الشاعر علي نسر: القصيدة وصاحبها رقعة شطرنج تتقاطع مربعاتها حينا وتتوازى حينا آخر

بيروت ـ رنا خير الدين

يفيض إحساس الشاعر بمدارك الحنين وزوايا الطفولة وذكرياتها، ذكريات لها في نفس كل واحد منا أثر، أثر بليغ يظهر في تصرفاتنا الحياتية، لو لم نكن مدركين، لكن يختلف هذا الأثر عند صاحب النفس الشعري المرهف كشاعرنا اليوم في »الحصاد« الشاعر علي نسر، الذي تثقب طفولته معظم لا بل أطراف قصائده جميعا بصورة أو بأخرى، لذا يفيض منها الحنين والألم والذكريات.

طفيف الإحساس يسكن قصائده، وحب الشعر يغذّي دماءه، وأنين الماضي يطرق أبواب شعره، هو باختصار أكاديمي وشاعر وصحافي، يختزل الإحساس شعرا ويسقي القوافي جمالا. ويرى الشاعر علي نسر أن الشعر يبقى والفن عموما، الوسيلة التي يمكن التعويل عليها، فهو سبب من أسباب التنقية وتصفية النفس، هكذا وجده أرسطو حين دافع عن الشعراء ردّا على استاذه أفلاطون الذي لم يلق في الشعر والشعراء أهمية لأنهم يحاكون المحاكى دون تعديل ذي قيمة في الوجود. ونعرض لكم فيما يلي تفاصيل المقابلة.

»الحصاد«: أخبرنا قليلا عن ديوانك الأخير » وطن تنهد في قوب الناي«.

»علي نسر«: ديوان وطن تنهّد من ثقوب الناي، هو مجموعة من القصائد المتباعدة زمنيّا، تمّ اصطفاؤها لتكون ترجمة لما يختلج في صدري، فحاولت ذلك، جامعا بين الشعر الغزلي والوطني والطبيعة والحياة الاجتماعية، حتى أنّ هناك قصائد تجمع القصيدة الواحدة منها، في

الشاعر علي نسر
الشاعر علي نسر

تلافيفها، هذه القضايا نفسها.. فاختلطت الوجوه لتتنهّد من ثقوب الناي وطنا من أرض وأمّ حبيبة، وبيادر من طفولة لمّا تحنْ مواسم قطافها بعد.

»الحصاد«: إلى أي مدى صدق الشاعر يحمّله مسؤولية تجاه القارئ، وهل الصدق وحده قادر على الدخول في نفس القارئ؟

»علي نسر«: على الرغم من أنّ شبح القارئ يرافق قلم الكاتب منذ انطلاقة مشواره على أديم الورق، إلا أنّ موضوع الصدق والمصداقية، شيء نسبيّ وليس قضية تقلق صاحبها في الشعر كباقي الأنواع الكتابية والإبداعية والبحثية والنقدية… لأنّ التفاعل بين القارئ والشاعر خصوصا، يتفاوت بين قارئ وآخر، فما يراه أحدهم صدقا حرّك فيه رواسب من مشاعر بسبب ازالة الغبار عن أقفالها، قد يجدها آخر ضربا من التخييل الجميل، وقد يجدها ثالث ضربا من تفريغ صاحبها ليس فيها من الصدق شيء… صحيح أنّ الشاعر عليه مسؤولية قول الصدق، ولكن هذا لا يلزمه اقناع المتلقي كباقي الأنواع الكتابية والتعبيرية كما تمت الاشارة. فالشعر رد فعل أولا، وردّ الفعل يستملحه شخص ويصدقه في حين يستقبحه آخر ويكذبه.

»الحصاد«: ما هو الباب الذي يُفتح قبالتك سريعا عند انسيابك للكتابة، باب الطفولة والحنين للأرض، باب الذكريات والألم، باب الأمل والمستقبل، أم باب الأسرار؟

»علي نسر«: أينما تتمّ الكتابة الشعرية، فأشعر كمن يقف على الأطلال من دون وقوف حقيقي. فغالبا ما يسرقني مكان الكتابة فعليّا أو تخييلا، فأجلس قبالة ما يحتضن طفولتي من حقول ووديان ونبع ذي عمر قصير، تقفز طفولتي إلى أوراقي وتحرّك القلم، وترمي في الحبر مادة سريعة التذويب… ومن هذه الطفولة تنبري أنواع اللعب، والبراري والأمّ والحبيبة التي تشكّلت مع مرحلة الصبا دون شكل نهائي لها، لكنها الرشفة الأولى من الكاس، وكأنّ كلّ ما يأتي بعدها يدخل في اطار البحث عن تلك الرشفة… فالطفولة هي المدماك الأساس في النصوص، الطفولة وما فيها من فرح وقتها قد يستحيل عند الكتابة خليطا من الدمع والابتسام، من الفرح والحزن.

