الصوفية بين الحقيقة والوحي

 نظرة إلى الأرض وأخرى إلى السماء

يُعتبر الدين من أكبر الإشكاليات وأكثرها علاقة بالتساؤلات الشائكة التي تتداخل مع الثقافة والوعي الجماعيّ والأساطير. فهو من ناحية يُعتبر من المسلمات أما عند تدخل العقل فيبدو كمعادلة تحتاج إلى تحليل وخلاصات. ويأتي الخطاب الصوفيّ ليحتلّ مكانة كبيرة داخل النصوص العرفانية المتصلة برحلة الإنفتاح على الوجود بُغية الإتصال بالخالق والتوحيد والحلول والفيض والإتحاد، وهي في معظمها ترسم العلاقة بين الأرض والسماء أي بين الإنسان والخالق .

الصوفية إذاً هي عبارة عن تجربة روحية، تختلف تسميتها بحسب الشعوب والمناطق والنظرة التي تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية وتغييراً في نمط الحياة والأفكار. إنّها ترتبط بالرموز وإنكار الرغبات والجسد لصالح الروح وتجلياتها العميقة،وقد ورد عند إبن عربي:” بأن القلب عند الصوفية هو محل الكشف والإلهام وأداة المعرفة والمرآة التي تتجلى على صفحتها معاني الغيب، وفي المُقابل يرى العقل الأمور على أكثر من وجه، من حيث الشيء الواحد ونقيضه، ويُدافع كل منهما بحجج مُتكافئة في القوة والإقناع، ثم هو فوق كل ذلك يُسدل على الحقائق ستاراً كثيفاً من الألفاظ التي هي رموز الحقائق ويُغفل عن الحقائق نفسها .

لقد نُقل عن الإمام مالك أنّهُ قال :” من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”.

ونُقل عن الشّافعي أنّه قال:” حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بأهل التصوف”. وعن الإمام أحمد أنّه قال عن الصوفية :” لا أعلمُ أقواماً أفضل منهم، قيل:” إنّهم يستمتعون ويتواجدون ؟ قال :” دعوهم يفرحوا مع الله ساعة”.

إذن ماذا يعني مصطلح الصوفية أو التصوف بحسب علوم الّلغة ولماذا انتشر حول العالم بتسميات مختلفة وأثار نقمة فقهاء الدين ؟

إن لفظ ” تصوف” يعود في أصل اللغة إلى الصوف الذي هو لباس التواضع، لذلك فقد آثرارتداءه الأنبياء والنسّاك، ثم صار يُطلق على الزُهاد وحتى لو لم يلبسوه. لأن زهدهم قائمٌ في عزوفهم عن كل الرغبات والأهواء في حياتهم،كون قلوبهم مُتعلقة بالله وحده”. في هذا السياق تُذكر رابعة العدوية كطور أول من أطوار الزهد الّذي تحول إلى عشق إلٓهي”. أمّا الطور الثاني فهو الفناء المنسوب للبسطامي والطور الثالث هوالحلول الّذي عُرف به الحلاج، والرابع وهو وحدة الوجود المنسوبة لإبن عربي . أمّا بالنسبة للطرق الصوفية فهي متعددة مثل القادرية والشاذلية والرحمانية والتيجانية وغيرها، وأول ظهور لها كان في الكوفة بسبب قربها من بلاد فارس والتأثر بالفلسفة اليونانية بعد عصر الترجمة،و تختلف العقيدة الصوفية عن عقيدة الكتاب والسّنة في أمورٍعديدة من أهمها مصدر المعرفة الدينية، ففي الإسلام لا تَثبت عقيدة إلّا بالقرآن، ولكن في التصوف تثبت العقيدة بالإلهام والوحي للأولياء والإتصال بالجن الذين يسمونهم بالروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات وبالفناء في الله ومعرفته من خلال الكشف والمشاهدة،وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للوليّ الصوفيّ حسب زعمهم، وبالكشف وبربط القلب بالرسول الكريم، حيث تُستمد العلوم منه .

قال سمنون :” التصوف أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيئ”وقال معروض الكرخي:” التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس ممّا في أيدي الخلائق”، أمّا سهل بن عبدالله فقد اعتبر من جهته  :” أن  الصوفيّ من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده المذهب والمدر “.

أمّا الجنيد فيُعرف التصوف :” بأن تكون مع الله تعالى بلا علاقة”، إضافة إلى مئات التعريفات التي تصب في تفسير هذا المصطلح، ومن هنا فإن المتصوف الحقيقيّ ينبغي أن يكون على درجة من الزهد والإخلاص والمجاهدة والخلق الكريم والتسليم لرب العالمين والإلتزام بالعبادة الدائمة والإبتعاد عن الفلسفات الباطلة “.

إن أول شخص وقف نفسه كلية لخدمة الله وكان يُحاور الكعبة اسمه ” صوفه” وكان اسمه الحقيقيّ ” غوث بن مرّ” والزهاد الذين كانوا يُشبهونه من حيث الإنقطاع عمّا سوى الله سُموا ” بالصوفية” .

ولعلّ من المفيد أن نعلم أن للقوم في أصل التسمية مقالات وآراء يطول شرحها من حيث الإشتقاق والأصل والإصطلاح فيُرجعها البعض للصفاء وغيرهم للصوف،والبعض لبني صوفة والآخرون لأهل الصفة.

