مواقع التواصل الاجتماعي والخطّ الأحمر

مخاطر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي على الأطفال والقُصَّر

        اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي الحياة الأُسريّة، وأصبح الصغار هم المصيَدة الثمينة لهذه الوسائل، فمن خلالها تعمد الكثير من الشركات والأنظمة لتمرير محتوياتها وأفكارها عبر الرموز وعبر الترويج المباشر  من دون مراعاة لقواعد الاختلاف المجتمعيّة والأخلاقيات العامة.

فما هو التأثير الحاصل من استخدام الأطفال لهذه الوسائل؟ وهل استخدامها هو حالة سلبية أم إيجابية، وعن طرق الحماية الواجب اتّباعها من قبل الأهل والمربين؛ كان للحصاد لقاء مع الأخصائيّة النفسيّة نسرين نصر، وهي معالجة نفسيّة ومدرّبة في مجال الصحة النفسيّة.

        ترى الأستاذة نسرين نصر، أنّ هناك مرحلتين ما بينهما تاريخ فاصل لأساليب التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي: مرحلة ما قبل الكورونا ومرحلة ما بعد الكورونا، وهي مرحلة فُرضت علينا، فهذه الوسائل كانت في السابق اختياريّة وكان الأهل لا يشعرون بإلزامية شراء هواتف لأبنائهم أو إعارتهم هواتفهم الخاصة،  على سبيل المثال، ولكن ما بعد الكورونا ليس كما قبله، فوجود هاتف بين يديْ الأطفال أصبح حاجة ضرورية لدواعي التعلّم عن بُعد عبر الانترنت، ولتحقيق التواصل الاجتماعي مع الخارج خلال مرحلة الحجر الصحيّة.

الانترنت بين الإيجابيات والسلبيات

تؤكد نسرين نصر ، على الدور الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، من حيث: تسهيل الوصول إلى المعلومة، تعدُد مصادر المعرفة، كذلك من الناحية الاقتصادية حيث خفّفت من أعباء شراء الكتب والاستعاضة عنها بالكتب الإلكترونيّة، إضافة إلى تزويد الأطفال بالكثير من المعارف. وهنا اختلفت خدمة الانترنت عن التلفاز مسبقًا، في أن التلفاز يعطيك ما يريده فيفرض على الرائي نوعيّة البرامج على اختلافها، أما عبر الانترنت فالشخص هو من يبحث عن المعلومة، التي يريدها، وبالتالي فالمعلومات تصبح أشمل وأكثر اتساعا، وقابلية للتحكّم.

في المقابل تتحدث نسرين نصر، عن مفهوم التحمّل، والقدرة على تحمّل ما لا نريده، ففي السابق -على سبيل المثال- كانت العائلة بجميع أفرادها تجتمع  للاستماع لنشرة الأخبار كاملة من دون إغفال أي جزء من النشرة، أمّا اليوم، تضيف: فقد انخفضت قدرتنا على تحمل ما لا نريده، وهو موضوع سلبي من الناحية النفسيّة، حيث نتعلّم التخلّص من كل ما لا نريده وهو ما لا يصحّ حدوثه في الحياة الواقعية.

أمّا في مجال التعليم، تُشير الأستاذة نصر، إلى اعتقاد بعض الأهل أنّ التعلّم السريع الذي يوفره الانترنت وخاصة في مجال تعليم اللغة لأبنائهم من خلال اليوتيوب هو في مصلحة الطفل، بالطبع هنالك نقلة نوعية، تُضيف، ولكن ما يغفل عنه الأهل أنّ هذا التعليم يحدث من دون أن يمر الأبناء بالمراحل الضروريّة لتحصيل كفايتهم التعليميّة.

 فالأطفال في مراحل تعلّمهم الأولى الخامسة أو السادسة، يتعلمون بالحواس والمجردات. فهم يكتسبون المهارات من خلال التجريب، مثل التمييز بين السخونة والبرودة،  فعدم مرورهم بالمراحل الحسيّة لهذه التجربة يوصل المعلومة إلى الدماغ بشكل أسرع وبالتالي تحرمه من تنمية الذكاء الإنفعالي والذكاء المكتسب من خلال التجربة.

