السودان: صراع التاريخ والجغرافيا

مصير البلد معلّق على مصالح الجنرالين وعواصم كبرى وراء الكارثة

لا يمكن النظر إلى الصراع الحالي في السودان من دون أن نفهم المسار التاريخي لهذا البلد الذي ما برح ينتج الحروب والصراعات على أشكالها المختلفة. وحين ندرس توالي صراعات البلد وتشتت طاقاته وموارده، فإنه يسهل استنتاج أن الموقع الجغرافي والجيوستراتيجي يضع السودان على خارطة النفوذ والمصالح الكبرى. ووفق هذه المعادلة فقط يمكن مقاربة الحروب التي أدت إلى تفسيم البلاد بين جنوب وشمال والحروب الأخرى التي قد تؤدي إلى تفتيته وتشظيه.

حروب منذ الاستقلال

نشبت حرب بين شمال السودان وجنوبه في مرحلة أولى (1956-1972) ثم ثانية (1983-2005) إلى أن انتهت باتفاق نيفاشا  (2005) للسلام وتقاسم السلطة. أتاح الاتفاق الصعب والمعقّد للجنوبيين أن يختاروا ما بين البقاء في سودان موحد أو الانفصال، فصوتوا في استفتاء عام 2011 لصالح الانفصال.  تحدّثت أرقام ذلك الصراع عن سقوط أكثر من 2.5 مليون قتيل ونزوح الملايين. ولم ينشغل العالم أجمع بهاتين الحربين كما ينشغل هذه الأيام بالحرب التي اندلعت منذ 15 نيسان الماضي.

الجنرال عبد الفتاح البرهان: لا كلام مع المتمردين

تعامل العالم مع حرب الشمال والجنوب بصفتها “حرباً أهلية” ذات تصنيفات مختلفة: عربية – أفريقية، إسلامية – مسيحية – وثنية، هامش ومركز… إلخ، لكن تلك الحرب، وعلى الرغم من صداها العابر للحدود، بقيت بيتيّة يخوضها السودانيون بتواطؤ من عواصم الخارج، لكنها لم ترقَ إلى مستوى إقليمي أو دولي.

قامت عقائد الصراع بين الشمال والجنوب على أن السبيل الوحيد لحلّ نزاع الأطراف مع المركز في الخرطوم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال القوة المسلّحة وأن لا نجاعة من تسجيل أي إنجاز عبر ما تشكّل وما يمكن أن يتشكّل من هياكل سياسية وحزبية ونقابية. غير أن فكرة الانفصال كانت غائبة عن عقائد الضابط جون قرنق حين التحق بتمرد الجنوب عام 1983 وصار قائداً له.

يذكر السودانيون أن الرجل حين عاد إلى الخرطوم في 8 تموز (يوليو) 2005 ليتسلّم منصبه كنائب أول للرئيس بعد اتفاق السلام، وجد زحفاً بشرياً ينتظره في عاصمة البلاد. أثار المشهد قلقاً لدى نظام الرئيس عمر البشير الذي استنتج بسهولة طموحات قرنق في أن يكون يوماً ما زعيماً للسودان والسودانيين، أي أن يكون مركزاً لا هامشاً. ولم يُسجل لقرنق أنه كان مشجعاً للانفصال، غير أن مقتله الغامض إثر تحطم طائرته في 30 تموز (يوليو) 2005، أزاح “كابوس” زعامته للسودان عن صدر النظام السياسي القائم آنذاك، وربما دفع الجنوبيين للتصويت في استفتاء بعد 6 سنوات لإقامة دولتهم المستقلة.

روّجت تجربة الحرب الشمالية – الجنوبية لقيام فصائل مسلحة أخرى للدفاع عن مطالب مناطق دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها. وعلى الرغم مما يمكن أن يُكتب بشأن صراع المركز والأطراف، فإن تلك الصراعات، لا سيما في إقليم دارفور، اختلط داخلها هذا التصنيف بصراع القبائل التقليدي والصراع بين رعاة الماشية والمزارعين، ناهيك بطابع ملتبس للصراع بين عرب وأفارقة. غير أن وضع مجهر تحليلي على ظاهرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) تفضح تشابكاً يُظهر أن قوات “الجنجويد” التي تناسل منها جيش

الجنرال “حميدتي: البرهان لا يمثل الدولة

“حميدتي” كانت تمثّل المركز في صراعه مع الهامش في دارفور.

