المُترجمة والشاعرة العراقيّة مريم العطار: المرأة التي تكتب هي مشتبه بها دائمًا

نسرين الرجب- لبنان 

بديعة الخواطر، وذوّاقة في اختيار ترجماتها، نشأت في إيران وعادت في عشرينيّاتها إلى بلدها الأمّ العراق، درست الأدب واللغة الفارسيّة وعملت على اكتساب اللغة العربية ووثّقت حبّها للأدب الفارسيّ من خلال الكثير من الترجمات التي أغنت المكتبة العربيّة، منها: أنطولوجيا الشعر الفارسي الحديث، الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة الإيرانيّة فروغ فرخ زاد، أفلاطون قرب المدفأة

مريم العطار

(مختارات شعرية من الشاعر الإيراني حسين بناهي)، ( مرة أخرى المدينة التي أحب) ترجمة من رواية قصيرة للكاتب نادر أبراهيمي وغيرها، إضافة إلى ترجمة أنطولوجيا الشعر الأفغاني الحديث. ولديها قيد الطبع الأعمال الشعريّة الكاملة لـلشاعر الإيرانيّ أحمد شاملو بجزئين، عن دار تكوين الكويتية ودار الرافدين. 

كتبت الشعر الحرّ وبدأت بنشر قصائدها الخاصة في الصحف والمجلّات العربيّة منذ العام 2009، أصدرت ديوان ” وأد” 2013، وقد كُرمت عنه بجائزة العنقاء الذهبية العربيّة، وديوان “شتائم مجانية” 2016، وديوان “أكلوا رمانة كتفيها” لم يُنشر بعد. تواصلت معها الحصاد وكان حوار عن تجربتها في الشعر والترجمة. 

بين لغتين وأدبين 

في حديثٍ عن علاقتها مع اللغتين العربيّة والفارسيّة، تقول أنها في البداية واجهت صعوبة في تعلّم اللغة العربيّة كون تعليمها وقراءتها كان فارسيًّا: “بدت الأشياء والكلمات مشفّرة بالنسبة لي، لكن فيما بعد أصبح الأمر أشبه بالتحدي، لذا عملتُ على فكّ شفرتها ورموزها، غذّيتُ ملكتي في القراءة المكثّفة، ومطالعة الكثير من القواميس، كان عليَّ أن ألملم شتات لغتي وكما يقول جان كوكتو، في قول مقتضب وسديد: إنّ قاموسًا بسيطًا يكفي لاحتواء مكتبة كونية، لأنّ كلّ تحفةٍ أدبية ليست سوى قاموس في حالة فوضى”. كتبت الشعر باللغة العربيّة حصرًا، لأنها لم تشعر بالانتماء لغيرها كما تقول. 

الترجمة التقاء ثقافات 

بدأ مشوارها في عالم الترجمة من خلال تجميع نصوص مختارة، وفق ذائقتها الشعريّة، لشعراء إيرانيين شباب، “حاولتُ بكل ما أستطيعه من حرصٍ وأمانة أن أنقل هذه النّصوص إلى اللغة العربية، فخرج أنطولوجيا الشعر الفارسيّ الحديث، على شكل مختارات موجزة، أعدّ هذه البداية هي أشبه بالتمرين في الترجمة”. ترى العطّار أنّ النّص عندما يُترجم يصبح مُلكًا للغة المترجَم إليها، يخضع لقواعدها، وثقافتها حتى يكون مرنًا وقابلًا للقراءة والفهم (مع الحفاظ على روح النص الأصلي)”، وذلك برأيها يعتمد على ثقافة المُترجم وطبيعته. 