تشبّه نسرين نصر، الأمر بالطعام الجاهز والطعام الذي تطبخه الأمهات من حيث الذوق والرائحة، وهو ما نستطيع أن نفسر به تعليم الأطفال: فالتعلّم السريع كالطعام السريع خالٍ من العاطفة والانفعال، وفائدته لا تعدو إشباع حاجة وقتية، فالطفل يحتاج للتعلّم من خلال التجربة وهو ما لا يتيحه التلفاز أو الانترنت لأنه يقدّم التعليم عبر التلقين، فالتعليم يكون صامتا. ومن حيث اكتساب اللغة نسأل: هل هذه اللغة موثقة بالحياة الاجتماعية؟ -والكلام للأستاذة نصر-: بالطبع لا! فالطفل يتحدّث اللغة بما اكتسبه عبر آلية الحفظ، وليس عن طريق التفاعل والحوار.

– الإدمان الإلكتروني والمشكلات الناتجة عنه

        تُثبت الشاشات أنها تخلق حالة من الإدمان والتعلّق عند الطفل. وتُعرف نسرين نصر الإدمان: بأنه حالة من التكيّف السلبي ووسيلة للهرب من التوتر. وتشير إلى دراسة أجرتها جمعية  Safety، توصلت إلى أن نسبة ٥٠٪ من الأطفال الذين يستخدمون الإنترنت يعانون من الإدمان،  والمقصود بالإدمان هنا؛ أن الطفل لا يكتفي بالساعات المحددة لاستخدام الانترنت بل قد يقضي ساعات متواصلة مع الحاجة إلى زيادتها قد تصل إلى ستة عشر ساعة وأكثر أمام شاشة الحاسوب أو الهاتف.  يأخذ الإدمان جزءا كبيرًا من تركيز الطفل وبشكل تدريجي غير ملحوظ إلا بعد مدة، فيبدأ الطفل بالانسحاب من جميع الأنشطة التي كان يمارسها، ولا يتم ملاحظة التراجع الدراسي أو المعرفي أو الاجتماعي إلا بعد مرور مدّة يبدو فيها النقص واضحًا. وعادة ما يقصد الأهل عيادات الأخصائيين لسبب التراجع في المستوى الأكاديمي والمعرفي، ونقص مهارات الكتابة بسبب الاعتياد على استخدام الإصبع الواحد في الكتابة على الهاتف، ويكتشفون لاحقًا أن الطفل لديه إدمان على هذه الوسائل.

ينتج عن الإدمان العديد من المشكلات النفسيّة التي تشمل العزلة الاجتماعية، التوتر، نوبات الغضب المتكررة، حدوث الكوابيس ليلا، وصولا إلى الاكتئاب وحتى عدوى الانتحار. وقالت المسؤولة في المؤسسة الأميركيّة  لمنع الانتحار “كريستين موتير”: ” إنّ وسائل التواصل الاجتماعي أضحت من بين الأسباب الرئيسة  في تشجيع الانتحار، وبالتالي في زيادة معدلاته في البلاد”.

وهنا تلفت نسرين نصر، إلى أنه عادةً ما يتم تصوير المنتحر في وسائل التواصل الاجتماعي على أنه إنسان شجاع قادر على اتّخاذ قرار، والطفل في معرض بحثه عن بطولة ما، يبدو الانتحار له وسيلة للتخلص من إحباطاته الطارئة وخاصة في مرحلة المراهقة. إضافة إلى الإكتئاب الذي قد ينشأ نتيجة الشعور بالنقص اتجاه مغريات العيش التي يظهر بها بعض المشاهير على المواقع كالفيسبوك والأنستغرام؛  وكذلك انتشار فيديوهات تمجد الاكتئاب والحزن كحالة طبيعية وتصور الغدر والخيانة كقيمة ملاصقة للإنسان، والاكتئاب الموافق للعزلة الاجتماعية.  فنلحظ أن كثيرًا من المراهقين لا يفضلون  الجلوس مع عائلاتهم، لأنه غالبا ما يتم شيطنة العائلة أو تصويرها كمجموعة من الأفراد المملين والملولين حتى أن بعض العائلات يتواصل أفرادها فيما بينهم عبر المحادثات الإلكترونية، حتى الانفعالات بات اختصارها بالرموز التعبيرية.