»الحصاد«: من الذي يكون ضيفا على الآخر، القصيدة أم الشاعر؟ أم كلاهما في ضيافة المتعة الشعرية؟

»على نسر«: ليس هناك من ضيف، أو مضيف أو ضائف في الكتابة الشعرية… هناك مائدة يستحيل ضيفها وضائفها وأطباقها كرقعة شطرنج، تتقاطع مربعاتها حينا وتتوازى حينا آخر… فالقصيدة وصاحبها يشكلان جبلة مشتركة تحتاج إلى نفخ من روح الشاعرية.

»الحصاد«: ما هي سمات شعرك، ومن أين تستمد أفكارك؟

»على نسر«: معظم من قرأ النصوص وكتب عنها، وجد فيها الرؤية تتقاسم الفنية والتفعيلة والقوافي… وكما قلت سابقا، الطفولة تشكّل مرجلا من الأفكار الخام، ولكن يُزاد عليها ما تراكم من معارف خلال مراحل مختلفة، هذه التراكمات الكميّة لا بدّ من أن تصل إلى مرحلة التحوّل النوعي… لذا، فالأفكار تتوالد من الحياة ومن كتب قرأناها وشعرنا أننا نسيناها.. لذا فأنا أرى أنه ليس هناك من مبدع يأتي بما هو جديد، بل الشاعر هو قارئ تلقّى نصوصه وأفكاره متناثرة وصبّها في قالب واحد… وحياتنا وما رافقتها من حروب ونزاعات، منها ما نحن عليها شاهدون ومنها ما نحن عليها شهداء، تشكّل حقلا معرفيّا ومَعينا فكريّا لم يعد نضوبه أمرا يسيرا. لذلك يسيطر الحزن والحنين على معظم قصائدي كأنني أبحث عن مكان مهجّس أو مكان الحلم، أرسمه في أفق المستقبل وبريشة جديدة، لكنّ ألوانها طفولية وكأنّها الأكثر أمانا رغم أن مرحلة الطفولة لا تختلف كثيرا بالنسبة الى من عايشها من الكبار لكن نظرة الطفل تختلف عن نظرة الكبير..

»الحصاد«: هل تؤمن أن الشعر قادر على تغيير العالم إلى ما هو أنقى في ظل السلم بعيدا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والاطفال؟

»علي نسر«: يبقى الشعر والفن عموما، الوسيلة التي يمكن التعويل عليها، فهو سبب من أسباب التنقية وتصفية النفس، هكذا وجده أرسطو حين دافع عن الشعراء ردّا على استاذه أفلاطون الذي لم يلق في الشعر والشعراء أهمية لأنهم يحاكون المحاكى دون تعديل ذي قيمة في الوجود.

»الحصاد«: هل القصيدة ملجأ الشاعر هروبا من واقعه؟

»علي نسر«: القصيدة من الملاجئ والملاذات، فهي تشبه وسادة الحالم الذي لا رقيب على منامه، فيصبح الشاعر لا رقيب على قلمه وأفكاره، ويرمي فيها ما يودّ قوله في اليقظة والحقيقة ضمن حوائل وموانع كثيرة… ولكنّ هذه القصيدة التي تشكّل خمرة يسكر عبرها بعيدا من الواقع، قد تنقلب إلى النقيض، وتعمل في دخيلة صاحبها ما تعمله الخمرة حين يظنها الشارب محطة للفرح والنسيان فتنقلب إبرة تنكأ فيه الجراح والأحزان..

»الحصاد«: الى جانب شغفك بالشعر، أنت كاتب وصحافي أيهما دوره تأثيري ومهم اليوم؟

»علي نسر«: أعتقد أنّ الكتابة النقدية والفكريّة هي الأكثر تأثيرا اليوم، لأنها أقرب إلى الفعل من ردّ الفعل، ويكون الكاتب فيها باحثا يتسلّح بأدوات الموضوعية وكشف الحقائق بطرق غير ملتوية… وهي الأخطر من الشعر، لأنّ القصيدة لصاحبها أولا، بينما الكتابة النقدية والبحثية للقارئ أولا، وعليها مسؤولية الحفاظ على الأمانة الموجودة بين يدي الكاتب.

