العراق: جدل “البيت الشيعي”!

اسماعيل قآاني: جهود لتجنب الصدام داخل البيت الشيعي

صراع الإطاريين والصدريين يقلق طهران وعواصم المنطقة تتأمل حدث بغداد

محمد قواص

يستفيق العراق على أزمة سياسية كبرى قد تكون مفصلية في تغيير وجهات البلد منذ سقوط النظام السياسي السابق وقيام نظام بديل أشرفت الولايات المتحدة على ولادته ورعايته ووضع أسسه وقواعده. ولئن بنيت لبنات المنظومة الحساسية على تيارات وأحزاب “الشيعية السياسية” بكافة تنوعاتها، فإن اللحظة العراقية الراهنة متناسلة من صراع

الثورة من أجل التغيير

يجري داخل “البيت الشيعي” وبين القوى السياسية الشيعية التي إما حكمت أو أمسكت بعصب الحكم في بغداد وهيمنت على مؤسساته.

العملية السياسية

بعد غزو العراق عام 2003 وإسقاط النظام السياسي السابق راجت عبارة “العملية السياسية” التي بدت وكأنها خارجة من قاموس العراقيين وتراثهم العتيق. لم يعرف العراقيون “السياسة” في عهد حكم حزب البعث إلا وفق أدبيات تصدر عن القيادتين، القومية والقطرية، ومواقف رئيس البلاد. صحيح أن صراعات جرت داخل الحزب، وبين الحزب وأحزاب أخرى، وصحيح أن صداما حصل بين نظام ومعارضة، لكن تلك التمارين لم ترقَ إلى مستوى أن يكون للسياسة “عملية” تقوم وفقها.

والمسلّم به أنه جرى تلفيق عملية سياسية تم ارتجالها من قبل الحاكم الأميركي بول بريمر، قبل أن تصبح أكثر جدية بالاستناد إلى دستور وقانون تنهل شرعياتها من الانتخابات وما تُخرجه صناديق الاقتراع.

ومع ذلك، وبعد أن أدلت العملية السياسية بدلوها منذ رحيل نظام صدام حسين، فإن في العراق من بات يجاهر بالحنين يأساً إلى النظام السابق لاعناً هراء العملية السياسية وأوحالها، ومن بات، بالمقابل، وبسبب تتالي الفشل وما أفضى إليه من انهيار، يحذّر، جديا أو تهويلا شعبويا، من عودة حزب البعث إلى السلطة.

عرف مقتدى الصدر تجربة العيش في ظل “البعث” وتجربة ما بعده. والرجل، الذي لطالما اتهم النظام السابق بقتل والده محمد صادق الصدر عام 1999، ما زال يحذّر من عودة هذا الحزب إذا ما بقي حال البلد وسياسييه على ما هو عليه.

وقد لا يكون مقنعا الحديث عن عودة حزب صار من أدوات وعدًة زمن بائد، لكن التهويل بالـ “بعث” ما زال في عراق اليوم احتمالا مرعباً لا يحذّر منه الصدر فقط فيهدد به مريديه وخصومه، بل لطالما لجأت أحزب العملية السياسية إلى اتهام أي اعتراض بشبهات “بعث”. غير أن الصدر، وفق مقربين، يستنتج هذه الأيام من سعيّ خصومه لاغتياله سياسيا وإنكار تفوق مكانته السياسية (البرلمانية خصوصا)، أعراض استدراج “بعث” ما للإطلالة من جديد.

والحال أن زعيم التيار الصدري ينهل نفوذه وقوته وشعبيته مما راكمه وعائلته من حكايات متناسلة من “زمن البعث”. والأرجح أن الرجل تعرّف قسراً على “العملية السياسية” وهو، الذي في منطق النقيض لنظام بائد دفع دماً ضريبة لمعارضته، كان يجد نفسه والحالة التي يمثلها بديلاً بديهيا لـ “بعث” منقرض. وعلى هذا فإن مساراته المترددة داخل

تسريبات المالكي فجرت انقساما شيعيا-شيعيا

العملية السياسية كانت نزقة تشبه خيار “مكره أخاك لبطل”، بحيث يجد نفسه منسجماً مع ذاته حين يكون خارجها.