_الترويج للإباحية

تتحدث نسرين نصر، عن محتوى جنسي خطير قادم من الرسوم المتحركة التي يشاهدها الأطفال، وتلفت إلى أنها من ملاحظاتها العيادية توصلت إلى  أنّ سن مشاهدة الأفلام الإباحية قد تدنى في الآونة الأخيرة إلى عمر ١٠ و١١ عامًا، إناثًا وذكورًا، وهذه النسبة كنا نلمسها في السابق أثناء المراهقة المتقدّمة من عمر ١٤ و١٦ عاما. فهذا المحتوى يقتحم مشاهدات الأطفال والمراهقين حتى لو لم يتقصدوا الاهتمام به.

وتضيف الأستاذة نصر: المحتويات التي تمرّر على مواقع التواصل هي من الخطورة بشكل مريب فالأرقام مخيفة، وتتحدث هنا عن الترويج للمثلية الجنسيّة، ففي خلال شهر واحد قصد عيادتي ما يقارب ستّ حالات وهو يشير إلى رقم ضخم، لأن البرمجة قد تشكلت منذ زمن مسبق وما نشهده اليوم هو إعلان رسمي لها. فعلى سبيل المثال: متابعة الفرقة الكورية BTS، وهي فرقة غنائية تحظى باهتمام الملراهقين وصغار السن، مكونة من سبعة شبّان بوجوه ناعمة ومساحيق تجميل وإكسسوارت أنثوية، وتفسّر: صحيح أن هذه الفرقة لا تدعو إلى قيم المثلية بشكل واضح ولكن أسلوب ظهورهم يُشير إلى مصطلح تمييع الهوية الجنسية، حيث الذكور يظهرون بمظهر النساء، وصولًا إلى مرحلة الاشتباه وضعف المقدرة على التمييز بين الإناث والذكور، والترويج لفكرة التقبل: أن نتقبل ظهور الشبان بمظهر النساء ونعتبر الأمر عاديا.

منذ مدّة قامت بلنسياغا BALENSIAGA  وهي علامة  تجارية فاخرة مقرها في باريس، بنشر مجموعة صور ضمّت عروض أزياء للأطفال، لا تبدو الحملة الإعلانية مريبة للناظر العادي للوهلة الأولى  ولكن التمعن في عناصر الصورة يفضح محاولة رخيصة للترويج وقعت في شبهة الاستغلال الجنسي للأطفال  كظهور لعبة دب بحزام جلدي غير لائق، طفلة مستلقية على الكنبة وأمامها طاولة عليها كؤوس شفافة فارغة كتلك المُخصصة لشرب النبيذ، لاحظ المتابعون هده الدعايات وقامت حملة واسعة من قبل مشاهير وناشطين تدين الشركة والقيّمين على الإعلان، حذفت على أثره الشركة منشوراتها وأعقبت الحملة ببيان اعتذار تنفي فيه مسؤوليتها عن الإساءة الحاصلة وتحيلها إلى منظمين داخل الشركة.

لا يمكن أن يمرّ الموضوع على هذه الشاكلة اعتذار وحذفّ، وهي محاولة رخيصة لإسكات الرأي العام في الوقت الحالي، أو لجسّ النبض، فيما تواصل أمثال هذه الشركات ومن يقف وراءها من منظمين إلى دحرجة القيم الأخلاقية والإنسانية إلى القاع ودفنها تحت مسمى حرية التعبير وتقبُل الآخر.

_جيل ما بعد الصدمة والحلول المتاحة

         توضّح نسرين نصر، أنّه على الرغم من أنّ الجيل الحالي لا يعاني من صدمة إلكترونية، ولكن  التكنولوجيا تتطور بسرعة أكبر، وبالتالي تطورت حاجة الطفل للعب، فلم يعد يكتفي بلعبة واحدة بل صار يطلب المزيد وصولا إلى ألعاب تتطلب منه التواصل مع أشخاص غرباء أثناء اللعب، وهو تطور شرس لأن الطفل لديه إدمان مسبق،  والمدمن إذا لم تزيد له كمية المادة المعطاة له يزداد شراسة، ويتحول إلى إنسان عدواني، وهو ما نلاحظه عند الأطفال من سرعة الغضب والعدوانية.