ديوان وطن تنهد من ثقوب الناي
ديوان وطن تنهد من ثقوب الناي

»الحصاد«: ما هي مؤهلات الصحافي الناجح؟

»علي نسر«: أنا لم أتخصص في الاعلام يوما، ولكن أعرف من خلال تخصصي في البحث والنقد، وممارستي الكتابة الصحافية المتواضعة، أنّ الصحافي يجب أن يكون كالباحث الأكاديمي، متجرّدا من أناه، يفصل بين أيديولوجيته وما يتكلّم عليه ليكون الكلام أكثر موضوعية وأكاديمية.. فينبغي وضع الأحكام المسبقة والقبلية جانبا، والانطلاق من الموضوع لا من الذات.

»الحصاد«: كيف تلقيت خبر اقفال »السفير« كونك من أبنائها؟ أخبرنا عن علاقتك بهذه الصحيفة.

»علي نسر«: لم أكن ابنا للسفير في الأصالة، إنّما كنت من ذوي الأصوات الذين لا صوت لهم، فوفّرت لي صحيفة السفير وغيرها من الصحف، منبرا لاعلاء صوتي كأي مواطن وكاتب لم تغلق صحيفة السفير الباب في وجهه… لصحف أخرى فضل على كتاباتي الصحافية أيضا، ولكنّ المساحة التي وفّرتها السفير لكتاباتي الفكرية، والتي تشكّل موضوعاتُها تابوهاتٍ في مجتمعاتنا، لا أعتقد أنّ صحيفة أخرى كانت ستوفرها، ربما لاحقا أجد مثل هذا المنبر، ولكن اتكلّم على مرحلة الكتابة العائدة إلى المرحلة السابقة.. أما الكتابات الثقافية والنقدية فكان للسفير ولغيرها من الصحف فضل عليّ في انطلاقتي وما زالت تتكرّم عليّ أيضا… فأنا لا أنتمي إلى أسرة السفير كأبنائها الأصليين، لأن كتابتي كانت كالحمل من خارج الرحم، وفّرته لي الصحيفة، وهناك بعض الأسماء التي لا أنسى فضلها نظرا إلى العلاقة المباشرة مع أصحابها )أحمد بزون واسكندر حبش ونصري الصايغ وربيع بركات…مع حفظ الألقاب(، لذا فأنا من الخارج نوعا ما، بعكس المحميين بجدار رحمها مباشرة، كالجهابذة من كتّابها اليوميين والذين أمضوا حياتهم داخلها أكثر مما أمضوها في منازلهم، فكان خبر ايقافها قاسيا، إذ كيف يمكن أن يستيقظ من هو مدمن على فنجان قهوة من دون أن يجده في انتظاره صباحا… السفير لم تكن مجرّد كتابة على ورق بل كانت شهيدا على أربعين سنة، وجعلتنا شاهدين على معظم مراحل التاريخ.

»الحصاد«: يقول الشاعر لويس اراغون »لولا الشعر لأصبنا جميعا بالسكتة القلبية«، هل العالم دون شعر خراب وخواء؟

»علي نسر«: الشعر هو من الفنون الجميلة، وهو أقرب الفنون إلى النفوس البشرية والذوق لاعتماده على اللغة وسيلة تعبيرية.. والفنون هي غذاء الروح واكسير الحياة نحتاجه لضخّ دورة دماء الحياة القابلة للتوقف في معظم الأوقات لما استحال إليه هذا الكوكب من مرجل للسموم الفكرية والروحية واستحالت الحياة مشهدا للموت المرافق لحركة الانسان الدائمة.. فالانسان يحتاج دائما إلى ما يبعد أوردته من التخثّر والجفاف، والشعر هو ذاك المسيّل الأقدر على ضخ الدماء بطريقة طبيعية في قلب الانسان.

»الحصاد«: ما رأيك بوضع الشعر محليا وعربيا؟

»علي نسر«: أعتقد أنّ الشعر ما زال بخير، وهناك مواكب من الشعراء القدامى والشباب ما زالوا قادرين على الخلق والابداع، رغم اعباء المهمة المرمية على أكتافهم وهي طبيعة الحياة الجديدة وابتعاد الجيل الحالي من الشعر والأدب.. فكثير من الشعراء محليا وعربيا يعمل وباتقان لافت على تطويع اللغة والمصطلحات التي نشعر انها لا تصلح للشعر.. رغم الأزمة التي يعاني منها الشعراء وهي التعامل مع الصور القديمة والتي اثبتت جدارتها شعريا، لكن جيل اليوم بعيد من القدرة على تأويلها وتحديد دلالاتها لبعده عن المدلول والمرجعي الذي انبثقت منه*