النصوص والممارسات النقديّة

بيروت من ليندا نصار

لا مراء في أنّ معظم المقالات النقديّة الصحافيّة تكون في أغلبها واقعة تحت تأثير النقد الانطباعيّ بوصفه ممارسة نقديّة تخضع للميول الذاتيّة، ووقع النصوص الأدبيّة على انفعالات الأحاسيس الوجدانيّة، فكلّ قارئ يلج النصّ لا مناص له من إخضاع النصّ المقروء إلى تجربته في الحياة والقراءة والذائقة الإبداعيّة. وقد عملت نظريّة “التلقّي والتأويل” على إثبات هذا المعطى، لدرجة أنّها أقرّت بأنّ المعنى لا يوجد في النصّ أو في قصديّة الكاتب بل لدى المتلقّي الذي يهب للنصّ سيرورة لا متناهية من المعاني، وهذا إن دلّ على أمر، إنّما يدلّ على أنّ المعنى لدى المتلقّي لا مفرّ له من أن يخضع للانطباعيّة والذاتيّة بما هي تجربة في الحياة والقراءة. ويواكب هذا الطرح ما تذهب إليه النظريّات الحديثة في التلقّي التي ترى ” بأنّ القراءة الوحيدة الجدّيّة للنصوص هي قراءة خاطئة، والوجود الوحيد للنصوص يكمن في سلسلة الأجوبة التي تثيرها. فالنصّ، كما يشير إلى ذلك تودوروف، هو “نزهة يقوم فيها المؤلّف بوضع الكلمات ليأتي القرّاء بالمعنى… إلّا أنّ الكلمات التي يأتي بها المؤلّف تشكّل ترسانة ثقيلة من المعطيات المادّيّة التي لا يمكن للقارئ أن يتجاهلها. والظاهر أنّ عمليّة تحصيل المعنى وقراءة النصوص، باتت في ظلّ نظريّات التلقّي تشكّل “أكثر من لغة” على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي التفكيكيّ جاك ديريدا؛ لأنّها ممارسة تتّصل بالذوات أكثر ما ترتبط بالمعايير والخطوات الصارمة.

إثر قراءتنا بعض المقالات التي انصرفت إلى دراسة الأعمال الأدبيّة ونقدها، بنوعيها السرديّة والشعرية، نلاحظ مجموعة من الخصائص الأوّلية، التي تتنوّع بين الاختيارات الأسلوبيّة، وحضور المرجعيّات المتنوّعة، وتغيير الطرق المنهجيّة أحيانًا، ما يجعل الممارسات النقديّة الصحافيّة، تعمل على المزج بين كلّ هذه الخصائص التي منها من يظهر بوضوح، ومنها من ينضمر خلف المتن ويتوارى في صورة مرجعيّة توجّهه رؤى نقديّة. ومن هذه الخصائص، أنه عندما يتطرّق ناقد ما إلى دراسة النصوص الشعرية يعمد إلى استدراج النقد الانطباعي بما هو نقد ذاتيّ غير موضوعيّ؛ لأنه يبنى على العاطفة والتأثّر بما يخلّف الإبداع في نفسيّة المتلقّي الذي يقرأ الأدب من خلال تجربته في الحياة، والقراءة. وكانت هذه الطريقة هي التي شيّد عبرها بعض النقاد متّبعين اللّغة الإبداعيّة في بلورة الحكم النقديّ من جهة، والإسقاطات الإيديولوجيّة من جهة أخرى أحيانًا على سبيل الحصر؛ إذ نجدهم يعيدون ويكرّرون حمولات إيديولوجيّة في أكثر من مقال وبالطريقة نفسها. من بين ما يلاحظ أيضًا أنّ  منهم من يميل في دراسته الشعر إلى استخدام المنهج الاجتماعيّ بشكل ضئيل، معتمدًا على تجربته الخاصّة، عندما يحاول بطريقة أو بأخرى تسويق الأثر الأدبيّ الشعريّ نحو خلاصه الاجتماعيّ، المتجلّي في ربط العلاقات بين المجتمع والأدب، وذاتيّة الأديب.

وإذا مررنا على بعض  الممارسات النقديّة الصحافيّة اليوم التي انبرت إلى دراسة الأعمال السرديّة المتمثّلة في جنس الرواية مثلًا، فإننا نجد انتهاجًا واستنادًا إلى مقاربات أخرى تتلاقى مع مقاربة الأعمال الشعريّة، وذلك حين يتوجّه الناقد إلى اعتماد آليّات المناهج التي تخوّل معرفة العمل السردي معرفةً عميقة على مستوييْ المبنى والمعنى. فإننا نلامس أحيانًا مكامن العلميّة التي تصدر الحكم الموضوعيّ المؤسّس على معايير نقديّة مستخلصة من نظريّات السرد بعلميّة وإبداعيّة عاليتين. وهناك محاولات للتوجّه نحو مكوّن أو مكوّنين، ثم العمل على رصدهما داخل الرواية والإلمام بهما من أوجههما المختلفة مع الإشارة إلى باقي المكوّنات ولو إشارة بسيطة تفي بتوجيه القارئ وإزالة أيّ لبس من شأنه أن يستبدّ بعملية الفهم. كذلك يلجأ البعض إلى المعطيات الثابتة في اختياراته، كمن يهتمّ  بشكل كبير بالرواية التاريخيّة بوصفها متنًا يمازج بين المعرفة والأدب؛ ذلك أنّ الرواية التاريخيّة تسنح للمتلقّي بأن يتلقّى تاريخًا خاليًا من السّلطة. إنّ معظم الاختيارات الجماليّة في النصوص، تلزم الكاتب /الناقد على القوّة الإجرائيّة للمنهج التاريخيّ الذي يوظّفه بين الفينة والأخرى، بغاية رصد السياقات الخارجية والداخلية للنصّ الروائيّ. كلّ هذه المعطيات النصّيّة تجعل من النقد الصحافيّ يتراوح بين منزلتَي النقد الانطباعي في نقد الشعر، والنقد العلميّ في قراءة الروايات.