والحل لعلاج حالة الإدمان عند الأطفال في عمر ما دون العشر سنوات هو إدخاله في مرحلة الفطام الكامل، من خلال حرمانه من الهاتف بشكل كلي ولمدة تصل إلى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وبعد ذلك نُسلمه الهاتف ضمن نظامنا كأهل، حتى الكبير أو المراهق عليه أن يكون على علم وبيّنة من العواقب التي قد تحدث فيما إذا خالف نظام الاستخدام، وذلك بعد أن نشرح له عن التأثير السلبي والأذى الذي يسببه له الاستخدام المطوّل للأنترنت. أما بالنسبة لللأطفال ما دون العاشرة،  فلا داعي أن نخبرهم عن الأسباب التي وفقها سيُمنع من استخدام الهاتف لمدّة محددة. فقط نخبره أن الهاتف ممنوع لأسباب خاصة بنا، ولا داعي  أن نعطه مبررات، فالصغير لا يتعاطى مع الأمور بعواقبها . على عكس المراهق الذي قد لا يقتنع ولكن يستطيع أن يفهم .

ترفض نسرين نصر، فكرة أن الهاتف أصبح أمر واقع، وتشرح:  يستطيع الأهل أن يخضعوا الموضوع لسيطرتهم بشكل كامل، عبر برامج الـ Google family  التي تضمن جزءًا كبيرًا من الحماية للأطفال .

الإدارة المبكر هي الحل، والخطوة الأولى لذلك هي اقتناع الأهل أن من حقهم بل من واجبهم مراقبة أبنائهم. فهناك أهال لم يلتفتوا للأسف إلى عواقب الهاتف. وهم غالبا ما يقصدون العيادات، كما أشرت مسبقا، عندما يلمسون تراجعًا على  المستوى الدراسي لأبنائهم، ويغفلون عن متابعة  كيفية تعامل أبنائهم مع الهاتف بحجة أن كل الأطفال يستخدمون الهاتف، في الوقت الذي يمكن للأم أن تقوم بنوع من الحرمان العاطفي تقف عند الهاتف فتصبح فجأة حنونة وعاجزة، ربما لأنّه الطريق الأسهل لإلهاء الطفل وإسكاته وتلافي مشاكله!

تحديد الوقت، هو من الأساليب الفعالة، فلا أقول للطفل أنهي درسك وخذ الهاتف. فبهذه الطريقة لا يتعلم الطفل الانضباط، بل يجب تحديد المدة فأخبره، على سبيل المثال، يمكنك استخدام الهاتف ساعة واحدة اليوم بعد الانتهاء من تحضير واجباتك المدرسية، سواء أنهى درسه في وقت مبكر أم تأخر. وبالطبع من المفضل عدم إعطاء الهاتف للطفل كل يوم، هنا نتحدث عن أعمار ١١ و12 سنة، أما الأطفال دون العشر سنوات نخصص لهم يوما واحدا في الأسبوع يفضل أن يكون في نهاية الأسبوع ولساعات قليلة.

الابتعاد عن الألعاب عبر الانترنت، لأنها أكثر الوسائل لتمرير الدعايات الغير ملائمة والمشبوهة، فقد تفتح للطفل سبلا للتصفح غير الآمن، والدخول في غرف المحادثات الخاصة مع الغرباء، لذا على الأهل والمربين  تقديم النصح والإرشاد على أن يتم ذلك ضمن إطار التوعية بالأسلوب المناسب لعمر الطفل، من خلال التحدث عن المخاطر التي يتعرضون لها فيما إذا أفصحوا عن بياناتهم الخاصة أو شاركوا خصوصياتهم مع الغرباء، على أن يكون التحذير والتوعية عن الابتزاز الإلكتروني أكثر وضوحًا كلما اقترب الطفل من عمر البلوغ أو المراهقة وخاصة الفتيات.

وفي الختام تشدّد نسرين نصر، على ضرورة توعية الأطفال على قدر عقولهم وارتكازًا إلى ما يعرفونه:  والإحاطة بعالم الطفل من خلال متابعته والسعي  لاكتشاف ما يعرفه الطفل من خلال المراقبة والمساءلة المستمرة، مع تجنب إشراكه بشكوكنا الخاصة فلا يجب أن أفتح للطفل عن موضوع إشكالي أو ألفته إلى محتوى ترويجي معيّن لم يسبق أن شاهده أو لفت انتباهه، بل من خلال إفساح المجال له للحك والتعبير عن أفكاره. وعادة ما يعبر الأطفال والمراهقين عن معارفهم الطارئة  من خلال التلميح لها، عبر السؤال مثلا أو رسم معين، أو سلوكيات تظهر عليه، وعندما نلحظ أنه يدور حول المواضيع، وكذلك بتتبع صندوق البحث في الغوغل قد نصل إلى ما يبحث عنه أو يثير قلقه المعرفي.