش ثم يعود إلى رحم الأرض ليفنى! وفي وصلة سريعة له بين الشعر والإنسانية قال: الشعر والإنسانية والفن هي عناصر كيماوية لمعادلة الحياة.  فالشعر، بحسب رأيه، كاميرا حرفية يتفنن صاحبها في التقاط صوره البديعة، يضعها في ألبومات مزخرفة، جذابة وجميلة، أما الإنسانية فهي وجه بحيرة مضيئة تنعكس عليها صور الغيوم، وقامات العشب الأخضر وخصور النخيل الريانة، أما الفنّ في عمومه دندنة عذبة لكل ما سبق!

 “الحصاد”: بداية، كيف اتجهت إلى الشعر؟ أخبرنا عن علاقتك به.

  • جاسم عساكر: بدأت الحكاية مع تجليات الفجر الأول الذي يكسو جبين المعهد الثانوي التجاري بالهفوف حين كان الضحى يتسلل برشاقة وخفة من نوافذ الفصل الدراسي بالدور الأعلى ويشاطرني المقاعد والحصص فأسرق معه لحظة ننـزوي فيها عن الدرس ونتقاسم فسحة الخيال وشطيرة الحروف على طاولة اللغة وبساط المفردات، ولم يكن ليكون ذلك لولا أنني ولدت في مجتمع متيم بالأهازيج في الأفراح، ومأخوذ بالنعي المقفى في الأتراح مما شكّل وعيي الأول وصاغ ذاكرتي على هذا النحو. علاقتي به فهي علاقة الحسناء بالمرآة،
    الشاعر السعودي جاسم عساكر.

    أعرض عليه حياتي وأتملّاها وأكسو به ملامحها ببعض المساحيق، لأغطي القبح الذي يعتريها.

  • “الحصاد”: الفنّ هو أسمى أنواع التواصل والتعبير وغالباً ما يحمل الشعر رسائل. ما رسالتك منه؟
  • جاسم عساكر: الشعر حالة فوضوية بطبعه، لا يدري الشاعر في أي واد يزج به، فهناك من وظّف الشعر توظيفاً سيئاً عبر تبجيل الظلم مثلاً، وهذا لا يعني أن الشعر لم يخدم القضايا الإنسانية العادلة ولم ينتصر للإنسان، بل على العكس كان الشعر وما زال أحد الأسلحة الفتاكة ضد الأعراف المستبدة، كما أنه قنايل مشع يبعث أضواء الأمل في النفس البشرية المأزومة.
  • “الحصاد”: تقول في احدى مقابلاتك أن القصيدة تقتحم على الشاعر زمانه، كيف تقتحم القصيدة زمانك؟
  • جاسم عساكر: نعم، وقلت أيضا أنها لا تأتي بمرسوم، وإنما تأتي على حين غرة، ولست أنا بدعا من الشعراء فربما أكون في زمن غير زمنها، حيث أجيئها متأخراً عن الحدث الذي أريد التعبير عنه، وذلك بعدما أتشرّب الموقفَ في مخيلتي إلى أن تصبح المخيلة غيمة مثخنة بالماء وليس أمامها إلا أن تمطر، وقد أجيئها سابقاً أوانها، فأكتب عن غرض سوف يحدث لاحقاً وهذا ما يسمى بشعر المناسبات، كأن أكتب للمشاركة بعد أسبوع في حفل أو مناسبة وطنية وغيرها.
  • “الحصاد”: في ظل العولمة وعصر التكتولوجيا واتجاه الجمهور نحو السرعة في التلقي والوصول، أين القصيدة والشعر من كل ذلك؟
  • جاسم عساكر: لا شكّ أن مطر الإلكتروني الهاطل بغزارة على جسد هذا الكوكب، سلب الدفء من علاقاتنا ببعضنا البعض قبل كل شيء، وجرّد أرواحنا من دثار العواطف الحميمية فيما بين الأهل والأصدقاء، فدبّ
    ديوان أطواق الشوق

    البرد في المفاصل والعظام، إلى أن امتد هذا الأثر ليشمل كل شيء، وليس الشعر عن ذلك ببعيد، فالقصيدة التي كانت تتوهج بأنفاس ملقيها أمامك في قاعة صغيرة، تلمس من خلالها وهج المشاعر، لم تعد بنفس درجة الغليان العاطفي بعد أن انتقلت من المنبر إلى الشاشة، لكن من جانب آخر يجب ألا نغفل دور التقنية الذي لعبته في تقديم المبدع وبسرعة الضوء على صعيد الحضور الإعلامي والانتشار، وإن كانت شرعت الباب على مصراعيه أمام الجميع، دون فرز ودون الموازين والاشتراطات التي تفرضها المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة عند تقديم المبدع.

  • “الحصاد”: من ناحية الاسلوب والصيغة الشعرية، أين تكمن صعوبة الشعر الموزون، في قافيته أم اختيار القضية؟
  • جاسم عساكر: الشاعر حينما يتفاعل مع قضية ما، إنسانية كانت أو وطنية أو سواها من القضايا، ويجد نفسه مأخوذا من أعماقه للكتابة عنها نجد أن القافية تنساق له تبعاً لماهية الموضوع، فالكتابة عن الفرح مثلا يفرض نمطاً معيناً من القوافي الطربية ذات البحور السريعة، مما يجعلها أكثر انسجاماً وتماهياً بين مكونات القصيدة، كذلك هو الحال في المواضيع التي تكتب للمحافل والمنابر فتكون لقوافيها جلجلة وقرقعة تهز الجماهير وتتماشى مع طبيعة المناسبة، وكذلك الحال في كتابة القصائد الوجدانية التي تتطلب نمطا هامساً من القوافي، وكل ذلك نلمسه من خلال شعورنا بالقصيدة وقصد الشاعر.
  • “الحصاد”: ما هي القضية التي تعطيك دفعة أمل، الحنين، الحب، الوطن أم الحزن والألم؟
  • جاسم عساكر: الأمل يكمن في الحب، الحب هو سيد القضايا، خاصة مع انحسار موجة العاطفة في عالمنا الكبير وتسيد المادة، ولم تعد معظم القضايا الكبرى على المسار المأمول مما حطم آمال الإنسان العربي
    ديوانه شرفة ورد…حلم شاب رومانسي