إلّا أنّ عملية الترجمة هي عمليّة تفاعليّة بين ذاتيْن وتجربتيْن لكل عنصر فيها ثقافته ومنطلقه الخاص، وهنا يبدو الفصل بين الذات والموضوع عملية معقّدة، وعن تجربتها توضح؛ أنّ عمليّة الترجمة تتطلب فصل الذات عن الموضوع، بحيث يكون النقل أمينًا وليس حرفيًّا، وتضيف: ” أعتقدُ حتى تكون مترجمًا جيدًا ينبغي أن تكون موضوعيًا بالنصوص التي سبق وأن قبلت لنفسك تعريبها، وأنا في كلّ النصوص التي ترجمتها، كنتُ أفصل بيني وبين ما أتعاطى معه أعني (النصوص)”. وتشير: ” ثمّة أمر هام في كلّ عملية ترجمة، لا بدّ من التعمّق في معرفة روح الكاتب وعوالمه ومعرفة حياته ومناخ نصوصه، حتى تكون العملية سهلة، غير ذلك فإن النص المراد ترجمته لا يكشف لك عن نفسه بسهولة.” 

وعن عوائق الترجمة، ترى العطّار أنه على المترجم أن يتجاوز كلّ خلاف سياسيّ قد يقف عائقًا أمام استقبال أدب وثقافة شعب، وتؤكد: “لا بدّ أن نقرأ الأدب كأدب، بعيدًا عن كلّ الحمولات الأيدولوجية التي تقف عائقًا بيننا وبين فهم النّص والاستمتاع به. أتصور، أن الشعراء في كلّ العالم، هم أصحاب رسالة واحدة، وعلى قرائهم أيضًا، أن يسمحوا لأنفسهم بعيدًا عن التعصب أن يلاحظوا هذه الرسالة.” 

لم تقتصر ترجماتها عن الفارسيّة، فترجمت عن الأفغانيّة، ووصّفت هذه التجربة:  “تجربتي مع الشعر الأفغاني أعدها فريدة من نوعها، لقد راق لي جدًا أن أعرّف القارئ العربي بالنصوص التي يكتبها شعراء أفغان، علاقتهم بالأرض، تشبثهم بالحياة، إظهار القبح ومحاربته بالشعر، رغم كلّ المآسي والحروب التي مروا بها فهم يكتبون. الشعر في أفغانستان مسجون، وهؤلاء الشبّان يناضلون لأجل حرّيته وخروجه من سجنه، لهذا أنا معجبة بشعرهم.. من الشعراء الذين استوقفتني تجربتهم، الياس علوي، مجيب مهر داد، باران سجادي”. 

الشاعر خالق، وعلى نصّه أن يكون ملازمًا للحقيقة..” 

كتبت الشعر باللغة العربيّة إلا أنّ في أسلوب نصوصها أثرٌ من قراءاتها عن الفارسيّة، فتذكر:  ” كلّ أدب نقرأه بصرف النّظر لأيِّ لغةٍ ينتمي هذا الأدب، سيترك أثره علينا، الشعر الفارسي المعاصر بالتحديد علّمني أن لا أقيّد نفسي بقالبٍ شعريٍّ محدّد، أحببتُ نزعة التصوف العالية لدى الكثير من الشعراء الإيرانيين القدامى”.  

وفي حديث عن موسيقى الشعر، ترى الشاعرة مريم العطّار أنّ: ” فكرة الوزن فكرة قديمة، وبالية، كانت تفي لحاشية الملوك لغرض سهولة إلقائها وحفظها عن ظهر قلب”. لذا فهي تكتب الشعر المتحرر من قواعد الوزن والتفعيلة، وتجد أنّ النّص الحديث ” صار مرنًا وقادرًا أن يتكئ على بقية الأصناف الأدبية مثل القصة القصيرة والرواية والمسرح، هذه الأجناس تتداخل فيما بينها وفي بعض الأحيان نرى أنّ رواية قد تحوّلت إلى قصيدة طويلة باسم آخر، أو قصيدة طويلة تحولت إلى قصة قصيرة لكن بأدوات شعرية لا قصصية.”  