ظاهرة مقتدى

مقتدى الصدر رجل الدين الشيعي سليل عائلة خرّجت أسماء كبرى في الدين والفقه والاجتهاد. ومن هذه الحاضنة الأصيلة اندفع الرجل لإظهار واجهات وطنية عابرة للطوائف متبرئا من عصبيات ارتكبها تياره أو بقية الأحزاب الشيعية الدينية.

يمتلك الصدر ملَكَة هائلة لتحريك الشارع على نحو لا تستطيعه زعامات عراقية أخرى. ولا ينافس ولاء مريديه المفرط له إلا  (ربما) ولاء قسم من الأكراد لمسعود برزاني وعائلته شمال البلاد. ووفق هذه الحقيقة يستنتج الصدر أن “العملية السياسية” لا تعترف له بذلك.

استطاع الصدر، من موقعه الشعبي ومن خطابه الشعبوي، نسج علاقات امتدت إلى خارج حدود البلد. فتحت له العواصم العربية الأبواب معترفة بأنه حالة خاصة ورقم صعب. ولئن تنقّل للإقامة في إيران والتعريج على ضاحية بيروت حيث قيادة حزب الله، إلا أن تعاطيه مع الأمر الواقع الإيراني بقي عصيّا على التفسير يصعب فك شيفرته. وعلى هذا تعاملت معه طهران على نحو خاص يختلف عن سلوكها مع القادة الشيعة في البلد.

لم تكن استقالة نواب التيار الصدري (73 نائبا) من البرلمان العراقي تهديدا أو ابتزازا أو مناورة سياسية. فهِمَ رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ذلك جيدا، بحيث أن قبوله السريع للاستقالة “على مضض”، وفق تغريدته، بدا أنه جاء تنفيذاً لأمر عمليات صدري لمغادرة العملية السياسية.

وإذا ما قادت انتفاضة الشارع التشريني (2019) إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة منذ 8 أشهر، فإن الصدر يستنتج أن الانتخابات التي ابتكرتها العملية السياسية أنتجت بنجاح كبير فسادا ومحاصصة وانهيارا اقتصاديا، لكنها سبيل فاشل لانتشال البلد من محنه، حتى لو تم حلّ البرلمان الحالي والذهاب إلى انتخابات جديدة.

قد يعوّل خصوم الصدر، لا سيما داخل “الإطار التنسيقي” على انتفاخ حصصهم البرلمانية على حساب الصدريين المستقيلين. بعضهم لا يجد في “حرد” الصدر إلا تفصيلا عابراً ستلتهمه العملية السياسية كما التهمت بالتلفيق والتدبير تفاصيل أخرى، كما أنها “فرصة العمر” للتخلص من خصم كبير.

بيد أن الصدر خارج “العملية” يخيف أكثر من هم داخلها. ويهم “الإطار” ومن خلفه طهران أن يكون الصدر شريكا

الصدريون في البرلمان: الخوف من مواجهات الشارع

“مدجَّناً” يراعي مصالح إيران. فخروج الصدر من المشهد البرلماني يشي بالعودة إلى مشهد آخر خارج عملية سياسية لم يحبها الصدر ولم يأنس لدهاليزها. والمسألة قد تعني العودة للشارع بمعناه الواسع المتعدد الأجيال العابر للتقسيمات البليدة، وقد تعني أيضا أن انهيار “العملية” يؤشر إلى انهيار السياسة برمتها وانتهاج خيارات بديلة.

العواصم البعيدة والقريبة معنيّةٌ جداً بقرار الصدر مراقبةٌ لمزاجه. التيار الصدري ليس هيكلاً سياسيا تقليديا بل كتلة سياسية اجتماعية تتحرك بدقّة وفق مزاج زعيمها في الكرّ والفرّ وتؤمن بشكل قدسي بحدْسه. وهذه السمات الشخصانية هي بذاتها نقيض أي مؤسسة أو قواعد يشعر الصدر أن “العملية السياسية” تفرضها عليه وتحاصره ولا تعترف بزعامته وخصوصيتها.

يصعب الجزم بالخيارات الحاسمة لمقتدى الصدر. في علاقة العراق المتشعبة مع الجوار كما في علاقة العراقيين المعقّدة مع مكوناتهم. ومع أن الرجل يبدو متعددا متناقضا متحولا متقلباً، دعم “تشرين” ثم وقف ضدها، فإنه في كل ذلك منسجم مع طبائعه. يكتشف الصدر عراقه في مقت “البعث” وكره خصومه. أعطته الصناديق فرصة لحكم العراق الذي يريد. أما وأن الأمر صار عسيرا، فلا بأس من مغادرة “السياسة” ورجسها والعودة إلى ما قبلها في بديهياتها وانفعالاتها التي لا تلازم “عملية” ولا تلتزم بها.