الحرب من أجل زعامة سودان موحد

لا يعمل الجنرال محمد حمدان دقلو”حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، على إنشاء دولته في دارفور، وليس صحيحاً أنه قد يلجأ إلى الإقليم ليقيم هناك كياناً سياسياً منفصلاً. يشيّد الرجل خطاباً ينافس فيه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على السلطة في البلاد. يذكّر الأمر بطموحات الراحل قرنق الذي دخل الخرطوم بالسلم فيما يسعى قائد “الدعم السريع” للسيطرة على العاصمة بالقوة. وسخرية التاريخ أن الفصائل المسلحة في دارفور التي كانت تقاتل الخرطوم و”جنجويدها” في الإقليم قد تقف إلى جانب الجيش ضد قوات “حميدتي” في الإقليم.

يكتشف العالم السودان فجأة. يجهد الخبراء في فكّ شيفرة البلد المعقّد في تعدده وقبائله وأعراقه وجهاته. يستنتج المراقب بسهولة هراء الاستسلام إلى نظريات ثنائية من قبيل: المركز – الهامش، العرب – الأفارقة، المدنيون – العسكر، الإسلاميون – العلمانيون…إلخ، وهو ما يفسّر ذلك الارتباك الذي يعتري العواصم القريبة والبعيدة في الموقف من الصراع وأطرافه.

في ذلك التعقّد ما يشكّك أيضاً بتاريخ الصراع بين عسكري ومدني منذ الاستقلال. ولئن سيطر العسكر على السلطة مقابل استثناءات حزبية مدنية سياسية، فإن قراءات أخرى لتاريخ الانقلابات العسكرية في هذا البلد تنفي عن العسكر عيب الانقلابات وتؤكد أن تحرّك الجيش جاء دائماً بناءً على ضغوط الأحزاب السياسية وبطلب منها.

السياسيون هم المنقلبون لا العسكر

جرى أول انقلاب في السودان عام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود. يروي غسان علي عثمان الباحث في الشأن السوداني، أن رئيس وزراء السودان سكرتير حزب الأمة آنذاك هو الذي ذهب إلى قائد الجيش وطلب منه أن يتسلم السلطة وهو ما حصل حتى سقوط الحكم العسكري بثورة شعبية عام 1964.

حصل الأمر نفسه حين قامت، وفق هذه النظرة التاريخية، أربعة أحزاب: شيوعية وناصرية وقومية وبعثية بدفع العقيد جعفر النميري لأن يتسلم

كارثة تنتظر حسما عسكريا أو صفقة سياسية

السلطة التي استمرت حتى سقوطها عام 1985. وحصل أيضاً حين قام “الإخوان المسلمون” تحت مسمى الجبهة القومية الاسلامية بدفع العقيد عمر البشير للقيام بانقلاب عسكري عام 1989.

واللافت في وجهة نظر الباحث السوداني أن العسكر عبّروا دائماً عن طموحات الأحزاب السياسية وأطماعها وإن انقلبت سلطة العسكر على قيادتها السياسية لاحقاً. وما هو لافت في السودان أن الأحزاب السياسية اخترقت المؤسسة العسكرية وجنّدت تيارات وقوى داخل الجيش وحرضتها للاستيلاء على السلطة.

واللافت أيضاً أن السياسة توسّلت العسكر، فيما النقابات التحقت بالفصائل المسلحة ما شكل حالة تماهٍ بين ما يمكن أن يصنع ديموقراطية وما يصنع استبداداً. يستخدم أستاذ تاريخ أفريقيا والإسلام بجامعة ميسوري الأميركية البروفسور عبد الله علي إبراهيم عبارة: “من النقابة إلى الغابة” في تفسير الهجرة من التقاليد النقابية إلى الميليشيوية “لأن الطواقم التي كانت تقوم وتنظم وتعبئ وتكافح هي التي قررت أن الغابة هي الحلّ”.