تتميّز نصوصها بحُسن الإخراج، فهي تدخل النص بفكرة وتظل تمسك بها حتى تخرج من نصّها بقفلةٍ ملائمة، تقول: ” في كتابة كلّ نص، يبدأ كلّ شيء بفكرة ملهمة، أشبه بالقدحة، وظيفة الشاعر هي أن يمسك بهذه الفكرة ومن خلال اللغة والكلمات، ومن ثمّ تبدأ عملية التشذيب، الشاعر خالق، وعلى نصّه أن يكون ملازمًا للحقيقة، قفلة النص بعد هذه العمليات، لها ارتباط مباشر بما أبتدأت به، هي في النهاية أشبه بالاستنتاج الأخير”. 

موضوعاتها الشعرية.. 

تشرّبت الشجن العراقي فكانت ” صديقة للحزن العقيم/ ولن أخون عشرتي معه/ لأتبادل القبل مع الفرح…”، لمست الظلم في أخبار وطنها، فقالت: “هو صمت أمام شاشة التلفاز يبث أحوال مدينة تغصّ بالألم/ هو أن تُسلب بكارة أفكارك..”، ورأته في أحلام الشباب المهدورة “الظلم هو أن يموت حلمك في صباه/ ولا أحدٌ يكترث”،  وثّقت سياسة التفقير تحت شعارات أمميّة وأن يكون الوطن مترعًا للصوص وللدُول المستعمِرة ” كان الوطن مساحة احتلها الجراد/ كان الجراد  يلوك كذبة انتمائنا/ برأسي/ بقلبي/  بطريق المدرسة/ بمساعدات الأمم المتحدة/ بسهمي في البطاقة التموينية/ برقم البطاقة في الجنسيتين/ بدفاتر مذكراتي/ بالبيت الذي أحلم به/ ولا يوجد على أيّة رقعة..”، وفي البحث عن منقذ، شيّعته في جنازة : ” من يدري؟/ لعلّه أتى/ كنا نيامًا، نضعُ في الحلم حنطةً حمراءَ بأفواهنا/ من يدري؟/ ربما ضاع!/ بين ضربات قلوب الجياع/ من يدري؟/ ربما كانَ بيننا/ حينَ رفعنا على أكتافِنا جنازتَه الفارغةَ!” 

 عن نبرة الحزن في كتاباتها تقول: “هو حزنٌ إنساني، وليست أحزاني الشخصية، هو حزن البشرية جمعاء يعبّر عن نفسه من خلال نصوصي التي أكتبها، مصير الإنسان المجهول، الحروب ومخلفاتها، هجرة الإنسان القسرية، النهايات الحزينة والفرص الضائعة للشباب. هذا ما يشغلني وهذا ما أريد أن أكتب عنه باستمرار”. 

لا يخضع الشعر برأيها للتصنيف بين ذكوريّ ونسوي، وتوضّح: “الشعر هو الشعر، بصرف النظر عن قائله، كما أظن أن نبرة المرأة حاضرة في نصوصي كوني امرأة بكل بساطة”، تخطت العطّار في شعرها مرحلة المرأة والجسد، فهي ترى أن الشعر الحديث ” يخاطب الإنسان ككل، ككيان واحد، مزيج بين المرأة والرجل، أما عن سلطة الجسد، البعض يفسرون أن الكتابة عن الجسد ناجمة من عقدة الجسد، أنا لا أرى الموضوع هكذا، بل أراه هو تصالحًا مع الذات، أن تكتب المرأة عن جسدها – جسد المرأة ملكها وليس أداة لإغواء الذكر أو وسيلة لتلبية حاجاته”. 