لحظة الانفجار

التسريبات المنسوبة لنوري المالكي زعيمِ حزب الدعوة في العراق، كشفت عن جدل شيعي-شيعي يقفُ حقيقةً وراءَ الأزمةِ التي يعيشُها البلدُ منذ سنوات. والموقفُ الذي يتخذُه السيد مقتدى الصدر يعبّرُ بدوره عن جانبٍ آخر لهذا الجدل من حيث ما يراهُ الدورَ الأمثلَ لشيعة العراق لانتشال البلدِ من مأزقه..

وفي هذا السجال، بين التيار الصدري من جهة والتيارات والمنضوية داخل الإطار التنسيقي، ما يسلط الضوء على

الثنائي الشيعي في لبنان: عين على العراق

معارك سياسية داخل البيت الشيعي لا تتدخل بها بقية الطوائف والقوميات، بحيث أن مآلات العراق برمتِه مرهونة بما سيتوافقُ عليه شيعته.

والسجالُ داخل البيت الشيعي بدأ منذ انفجار ثورة تشرين عام 2019، من حيث أن هذا الحراكَ كان شيعيا قي أغلبه يعبّرُ عن غضبِ المجتمع الشيعي مما وصل إليه حال العراق الذي تهيمن الشيعيةُ السياسية على حكمه منذ سقوط النظام السابف عام 2033.

وحتى لو كان الجدلُ عراقياً داخلياً، إلا أنه يكشفُ عن خلاف شيعي عميق في مقاربة العلاقة مع إيران، بين من يدعو إلى الولاء لطهران والحرس الثوري والولي الفقيه، ومن يسعى لإقامةِ دولة مستقلة لا تعادي طهران لكنها لا تكون تابعة لأجنداتها.

والظاهرُ أن ما يقلقُ إيران في العراق هو أن الخلافَ يدورُ بين الشيعة الذين عوّلت دائما على عصبيتهم للعبور إلى العراق. والظاهر أيضا أن طهران تراقبُ بقلقٍ صعودَ مشاعرَ هوياتية عراقية لدى شيعة العراق تهددُ عقدين من السطوة الإيرانية على الحكم في بغداد.

الشيعية السياسية

تدور تطورات العراق في السنوات الأخيرة على إيقاع الصراع الذي يجري بين التيارات السياسية الشيعية. ولئن قامت العملية السياسية منذ عام 2003 على أساس ثلاثية شيعية سنية كردية، إلا أن كل الحراك السياسي يقوم من دون لبس حول عامود الشيعية السياسية الفقري والبوصلة التي تحدد وجهاته.

نهلت الشيعية السياسية عصبيتها من عاملين:

العامل الأول ديني، يستوحي دينامياته من التراث الشيعي الفقهي والتاريخي والسياسي، ويتحرك مستنداً على “المرجعية” وإن كانت حائرة الموقع بين تلك التقليدية في النجف وتلك الراهنة سياسيا في قمّ.

العامل الثاني سياسي، يتأسّس على “مظلومية” تمّ  الترويج طويلا لحقيقتها حتى وصلت إلى مستوى البداهة، تنهل  من خطاب يحصّر  عذابات ديكتاتورية صدام حسين بالشيعة وحدهم، مهمشّا شرائح طائفية وقومية وسياسية واسعة نال منها الاستبداد وأمعن في قمعها وضربها بسبب معارضتها، كما المعارضة الشيعية، للنظام الحاكم في بغداد.

لكن عاملين آخرين، خارجيين هذه المرة، أسهما في إقامة العملية السياسية على قاعدة الخزّان الشيعي لا سيما  ذلك الذي يمثّله الإسلام السياسي الشيعي:.