ذلك التعقّد الخفي في علاقة السياسي بالعسكري في تاريخ السودان ينسحب على ما يحصل هذه الأيام من تعقّد في علاقات الميليشيا بالجيش والفصائل المسلحة بالمكوّنات المدنية وعلاقة العرب بالأفارقة ما يفرّغ أي هياكل تقليدية لصراع يزعم أنه يجري بين المركز والأطراف أو بين متن السلطة وهامشها.

التسوية الصعبة

تبدّل شيئ في حسابات أطراف النزاع في السودان وأدى إلى إعادة تعويم مسار تسوية سياسية كان يُفترص أن تنهي الحرب المندلعة منذ  نيسان (أبريل) الماضي. والظاهر أن التبدّل طاول دولاً معنيّة بالشأن السوداني باتت أكثر حماسة (أو اضطرارا) لدفع المتقاتلين إلى إيقاف الصراع عسكرياً والاعتراف بأنه -كأي صراع عرفه السودان منذ استقلاله- لا يمكن الخروج منه إلا بالمفاوضات والاتفاق السياسي.

وإذا ما صحّ أن التسوية تقوم على أساس لقاء مباشر يجمع رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، فإن الأمر يعني أن الجنرالين باتا أكثر اقتناعاً باستحالة تحقيق “نصر” ينهي الصراع بالأدوات العسكرية، وأن الرجلين استنتجا بعناية تعقّد الوضع الميداني الداخلي وعدم الركون إلى ما يُنجز في كرّ هذا وفرّ ذاك.

والواضح أن البرهان أجرى مراجعة لمواقفه على نحو انقلابي قاده في 9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري إلى حضور قمّة استثنائية لقادة ورؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” في جيبوتي. كان الرجل قد رفض سابقا الانخراط في جهود لجنة “إيغاد” الرباعية الخاصة بالملف السوداني اعتراضا على رئاسة كينيا لهاً (أنهت القمّة الأخيرة عمل اللجنة). وبدا أن تحوّلات البرهان جاءت إثر حراك دبلوماسي قاده قبل ذلك إلى لقاء الرئيس الكيني وليام روتو في نيروبي، ورئيس وزراء الاثيوبي أبي أحمد في أديس ابابا. والأرجح أن لقاءه  برئيس جيبوتي إسماعيل غيلي أدى إلى ولادة قمّة “إيغاد” الطارئة.

ومن المهم ملاحظة الحضور الإقليمي الدولي للقمّة سواء على مستوى الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ودول جوار السودان، لكن أيضا المشاركة اللافتة للولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وقطر والإمارات. الأمر يعني أن مزاجا خارجيا بدا أكثر انسجاما للإدلاء بدلو واحد يُقنع المتقاتلين بإنهاء حقبة الحرب والعنف والدمار. وكان واضحاً أن قيام  “إيغاد “، من خلال البيان الختامي بشكر الإمارات على مشاركتها، وعلى دورها البارز في إيجاد حل للأزمة السودانية، يبعث برسالة إلى الداخل السوداني وإلى الخرطوم بالواقع الحالي للإرادة الدولية في شأن السودان.

الخضوع للتسوية

قد يكون من المبكّر كشف الظروف التي دفعت البرهان وفريقه حينها للتراجع عن الموقف السلبي من الدور الكيني. للتذكير فإن وزارة الخارجية السودانية كانت قد أصدرت بياناً في حزيران (يونيو) الماضي يتهم كينيا بالانحياز لقوات الدعم السريع بما يفقدها صفة الحياد المفترض أن تتحلى به الدولة الوسيطة. وذهب الجيش السوداني، وفق تصريحات لنائب قائد الجيش السوداني الفريق ياسر العطا في تموز (يوليو) الماضي، إلى التهديد بـ “غزو كينيا” بسبب اقتراح إرسال قوات أفريقية إلى السودان.

أتى ما أُحرز من تقدم في جيبوتي بعد أيام على قرار أميركي سعودي بتعليق المفاوضات التي كانت جارية بين طرفي الصراع في جدة. والأرجح أن هذا القرار من دولتين أساسيتين راعيتين للتسوية في السودان قد ساهم في تعظيم الضغوط من أجل الخروج بخلاصات أخرى.