    ارتبط مفهوم النقد في كثير من الأدبيات الغربية بوصفه نصًّا ثانيًا يُنتج من خلال النصّ الأصل؛ بمعنى أن النقد هو ” نوع متطفّل من أنواع التعبير الأدبي” حسب الناقد الأمريكي نوثروب فراي الذي يرى أنّ الممارسة النقدية في عمومها يجب أن تجسّد في إبداعيّتها “محاكاةً ثانية للقوّة الخلاقة…” ؛ ذلك أنها ” فنّ يقوم على فنّ وُجد قبله”. وتقودنا هذه الرؤى إلى وجوب استنبات نقد أدبي غير متكلّس بالمفاهيم عبر تبديع الممارسة والتطبيق النقديتين. وهو ما نلمسه في بعض التجارب النقدية التي حافظت على علمية المفاهيم عبر جعل النقد فنًّا غير جاف. وهنا البحث عن ملامح هذا التفنّن في نقد النصوص، وتقييمها تقييمًا لا يبعد المتلقّي بالقدر الذي يستدرجه إليه.

إثر قراءتنا نصوص نقدية من نوع آخر، نجد أنفسنا أمام نقد مُعزّز بأسئلة الإبداع الكونية، التي تُسائل هذه النصوص من زوايا ووجهات نظر مختلفة، وهي لا تعمد إلى اجترار الأحكام الجاهزة وإسقاطها على النصّ عنوة أو محاولة حشوها من دون مسوّغات علميّة وعمليّة. كذلك يعمل بعض النقاد على استخلاص وظائف الإبداع انطلاقًا من القضايا التي تتمحور حولها النصوص عبر استجلاء مواطن الأسئلة التي تستبطنها ، وذلك من خلال وضع اليد على المنطلقات التي تحكم الأعمال الإبداعية في معرفتها وإدراكها الأنساق الوظيفة التي تحملها رسالة الأدب إلى المجتمع، والثقافة، والحضارة، مساهمةً في  جعل الكتابة “هروبًا من  عالم مليء بالألم  إلى واقع آخر يصنعه فرح العيش بعيدًا في الظلّ حيث تشعّ الكتابة.

يمكننا التطرّق أيضًا إلى نقد من نوع آخر، إذ تتّسم  الكتابات النقدية الصحافيّة في تجارب النقاد الأكاديميين بالرصانة العلميّة التي تخوّلهم أن يترجم نقدهم الأدبيّ بذائقة لغويّة بديعة؛ من حيث الاستخدامات التداولية، التي كانت توفّر للمتلقي بذل الجهد الكبير والمتعب من أجل تحصيل مدلولات العناوين على سبيل المثال بوصفها أوّل ما يعترض القارئ في عتبات التلقّي، فالعنوان هو الذي يفتح شهوة القراءة كما يقول روان بارت، فالوضوح الشفّاف على مستوى الاختيارات اللّغويّة الصائبة يجعل من بعض القراءات النقديّة تكون موفّقة إلى حدّ كبير، لما يبغيه الناقد  في توضيح معانيه من مطمح الوصول وعدم إكراه المتلقّي في الكتابات النقدية، كتلك التي تفرط في إظهار عتاده النظريّ الجاف بقدر يغيّب الجماليات النقدية التي دعت “نوثروب فراي” و”علي حرب ” إلى تصنيف النقد ضمن الممارسات الإبداعيّة الفنّيّة. يتفنن الناقد على مستويين هما: مستوى  الوعي بالركام النظريّ النقديّ، والتقيّد بمنهج مصفّف للأفكار، ومنظّم للقراءة، ذلك أنّ هدف النقاد ملاءمة عناوين مقالاتهم مع مضامين هذه المقالات والتناغم معها، ما يؤثّر إيجابًا على عمليّة التلقّي التي تحقّق أهداف المتلقّي الذي لا يمكنه الاطّلاع على المقال أو الانشداد إليه إلا عبر بوابة عتبة العنوان. وأخيرًا، إحداث تآلف بين هذه المكوّنات على مستوى بلورة المقال كاملًا، ما يجعل من عمليّة التلقّي تمرّ في أجواء تشويقيّة وانسيابيّة بعيدة من التكلّف، الذي يعتري عددًا كبيرًا من مقالات النقد الصحافي في العالم العربيّ.

العدد 122 / تشرين الثاني 2021