الأول، الدعم الأميركي الواضح لـ “خيار الشيعة” منذ رعاية واشنطن لسلسلة من مؤتمرات المعارضة في مدن عديدة في العالم قبل سنوات من غزو عام 2003. استند هذا الخيار أيضا على مدرسة فكرية أميركية راجت بعد “11 سبتمبر” ترى في الشيعة حليفا وفي السنّة خطرا استراتيجيا ما كان تنظيم القاعدة إلا واجهة له. صحيح أن فصائل ومكونات عراقية معارضة متعددة الهويات كانت منخرطة في تلك المؤتمرات، لكن واشنطن (ولندن أيضا) استثمرت بشكل راديكالي في دعم الشيعية السياسية وجعلها العماد الأول للتغيير في العراق.

الثاني، انخراط إيران المفرط والواسع والشامل بالإمساك بالعملية السياسية في العراق، والهيمنة على كافة مكوناتها داخل كافة الطوائف والقوميات. ولم تكتف طهران بدعم حلفائها وأتباعها، بل عملت، بالأمن والمال والفقه والعسكر، على جعل الأحزاب الشيعية الدينية امتدادا لصيقا بالجمهورية الإسلامية والمرشد في طهران.

داعش والبعث

وجدت الأطراف السياسية الشيعية، بالوجهين الديني والمدني، والمفترض أنها متعددة متنافسة متناقضة، واجهتين أساسيتين للوحدة وتجاوز التناقضات وتهميش الخلافات:

الواجهة الأولى، هي مواجهة حكم البعث والحرص على عدم السماح باحتمال أي عودة للحزب الذي أطاح به غزو عام 2003، ومنع أي تسلل محتمل له داخل العملية السياسية المستحدثة، إلى النظام السياسي الجديد.

ورغم أنه بات لحكم العراق مصالح دولية وداخلية كبرى تفرض على الساسّة منطق التزاحم على المناصب والتحاصص، إلا أن الهاجس من “عودة البعث” بقيّ رعباً حقيقيا، يزعمونه أو يرونه واقعيا وارداً، حتى وصل الأمر إلى حدّ الهوس وأسسوا لمكافحته كل الأدوات والقوانين والتدابير وجعلوا للأمر مؤسسة “اجتثاث.”

والواجهة الثانية، ليست بعيدة عن الأولى وربما متناسلة منها، وتتعلق بظهور تنظيم داعش عام 2014.

دفعت “الكارثة” بالنخب السياسية الشيعية بتجاوز أي خلاف، بما في ذلك تجاوز مسؤولية نوري المالكي وحكومته آنذاك عما حدث، وراحت كافة مكونات الشيعية السياسية تتحالف وتتآلف لرد الخطر الإرهابي، سواء في هويته السنية المزعومة أو في ما يمثّله من أعراض “عودة للبعث” بأدوات وخطابات ونصوص أخرى. وذهبت المكونات الشيعية جميعها إلى التدثّر بعباءة المرجعية في النجف، بشخص السيد علي السيستاني، والاحتماء بفتواه الشهيرة حول “الجهاد الكفائي” في يونيو 2014 التي شرّعت شيعياً قيام “الحشد الشعبي.”

تشرين

ابتعاد الأخطار عن وجودية الشيعية السياسية، أعاد للشيعة في العراق حيوية متعددة الطبائع. فلا خلاف على أن “الثورة التشرينية” في العراق منذ عام 2019 والتي وحّدت مدنه ومناطقه وكافة شرائحه الاجتماعية، هي في أصلها ومادتها شيعية تعبّر عن غضب إجتماعي شيعي التحق بمظلوميات جرى التعبير عنها من شرائح عراقية أخرى قبل سنوات.

و “الثورة” بهذا السياق هي شيعية ضد سطوة يمارسها ساسّة شيعة على الحكم، لدرجة أن الشارع لدى الطوائف الأخرى امتنع أو تحفّظ عن أي مشاركة في فعاليات ذلك الحراك مخافة أن تشوه الحساسيات الطائفية من رسائله، وأن يفقد طابعه الشيعي الذي بات شرطاً لتخليص العراق من أزمته.

على هذا فإن أزمة العراق هذه الأيام هي مخاض يدور متنه حول صراع شيعي-شيعي يتأثر به المكونين السنّي الكردي ولا يؤثّران به، لا بل يتقيدان بمعادلاته وشيفراته ويتموضعان بحذر حول مآلاته العتيدة.