صراع صيني غربي في السودان وأفريقيا

وعلى الرغم من الدفع الإيجابي الذي أوحت به القمّة بحضور البرهان، غير أن ما صدر عن وزارة الخارجية السودانية لاحقاً من تحفّظات وملاحظات طرح أسئلة من قبل خصوم البرهان بشأن صراع أجنحة داخل صفوف النظام في الخرطوم. طالب بيان الوزارة بحذف الإشارة لعقد رؤساء الـ “إيغاد” مشاورات مع الدعم السريع “لأن البرهان لم يشارك فيها”. وطالب بـ “تصحيح موافقة البرهان على لقاء قائد الدعم السريع لأنه اشترط وقف دائم لإطلاق النار وخروج القوات من العاصمة”. وطالب البيان أيضا بـ “تعديل الفقرة التي تدين التدخلات الخارجية بحيث لا تتضمن المساواة بين الجيش والدعم السريع”.

وعلى الرغم من تحفّظات وملاحظات الفريقين على نصّ البيان الختامي للقمّة ومحاولتهما تعديل مواقعهما على طاولة اللقاء بين البرهان وحميدتي، فإن الأمر لم يكن ليحول دون إجراء هذا الاجتماع. وقد أوحت أجواء “إيغاد” أنه مطلوب حدوث الأمر في غضون اسبوعين من القمّة مع احتمال أن تبقى أديس ابابا (كما كان اقترحت “إيغاد” اللقاء في حزيران (يونيو) الماضي) مكان الحدث. ومع ذلك فإن البرهان اشترط لإجراء اللقاء وقفا دائما لاطلاق النار وانسحاب “الدعم السريع” إلى خارج العاصمة.

وأتت جهود “إيغاد” لتمثّل على ما يبدو استعاضة عن أدوار دبلوماسية فقدت منذ بداية الصراع قبل 10 أشهر. فقد رفض مجلس السيادة بقيادة البرهان التعامل مع المبعوث الأممي فولكر بيرتس “بسبب انحيازه”، ما أدى لاحقاً إلى إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة “UNITAMS”. وتمّ لاحقا تعيين الدبلوماسي الجزائري رمضان العمامرة مبعوثا شخصيا للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان.

خطاب الجنرالين

كانت واضحة حساسية البرهان من أداء المنظمة الأممية وأي منظمات أو قوى إقليمية لا تتفق مع سردية مجلس السيادة والجيش للصراع للأخير. ويعتبر المجلس أن قوات الدعم السريع هي ميليشيات متمرّدة ولا يجب اعتبارها ندّا للجيش في السودان وأن قائد هذه القوات -الذي أُقيل من منصبه كنائب لرئيس مجلس السيادة- بات مطاردا من قبل القوات الشرعية. بالمقابل فإن حميدتي يرفض التعامل مع البرهان بصفته قائد مجلس السيادة (أي قائد الدولة في الوضع الراهن) بل كقائد للجيش. وإذا ما صحّ عن نية الرجلين اللقاء فإن الأمر يكشف مدى العقبات الشكلية الواجب تجاوزها.

صحيح أن قوات الدعم السريع رحبت حينها بنتائج القمة، غير أن البيان الصادر عنها أوضح أنها رفضت المشاركة في القمة رغم وصول وفدها لجيبوتي احتجاجاً على مشاركة البرهان بصفته رئيساً لمجلس السيادة السوداني. وأكد أن قائد الدعم السريع وافق على طلب المجتمعين على عقد اجتماع رسمي بينه والبرهان شريطة أن يمثل البرهان خلال الاجتماع المقترح بصفته قائداً للجيش وليس رئيساً لمجلس السيادة.

الأرقام تتحدث عن مقتل 12 الف شخص منذ اندلاع القتال. تتحدث أيضاً عن نزوح أكثر من 6 ملايين شخص وتدمير كبير للبنية التحتية للبلاد. الحرب أباحت ارتكاب مجازر وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان ترقى إلى مستوى جريمة حرب، على الأقل وفق الاتهامات الأخيرة لوزارة الخارجية الأميركية.