    وحاصر أحلامه فماذا سوى يذكي جذوة الأمل من جديد سوى الحب! الحب الذي يجلب الحنين من بئر الوقت، ويصنع الأوطان ويبنيها في النفوس قبل الأرض، ويقضي على الحزن والألم ويجعل الريح تكف عن الصراخ في وجه العصافير العائدة إلى الأعشاش، ليعود الغرباء إلى أوطانهم سالمين.

  • “الحصاد”: أخبرنا عن مجموعتك الأولى ٢٠٠٩ “شرفة ورد” وديوانك الأخير “أغنية لهذا المأتم” ٢٠٢٠. وما الذي اختلف بينهما من ناحية النضوج الشعري؟
  • جاسم عساكر: مجموعتي الأولى “شرفة ورد” هي مجموعة حالمة لشاب رومانسي يحاول أن يتلمس الدرب نحو محبوبته التي يبحث عنها في الحدائق وينحت اسمها على جذوع الشجر، ويرقب وجهها في غيمة تريد أن تهطل وقد ضمت (25) وردة بين التفعيلي والتناظري، وأما ما اختلفت عنها المجموعة الأخيرة “أغنية لهذا المأتم)” فقد جاءت هذه المجموعة متماهية مع الواقع لصيقة به، متخففة من الرومانسية بحكم النضج الحياتي وتراكم التجربة، وتغير المفهوم حول الشعر، وكذلك أزعم أنها أكثر فنية في الصياغة وتطوراً في الأفكار.
  • “الحصاد”: أنت ابن منطقة الأحساء، هل كان لها سبب في اتجاهك للشعر؟
  • جاسم عساكر: خصوبة الينابيع في الأحساء، ليست أكثر خصوبة من قصائد شعرائها، ولا شك أن الطبيعة الريفية ووهج السعف واخضراره، وكذلك فطرة الإنسان الأحسائي المجبول على الطيبة والانتماء لأرضه بشكل جذري، جعل كل ذلك يترك ظلاله على أرواح الناس، وخاصة الشعراء منهم، وهذا ما نلمسه في قاموسهم الشعري الذي تفوح منه رائحة التمر وأريج الليمون.
  • “الحصاد”: بالعودة إلى ديوانك الأخير، لما هذه العنونة؟
  • جاسم عساكر: جاءت العنونة تماهياً مع لحظة صدوره المتزامنة مع ما كان يعيشه العالم من السوداوية المفرطة في ظل انتشار الأمراض والأوبئة وكذلك الحروب، والهموم النفسية، إلى أن أصبح العالم وكأنه مأتم كبير فجاء هذا الديوان كأغنية تقول للبائسين واليائسين: لا تقنطوا فهناك أمل ما يختبئ في ركن ما من هذا العالم، فتعالوا لنسعد.
  • “الحصاد”: هل الشعر في المملكة بخير؟
  • جاسم عساكر: الشعر بخير، لكن المتغيرات التي طرأت على المجتمع شغلته بأمور أخرى غير الشعر، إذ نحن في زمن الصورة، والسناب شات وسواها وذلك لا شك جعل الشعر في حالة ضمور وانكفاء على النخبة. يحتاج الشعر إلى خلق وعي جديد بأهمية إيقاعه وحضوره حتى يتسيد المشهد، وهذا لا يعني أنني نرفل في ثياب القصيدة لدى بعض الشعراء في مملكتنا الغالية.

في قصيدته “أشعلت فانوس القصيدة وانتظرت”، تتماذج المعاني التي تثبت شغف الشاعر بكلماته وسعيه إلى ايجاد منافذ خالصة تمنحه الأمان والأمل، بين مشاعر الذات المختلطة ودلائل الشعر معنوية ومادية.

ونقتطف منها بعض الأبيات:

“حينما أخلو إلـيَّ أقولُ لي: من أنتَ؟

لكن لا يردُّ سوى الصدى، من أنتَ ثانيةً!!

وها إنّي كبرتُ وما اهتديتُ إلـى جواب

جَرَّبتُ أدخلُني لأقتلَ حيرتي

فوجدتُني بَشَراً كثيراً

بعضهُ ينعى – على بابِ الدقائقِ- عُمْرَهُ الماضي..

وبعضٌ ساهرٌ فـي الحزنِ يكبرُ في غيابةِ جُبِّهِ

يبكي الذينَ تصرَّموا من أهلهِ وصِحابِهِ..

والبعضُ ما زالتْ لديهِ وشائجٌ

بالـحُلْمِ والفَرَحِ اللَّذَيْنِ تَحَدَّيَا هذا التراب

بيني وبينكَ يا صديقي :

كُلَّمَا حاولتُ أُقْنِعُني بأنِّيَ واحدٌ

هاجَتْ عليَّ غرائزي شتَّى

تُكَذِّبُ ما ادَّعَيتُ..

وهكذَا مُتَشِظِّياً أحيَا

على عَدَدِ الرِّغابْ… “.