وإذا ما تصدّع نفوذ إيران داخل الشارع العراقي وفق ما أظهرته “ثورة تشرين” إلى درجة أن المرشد علي خامنئي لم ير بها إلا “أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة”، فإن طهران ما زالت تملك نفوذا على الشيعية السياسية في العراق، وإن كان هذا النفوذ يكاد يكون كاملاً لدى التيارات المنضوية داخل “الإطار التنسيقي” ويفقد كثيرا من وهجه لدى أطراف شيعية أخرى وفي مقدمها ما يمثله السيّد مقتدى الصدر وتياره لدى شيعة العراق.

الجدل حول إيران

في قلب الجدل داخل “البيت الشيعي” يمسّ النقاش دور ووظيفة إيران. تسريبات زعيم حزب الدعوة نوري المالكي تكشف عن دعوة لمزيد من ولاء الشيعة لإيران وتحديدا للحرس الثوري هناك. فيما مناصرو الصدر يهتفون داخل المنطقة الخضراء “إيران برا برا”، تماما كما هتف الشيعة التشرينيون قبل سنوات. والحال أن “الجدل الشيعي” بات مطلوبا لمعالجة أزمة الحكم وعلّة النظام في العراق.

تتعامل طهران مع شيعتها في العراق من خلال إسماعيل قآني قائد فيلق القدس في الحدث الثوري الإيراني. يدخل إلى العراق كما يتجول في أية محافظة إيرانية. وإذا ما يمثّل الصدر، وهو صديق لإيران، محاولة لبناء دولة عراقية مستقلة، ولو شكليا ونسبيا، عن قرار طهران، فإن إيران حريصة على عدم فقدان حضورها العراقي، وساهرة على عدم تمتع البلد بهذا المكتسب طالما أن البلد ورقة أساسية من أوراق إيران على موائد مداولات طهران مع الإقليم والعالم.

والواقع أن ديمومة نفوذ إيران في العراق يحتاج إلى بقاء شعور شيعة العراق بالخوف. وعلى الرغم من اندثار حكم البعث منذ عقدين وهيمنة الشيعية السياسية وحلفاؤها على الدولة ومؤسساتها، فإن التسريبات التي نسبت للمالكي تكشف مدى الاستمرار في تسويق الخوف للشيعة من بعث عائد، وجعل خلاصهم الوحيد هو الولاء والولائية بصفتهما خيارا وجودياً فقهيا، يكاد يكون “حسينيا”، للالتصاق بإيران وحرسّها ووليّها الفقيه.

بغداد – بيروت: الشيعية السياسية

لا بد أن الثنائي الشيعي في لبنان يراقب باهتمام وقلق تطورات الوضع المتصاعد في العراق. ولا بد أن حزب الله بالذات ينظر بعين الريبة إلى هذا الصراع الشيعي-الشيعي في العراق وما يمكن أن ينتهي إليه من مآلات ذات عدوى قد تتسرّب إلى لبنان.

وإذا ما كانت “حرب الأخوة” بين حزب الله وحركة أمل في الثمانينيات قد توقفت عبر صفقة تمت بين دمشق وطهران ضمنت نفوذ العاصمتين وتحالفهما، فإن أي تطاحن محتمل بين المكونات الشيعية في العراق يمثّل تحديا حقيقيا لنفوذ طهران وحدها وتهديدا للسطوة التي تمتلكها إيران على العراق.

والحال أن حزب الله منخرط ومعنيّ باللعبة السياسية في العراق. معنيّ أيضا بقوة نفوذ إيران في هذا البلد. ومعنيّ بالحفاظ على ديمومة الوصاية التي تملكها طهران في بغداد والتي تشكل من طهران إلى بيروت مرورا بدمشق قوس وهج نفوذ الجمهورية الإسلامية على المنطقة.

ولئن  كان ترددَ اسم الشيخ محمد كوثراني مسؤولاً عن الملف العراقي في حزب الله واشتهر بجولاته ووساطاته هناك، فإن قادة الشيعية السياسية في العراق، ومنهم نوري المالكي والسيّد مقتدى الصدر، لطالما زاروا “الضاحية” في لبنان وتوسّلوا بناء على نصائح طهران استشارة زعيم حزب الله والرجوع إليه.