على خلفية ذلك كان مبكراً “الإيمان” بتحوّل انقلابي للحدث في جيبوتي. رحبت الولايات المتحدة بما تحقق وهي التي اتهمت طرفي الصراع قبل أيام من القمّة بارتكاب جرائم حرب في السودان ما صبّ غشاوة على موقف واشنطن واتجاهاته وهي التي ما زالت متمسّكة بموقف محايد حتى في توزيع المسؤلية عن هذه الجرائم. يبقى أن التعويل يترّكز على إرادة إقليمية دولية بإنهاء صراع هو أساسا جزء من اختلال النظام الدولي وارتباك قواعده. لسان حال المتشائمين يقول إن حرب غزة وأوكرانيا وانقسام العالم بين شرق وغرب لا يوحي بأن الظروف متوفّرة لمنح السودان بشكل استثنائي سلاما في مشهد ما زال يشي بحقبات لإدارة الصراع لا إغلاقه.

حرب الإيديولوجيا المزعومة

ما قلب الأمور رأسا على عقب هو الاختراق الذي سجلته قوات الدعم السريع في 18 كانون الأول (يناير) الماضي في ولاية الجزيرة إثر سقوط عاصمتها، مدينة ود مدني الاستراتيجية، فقد شكّل تطوّرا دراماتيكيا جديدا. والولاية  السودانية ذات ثقل اقتصادي وزراعي وموقع إستراتيجي يربط بين الشرق والشمال والجنوب. والحدث، الذي قيل إن أسرارا وراءه بسبب انسحاب مثير للجدل لقوات الجيش من المنطقة، أطاح بروح التفاؤل التي خرجت بها قمّة “إيغاد” عقدت، وبدا أن لغة النار ما زالت ديدن المتقاتلين خصوصا إذا ما بات القتال ضرورة لتحصيل مكاسب تقوي أوراق المتفاوضين.

وفق ذلك فما زال الخيار العسكري هو الفيصل في المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وما زال المتقاتلون لا يجدون في المبادرات السياسية العربية الأفريقية الدولية ما يمكن أن يحمل تسوية جادة لإنهاء الحرب. والأرجح أن الطبيعة العسكرية التي قام عليها الطرفان لجهة التميّز بما يمتلكانه من قوة نارية تجعل من الحرب هدفاً بحدّ ذاته لا يجيدان منذ نشوئهما استخدام غيرها سبيلا لحلّ الصراعات.

والحرب المندلعة بشراسة لا تجري بين سلطة ومعارضة أو بين عسكر ومدنيين، أي أنها ليست بين نقيضيين أيديولوجيين. وحتى لو أن الطرفين يدّعيان الدفاع عن قماشة أيديولوجية أخلاقية تبرر لجوءهما للاحتكام للغة النار والدمار، غير أن حقيقة الأمر تفضح انهيار شراكة طويلة تتحدر من عهد الرئيس السابق عمر حسن البشير بين الجيش والميليشيا، وبين قائد الجنرالين، رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (الملقب بحميدتي).

وإذا ما يَعِد حميدتي بالقضاء على “دولة الكيزان” المتناسلة من حكم الإسلاميين في ظل نظام “الإنقاذ” في عهد البشير وإقامة الدولة العادلة، فإن “قوات الدعم” التي يقودها هي نتاج النظام البائد وتشكّلت بقرار من البشير الذي مأسس وجودها بعد أن كانت ميليشيا عربية محلية تقاتل ميليشيات معادية في إقليم دارفور. وإذا ما يتوعّد البرهان بالقضاء على “الميليشيا المتمردة”، فذلك لا ينفي أن “الدعم” كانت شريكة للجيش في الإطاحة بالحكم السابق بالانقلاب على البشير واعتقاله وقادة نظامه ثم قيادة مجلس السيادة لاحقاً.

وللتاريخ فإن الجسمين العسكريين لم يكونا يوما جديين في تنفيذ خطّة طريق تقود إلى تسليم السلطة للمدنيين. كما أنه كان مستغربا من القوى المدنية، على الرغم من تنامي شعبيتها في الشارع السوداني، أن تصدّق أن قوتها باتت توفّر شرعية للانتقال الطوعي من “دولة الاستقلال” إلى دولة مدنية حديثة على منوال ما كان يطالب المجتمع الدولي. وإذا ما يأخذ حميدتي على البرهان قيامه بالانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، فإنهما في ذلك يتقاسمان مسؤولية الفعل وردّ الفعل وإن اعترف حميدتي لاحقا بخطأ هذا الانقلاب.