وقد مرّ التصوف بمراحل تاريخيّة مهمة، ابتداء من مرحلة الزهد وهي تمتد منذ بداية الإسلام إلى نهاية القرن الثاني الهجري، أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة التخوم بين الزهد والتصوف وهي مرحلة إنتقالية بين مرحلة البدايات والنضج وهي تقع ضمن تخوم التصوف وهي تتزامن مع نهاية الدولة الأموية وبداية العصر العباسيّ . أمّا بالنسبة للمرحلة الثالثة فهي شهدت ظهور التصوف النظريّ والفلسفيّ بمدارسه ومذاهبه ورموزه بالموازاة مع نشأة الفكر الفلسفيّ في تاريخ الإسلام وما يُميّز كل هذه المراحل هو التزام المتصوفين بأسلوب عيش يوميّ ومتواضع والإنقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زينة الدنيا .

فموضوع التصوف بحسب أحمد زورق في كتابه :” قواعد التصوف”،هو علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عمّا سواه”.

وهناك تنوع في التجارب الصوفية التي عاشها المتصوفة وهي في مجملها تميل إلى الإحتفاء بالخالق وتمجيد الزهد.

تُمثلُ الأسس النظرية لفلسفة التصوف في مجموع المفاهيم والتصورات التي بلورها رواده في جملة من القضايا المتعلقة بأصول المعرفة، وعلاقة الظاهر والباطن، والموقف من الشريعة الإسلامية وقضايا المجتمع، وما هي السبل المناسبة والكفيلة بتحقيق تلك الغايات.

وإذا كان الموضوع الأساسيّ للمعرفة هو الله تعالى عند جميع اتجاهات الفكر العربي الإسلامي “علم الكلام، الفلسفة، الفقه، أصول الفقه، التصوف وغيرها”، فإن المعرفة الصوفية بلورت مفهوم “المعرفة القلبية” كمعرفة أسمى من المعرفة الحسّية والعقلية. وذلك نظراً لأهميته القُصوى في فهم الخطاب الصوفيّ.

أمّا أدونيس في كتابة الصوفية والسريالية فيعتبرأن كلمة صوفيّ ترتبط بكل ما هو خفيّ وغيبيّ. والإتجاه إلى الصوفية أملاه هجر العقل “والشريعة الدينية” للإجابة عن الأسئلة العميقة عند الإنسان، وأملاه كذلك عجز العلم . فالإنسان يشعرُ أن ثمة مشكلات تؤرقه، حتى عندما تُحلّ جميع المشكلات العقلية، والشرعية – الدينية، والعلمية، أو عندما تُحل المشكلات بوساطة العقل والشرع والعلم. هذا الذي لم يحل( لا يُحلّ)، هذا الذي لم يعرف ( لا يُعرف)، هذا الذي لم يقل ( لا يُقال) هو ما يوّلد الإتجاه نحو الصوفية .

أي نحو اللامعقول، اللامرئيّ،اللّامعروف .

لقد اعتبر أدونيس أيضاً أن التصوف أغنى الأدب العربي وبخاصة في شقه النثريّ ببعض أفضل نصوصه وأكثرها اتصالاً بالدّاخل الإنساني. ويعود له الفضل الأكبر باكتشاف المتصوف الإسلامي الشهير محمد عبد الجبار النفري وبخاصة في كتابه المميز ” المواقف والمخاطبات”.

ويبقى الهدف الأساسيّ الذي يسعى إليه الصوفيّ هو أن يتماهى مع هذا الغيب، أي مع المطلق وهو الله من خلال العودة إلى أصل الخلق .

إن فكرة التصوف تنبع من السّعي لفهم الحقائق والوجود والتماهي مع الكون ، ووضع أسس ثابتة في رحلة البحث عن الإجابات الشافية وإسعاد الذات وسط الشقاء العام الممتد منذ الإنسان الأول وخوفه من فكرة الزوال . وفي هذا السياق إعتقد بعض الفلاسفة أنّنا كبشر فقدنا الرابط بيننا وبين الطبيعة ونفوسنا خربتها الحضارة المادية وخاصة في طورها الرأسمالي القائم على نظام السوق والبيع والشراء ، وتراكم الأفكار والمذاهب والحروب وبعض رجال الدين، لذلك فإن محاولة فهم الذات من خلال العودة إلى الداخل وتحريره من الرغبات، وممارسة طقوس هدفها الأول والأخير تحرير الجسد من براثن الإثم والإنطلاق بالروح نحو تخومها القصوى تبدو كمحاولات لبناء عالم يقوم على الأخلاق والتماهي مع طاقات الكون وفتح الشاكرات التي أغلقتها تكدس الخيبات والصدمات .

من هنا فإن فلسفة التحرر تسعى نحو زيادة الوعي الروحيّ في عالم ماديّ ومقرون بالأمراض النفسية والجسدية ، قد يُسبب فقدان الصلة بالدّاخل والإيمان بالمورائيات والغيب وفهم الرموز والإشارات المتعلقة بالعالم الآخر، والتي تعتبر صلة الوصل بين الأرواح الهائمة والخالق.

وأخيراً، لا يمكننا التحدث عن التصوف دون ذكر جلال الدين الروميّ الذي كان شيخ طريقة في هذا المجال، وكان من أبرز الذين أفصحوا شعراً ونثراً عن التجربة الصوفية بوصفها تجربة في البحث المطلق،ووسيلة للمعرفة القائمة على الوحي والإلهام ، وهذا دليل إضافيّ على رفض الصوفية لطرق التّعبير الديني – الشّرعي،الرافض للشعر باعتباره نقيضاً للدين والشريعة.

ويبقى  أجمل ما خطّه الرومي :” تعال وكلمني تعال.ولا يُهم من أنت ولا إلى أيّ طريق تنتمي، تعال، حتى لو كنت أخللتَ بالتزامك وتعهدك ألف مرة، تعال لنتكلم عن الله”.

و”رفعتُ لله قنديلاً فأوقده .. فهل تظن يداً في الأرض تُطفئني”.