بين التشرينين

وإذا ما يجمع شهر تشرين الأول من عام 2019 “الثورة” التي انفجرت ضد منظومة الحكم في البلدين، فإن “ثورة تشرين” العراقية قامت على عبق شيعي يمثل انتفاضة داخل الطائفة ضد الشيعية السياسية ومكوناتهم وما ارتكبوه طوال السنوات التي تلت غزو عام 2003. بالمقابل فإن “الثورة” في لبنان كانت شاملة عابرة للطوائف والمناطق، نشطت بشكل لافت أيضا في المناطق التي يسيطر عليها “الثنائي”، وقوبلت من قبل “الشيعية السياسية” بالعداء والقمع والمواجهة.

وما اعتبار أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله أن حراك “تشرين” في لبنان مشبوه ومرتبط بأجندات السفارات الأجنبية ناهياً “جمهور المقاومة” عن رجسه، إلا  توجها متّسقا تماما مع موقف المرشد في إيران السيد علي خامنئي الذي وسم “تشرين” العراق بالشبهة والعمالة واعتبره “شغباً” تديره أميركا وإسرائيل. وإذا ما تولت “القمصان السود” في لبنان الاعتداء على المتظاهرين متقدماً عليهم بهتاف “شيعة شيعة شيعة”، فإن ثوار العراق تعرضوا لتصفيات دموية قنصا واغتيالا على نحو علني مكشوف.

السلاح والولاء

تجاوزت كوارث لبنان  “تشرين” 2019، وبات الانهيار منذ انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 غير قابل للكبح عبر ثورة في الشارع. ولئن امتصّت الانتخابات البرلمانية الأخيرة حوافز التحرك الشعبي العام، فإن ما يجري في العراق يكشف عن استمرار حراك الشارع، وعلى نحو أكثر خطورة، متأسّسا على صراع مفاهيم شيعي-شيعي لا يمكن للشيعة في لبنان إلا أن يتأثروا بمآلاته.

لا جدل داخل “البيت الشيعي” السياسي اللبناني الذي يمثله تحالف حزب الله وحركة أمل على غرار ذلك الدائر بين الاطار التنسيقي والتيار الصدري في العراق. غير أن لبنان بات يحتاج إلى جدل من هذا النوع، ذلك أن نهايات هذا السجال، كما نهاياته في العراق، ستحدد مسار ومصير لبنان ووجهة هويته وبوصلة توجهاته.

وما يقلق حزب الله هو أن مكانة إيران في العراق بدأت تُظهر تآكلا سواء في ظاهرة “تشرين” الخطيرة منذ ثلاث سنوات أو في ظاهرة مقتدى الصدر القديمة-الجديدة العصية على مقاربات إسماعيل قآني وقبله قاسم سليماني.

وإذا ما كان النقاش يجري  داخل “البيت الشيعي” في العراق حول الدولة وإدانة السلاح غير الشرعي والخلاص من سطوة الميليشيات، وإذا ما كان السجال يدور بين الولاء للعراق والولاء لإيران والحرس الثوري والوليّ الفقيه، فإن تلك “الثيمات” حاضرة بقوة في السجال اللبناني، وأن حالة النزاع العراقي، التي قد تأخذ أشكالا دراماتيكية متصاعدة، ستفضي، في أي نتائج، إلى تداعيات في لبنان وداخل بيئة “الثنائي” وربما بين طرفيه.

ويمثل العراق بالنسبة للشيعة في لبنان “قبلة سياسية” ويعتبرونه جزءا من يومياتهم. الأمر ينسحب على الموالين لإيران والمتطلعين إلى مصير الجمهورية الإسلامية، وينسحب أيضا على الشيعة اللبنانيين المعارضين لطهران والمناوئين لحزبها في لبنان.

يجد ولائيو لبنان مشترك مصير ومسار مع ولائيي العراق الذين عبّرت “تسريبات” نوري المالكي عن أولوياتهم وهواجسهم وحاجتهم إلى موالاة إيران والحرس الثوري والولي الفقيه.

ويجد المعارضون الشيعة في لبنان مشتركاً آخر من مصير ومسار مع الاعتراض الشيعي في العراق، ذلك أن اهتزاز نموذج الولاية في العراق، سيجد لدى شيعة لبنان أصداء تطرح أسئلة بشأن الوجود والبقاء وتفرد الشيعية السياسية اللبنانية بنهج ينهار في العراق ولن يعود أبدا إلى سابق عهده.