بدا أن الاتفاق السياسي الذي وقّع في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2022 بموافقة ومباركة الجنرالين حضّر المشهد للصراع الكبير. ولئن يستهجن البرهان ردّ فعل حميدتي من خطة لدمج قوات الدعم السريع داخل الجيش، فإن الأمر، رغم طوباية زوال الميليشيا لصالح مؤسسة الدولة العسكرية، هو كلام حقّ، لكنه مشروع إطاحة بمصالح ونفوذ وحسابات محلية وإقليمية وحتى دولية من المنطقي، تفسيرا لا تبريرا، أن تدافع عن وجودها.

ظهور حميدتي الغامض

للتذكير حضر قمّة “إيغاد” ممثلون عن جميع الدول المعنية أو المنخرطة في شأن الحرب في السودان أعمال القمّة في جيبوتي. لكن جانبا من أسباب استمرار المعارك وتصاعدها قد يكون بسبب خلاف تلك الدول أساسا بشأن مستقبل السودان والسبيل الأنجع لإنهاء القتال. وإذا ما كان المجتمع الدولي بأطرافه، العربية والأفريقية والدولية، عاجز عن فرض إرادته على السودان ومتقاتليه، فذلك قد يعود أيضا إلى غياب هذه الإرادة وربما غضّ طرف القوى النافذة عن مزيد من حراك الميادين لعله يفرض واقع أمر أو إنهاك.

وعلى رغم من صفعة “ود مدني” وانتشار قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة وتعزيز الجيش بالمقابل لقواته شرقاً في ولاية القضارف، لحماية بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة والمعقل الجديد، لقادته، فإن الطرفين ما زالا يلمّحان إلى خيار التفاوض. يثير البرهان الأمر واعداً “بعدم التوقيع على اتفاق سلام مذل”، فيما تستقوي “الدعم السريع” بانجازاتها العسكري الجديدة والمحتملة وتشترط للقاء حميدتي بالبرهان أن يحضر الأخير بصفته قائدا للجيش  وليس رئيسا لمجلس السيادة. غير أن الانجازات العسكرية لـ “الدعم السريع” قد تغري حميدتي إلى الاستغناء عن فكرة التفاوض والتعويل على حسم عسكري يفرض الأمر الواقع.

يفرج الميدان كل يوم عن مفاجآت، ويعيش البلد على وقع حرب إشاعات وتضليل تلمّح إلى احتمالات نشوب صراع داخل الجيش في ظل غياب الشفافية عن أداء العسكر واللغط الهوياتي الذي لحق به منذ خروج قادة من النظام القديم من السجن ورواج حديث “قوات الدعم” عن نفوذ إسلامي يحاصر حراك البرهان ويملي عليه قراراته. وفق ذلك وجب أخذ الحيطة والحذر في تناول شأن بلد شديد التعقيد في بنيانه الاجتماعي والسياسي بحيث يسهل الوقوع في خطايا إطلاق أحكام تعوزها الدقة والحصافة.

والغريب، وفي عزّ الكارثة السودانية ترك حميدتي الإشاعات تروج وتزدهر بشأن بقائه على قيد الحياة. لم تظهر صورته ولم يطل إعلاميا ما عزز أنباء بشأن غياب قسري وصولا إلى تأكيدات صدرت من هنا وهناك تؤكد مقتله. حتى أن إعراض الرجل عن حضور اللقاء مع البرهان “لأسباب فنيّة” وفق رواية جيبوتي دفعت إلى تصديق رواية الوفاة. طبعا ظهر الرجل بعدها يجول بين العواصم القريبة حتى البعيدة من دون تفسير لهذا الغموض غير البناء. بالمقابل فإن التطوّرات الميدانية التي أضعفت موقع البرهان في المفاوضات قادت إلى قرار من قبله يوحي برفض فكرة اللقاء والذهاب إلى الحسم العسكري.