 انطلاقًا من عملها كناشطة مدنيّة، استحوذت قضايا النساء على جلّ موضوعات قصائدها، تضامنت مع أوجاعهنّ: “لا أحد يكترث لأوجاع الإناث/ هناك ركن في صدورهن يحمل نصف رجل/ وضحكة مطوّلة تشبه النشيج..”، وعايشت مختلف شجونهنّ: ” قبيلة من النساء تحت جلدي/ تكتب الشعر وتكشف الضوء والصدق/ خارج نطاق صدري قبيلة من الرجال/ ترتعش يداي.. وقلمي لن يسقط/ الموت بحرية فوق الدفاتر والأقلام/ موت عذب/ تشتهيه تلك القبيلة التي تحت جلدي”. تابعت معاناة المرأة المنقوصة الحقوق في مجتمع ذكوريّ: “أنا فقط بصمت بالعشرة/ على خطايا لم أرتكبها”. انتقدت في شعرها حبل القيم: “أحلم بشارب بلاستيكي/ أعلق عباءتي فوق حبال القيم…” وفي الحب تحدّثت عن أوجاعه: “حينما يعتصرني الشوق/ يموت عصفور/ على شرفة نافذتي/ أركض مسرعة لدفنه..”،  ولامست خيباته: ” كلّ من أحبني/ وهبني فرحةً مزيّفة/ ابتسمتُ وكتبتُ عنها/ حتى سكنني الحزن..”. 

 ترى العطّار أنّ: ” المرأة التي تكتب هي متهمة بذنب ربما لم تقترفه قط، وتوضح: “المرأة التي تكتب هي مشتبه بها دائما، هي ليست فوق الشبهات، بل تحتها تمامًا، تصارع لأجل أثبات براءتها، إنها وبعبارة أدق مريم عذراء أخرى— الصراع الإنساني القائم منذ الأزل، بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والسلطة، بين الخطيئة والمغفرة، بين الفردية والكليّة، هذه هي الموضوعات التي تحركني دائما لنقل تجربة فردية إلى العامة ولا ضمانات في البراءة لذلك”. 

تأخذك ترجمات العطّار إلى عوالم فريدة، وتفتح أمامك أفق الالتقاء مع الثقافات المتنوّعة، حيث الأدب للجميع، تتماهى ذاتها الشاعرة مع  الموسيقى الفارسيّة في بعدها الروحي ومع الشجن العراقي في حنوّ الصوت، تُحاكي قضايا المرأة والإنسان في كينونته الباحثة عن خلاص، وكروح عالية تتأمل في أحزان القلب وتُقلب وجهها تحت سماء المعنى، لا شيء يوهن حرفها، وعزمها في صقل ألفاظها بادٍ ومتين -ولو أنها استخدمت في مرات عديدة ألفاظًا ليست تامة الفصاحة-، لا تمتطي الحسّ برهان تحرُر بل تتصاعد في قدسية الخلق فتورق أجنحتها بساتين شعر وخواطر ممتدة من القلب للقلب..   

مقطع شعريّ من ديوان ” أكلوا رمان كتفيها” وهو قيد النشر: 

“أنا في ساعةِ الصفر. 

أهرولُ كلَّ مرةٍ في مكاني، أبدأ يومي بتفاؤلٍ ساذجٍ أرجعُ في نهايةِ الليلِ كمحاربٍ مهزومٍ، أقفُ وراءَ النافذةِ بعيدةً عن النومِ الهادئ، أشعرُ أنَّ العالمَ وراءَ النوافذِ يقتنصني. 

لا أحدَ يعرفُ ما يجري لي، غيرَ الطبيعةِ الصامتةِ تلكَ الأمُّ التي تدفنُ الشرَّ والخيرَ في بطنِها، 

شريطُ كاميرتِها فاقدٌ للذاكرة 

لكنني شاهدةٌ على ما يحصلُ.. 

–  من يصرخُ تحتَ التعذيبِ الآن، دخلَ الغرفةَ المظلمةَ بعلبةِ ألوانٍ خشبيةٍ 

–  من يقفُ وراءَ المنصاتِ تمَّ تدريبهُ كي يكذبَ. 

–  القاتلُ الملثمُ ابنُ عائلةٍ كبيرةٍ. ..”