صحيح أن الصراع الشيعي-الشيعي في العراق ينال من نفوذ إيران لكنه قد لا يهدد “وجودها” في العراق وإن حملت هتافات الصدريين أعراض استياء من طهران. وإذا ما كانت “المعركة تدور بين “نوري” و “مقتدى”، فإن طهران تمتلك من الأوراق ما قد يمكّنها من التعامل مع أي وضع جديد حتى لو بشّر الصدر بدولة تحتكر السلاح وتوالي العراق وحده. وإذ لا يقلق حزب الله من مستقبل نفوذ إيران في العراق، غير أن غلبة المنهج الصدري تهدد بنيويا منهج الحزب الذي لا يقوم إلا على فكرة الدويلة وسلاحها العتيد.

يبقى أن اهتزازات العراق ليست سهلة ولا يمكن إلا أن تكون موجعة تحمل مزيدا من الانقسام في البلاد. لكن البلد لن يعود إلى الوراء وفتح الباب أمام صراع جديد من أجل دفن مرحلة 2003 والولوج إلى مرحلة أخرى سيكون لها تداعيات مباشرة على العراق والعراقيين طبعا، لكن توازنات المنطقة كلها ستتغير وفق ما سيتغير في بغداد.

الصدر خارج “العملية” يخيف أكثر من هم داخلها. ويهم “الإطار” ومن خلفه طهران أن يكون الصدر شريكا “مدجَّناً” يراعي مصالح إيران. فخروج الصدر من المشهد البرلماني يشي بالعودة إلى مشهد آخر خارج عملية سياسية لم يحبها الصدر ولم يأنس لدهاليزها. والمسألة قد تعني العودة للشارع بمعناه الواسع المتعدد الأجيال العابر للتقسيمات البليدة، وقد تعني أيضا أن انهيار “العملية” يؤشر إلى انهيار السياسة برمتها وانتهاج خيارات بديلة.

السجال داخل البيت الشيعي بدأ منذ انفجار ثورة تشرين عام 2019، من حيث أن هذا الحراكَ كان شيعيا قي أغلبه يعبّرُ عن غضبِ المجتمع الشيعي مما وصل إليه حال العراق الذي تهيمن الشيعيةُ السياسية على حكمه منذ سقوط النظام السابف عام 2033.

وحتى لو كان الجدلُ عراقياً داخلياً، إلا أنه يكشفُ عن خلاف شيعي عميق في مقاربة العلاقة مع إيران، بين من يدعو إلى الولاء لطهران والحرس الثوري والولي الفقيه، ومن يسعى لإقامةِ دولة مستقلة لا تعادي طهران لكنها لا تكون تابعة لأجنداتها.

في قلب الجدل داخل “البيت الشيعي” يمسّ النقاش دور ووظيفة إيران. تسريبات زعيم حزب الدعوة نوري المالكي تكشف عن دعوة لمزيد من ولاء الشيعة لإيران وتحديدا للحرس الثوري هناك. فيما مناصرو الصدر يهتفون داخل المنطقة الخضراء “إيران برا برا”، تماما كما هتف الشيعة التشرينيون قبل سنوات. والحال أن “الجدل الشيعي” بات مطلوبا لمعالجة أزمة الحكم وعلّة النظام في العراق.

ديمومة نفوذ إيران في العراق يحتاج إلى بقاء شعور شيعة العراق بالخوف. وعلى الرغم من اندثار حكم البعث منذ عقدين وهيمنة الشيعية السياسية وحلفاؤها على الدولة ومؤسساتها، فإن التسريبات التي نسبت للمالكي تكشف مدى الاستمرار في تسويق الخوف للشيعة من بعث عائد، وجعل خلاصهم الوحيد هو الولاء والولائية بصفتهما خيارا وجودياً فقهيا، يكاد يكون “حسينيا”، للالتصاق بإيران وحرسّها ووليّها الفقيه.

لا جدل داخل “البيت الشيعي” السياسي اللبناني الذي يمثله تحالف حزب الله وحركة أمل على غرار ذلك الدائر بين الاطار التنسيقي والتيار الصدري في العراق. غير أن لبنان بات يحتاج إلى جدل من هذا النوع، ذلك أن نهايات هذا السجال، كما نهاياته في العراق، ستحدد مسار ومصير لبنان ووجهة هويته وبوصلة توجهاته.

العدد 131 / اب 2022