تحمل أنباء المعارك تحريكا لخطوط المعارك على نحو ينبّه الولايات المتحدة إلى تضخّم فوضى غير محسوبة في موسم حربي أوكرانيا وغزّة. يسهل رصد تحرّك في واشنطن، وعلى مستوى الكونغرس هذه المرة، لدفع إدارة الرئيس جو بايدن للإمساك بالملف مباشرة وتعيين مبعوث جديد خاص لواشنطن إلى هذا البلد والتوقف عن سياسة الحياد المعتمدة منذ تفجّر القتال في توزيع الملامة على جانبي الصراع والذهاب بعيدا في السيطرة على الصراع هناك بصفته بدأ يمسّ بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ومصالحها في القارة والعالم.

تتحدث مصادر “إيغاد” عن مشاورات تتم لاختيار المكان والزمان بشأن لقاء الجنرالين. لكن وجبت هنا قراءة واقع السودان وتعقّد صراعاته في سياق الموقع الجيوستراتيحي للبلد داخل “لعبة الأمم”. ووجب تجنّب التعجّل في قراءة المشهد السوداني من خلال لاعبيه المحليين فقط من دون تفحّص مسارات التنافس الإقليمي والدولي داخل أفريقيا. فإذا ما كانت مصالح دول الجوار منطقية والمصالح الإقليمية مفهومة في سياق ما شهدته المنطقة في العقد الأخير منذ اندلاع “ربيع” العرب، فإن المشهد يصبح أكثر شراسة تحت مجهر صراع أميركي غربي روسي صيني يجد في صراع السودانيين ما يمكنه أن يحسّن تموّضع الأطراف الدولية على رقعة التوازنات في العالم.

إذا ما يَعِد حميدتي بالقضاء على “دولة الكيزان” المتناسلة من حكم الإسلاميين في ظل نظام “الإنقاذ” في عهد البشير وإقامة الدولة العادلة، فإن “قوات الدعم” التي يقودها هي نتاج النظام البائد وتشكّلت بقرار من البشير الذي مأسس وجودها بعد أن كانت ميليشيا عربية محلية تقاتل ميليشيات معادية في إقليم دارفور. وإذا ما يتوعّد البرهان بالقضاء على “الميليشيا المتمردة”، فذلك لا ينفي أن “الدعم” كانت شريكة للجيش في الإطاحة بالحكم السابق بالانقلاب على البشير واعتقاله وقادة نظامه ثم قيادة مجلس السيادة لاحقاً.

في عزّ الكارثة السودانية ترك حميدتي الإشاعات تروج وتزدهر بشأن بقائه على قيد الحياة. لم تظهر صورته ولم يطل إعلاميا ما عزز أنباء بشأن غياب قسري وصولا إلى تأكيدات صدرت من هنا وهناك تؤكد مقتله. حتى أن إعراض الرجل عن حضور اللقاء مع البرهان “لأسباب فنيّة” وفق رواية جيبوتي دفعت إلى تصديق رواية الوفاة. طبعا ظهر الرجل بعدها يجول بين العواصم القريبة حتى البعيدة من دون تفسير لهذا الغموض غير البناء. بالمقابل فإن التطوّرات الميدانية التي أضعفت موقع البرهان في المفاوضات قادت إلى قرار من قبله يوحي برفض فكرة اللقاء والذهاب إلى الحسم العسكري.

إذا ما صحّ أن التسوية تقوم على أساس لقاء مباشر يجمع رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، فإن الأمر يعني أن الجنرالين باتا أكثر اقتناعاً باستحالة تحقيق “نصر” ينهي الصراع بالأدوات العسكرية، وأن الرجلين استنتجا بعناية تعقّد الوضع الميداني الداخلي وعدم الركون إلى ما يُنجز في كرّ هذا وفرّ ذاك.

روّجت تجربة الحرب الشمالية – الجنوبية لقيام فصائل مسلحة أخرى للدفاع عن مطالب مناطق دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق وغيرها. وعلى الرغم مما يمكن أن يُكتب بشأن صراع المركز والأطراف، فإن تلك الصراعات، لا سيما في إقليم دارفور، اختلط داخلها هذا التصنيف بصراع القبائل التقليدي والصراع بين رعاة الماشية والمزارعين، ناهيك بطابع ملتبس للصراع بين عرب وأفارقة. غير أن وضع مجهر تحليلي على ظاهرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) تفضح تشابكاً يُظهر أن قوات “الجنجويد” التي تناسل منها جيش “حميدتي” كانت تمثّل المركز في صراعه مع الهامش في دارفور.